تُظهِر موجة التصعيد الأخيرة في لبنان أنها ليست وليدة المصادفة، بل امتداد واضح لنمط أوسع من التصعيد. فالضربات الأمريكية على الحوثيين في اليمن سرعان ما أعقبها انهيار وقف إطلاق النار في غزة، والآن– كما كان متوقعًا– جاء إطلاق الصواريخ من لبنان ليمنح إسرائيل مبررًا لمزيد من التصعيد. وهذا يشير بقوة إلى أن إسرائيل تمهّد لصراع إقليمي أوسع نطاقًا.

 

هذا التصعيد لا ينبع فقط من تحوّلات الساحة الدولية، بل يتغذّى كذلك من التطورات السياسية الداخلية في إسرائيل. فحكومة بنيامين نتنياهو- التي تعاني ضغوطًا متزايدة من أطياف اليمين المتطرف- تدفع بشكل واضح نحو توسيع العمليات العسكرية. ولم يكن تعيين إيتمار بن غفير مجددًا وزيرًا للأمن القومي قرارًا عاديًا، بل مؤشرًا واضحًا على أن إسرائيل تتهيأ لصراع طويل الأمد. وتُظهِر وتيرة التطورات المتلاحقة أن المنطقة تقترب من الدخول في دورة جديدة من الحرب، ما لم يتحقق اختراق دبلوماسي كبير.

ديناميكيات جديدة

عادت التوترات بين إسرائيل ولبنان إلى الواجهة، مهددةً هدنة هشة بالكاد صمدت. فخلال الأيام القليلة الماضية، أُطلقت صواريخ من الأراضي اللبنانية باتجاه إسرائيل، في أول حادث من نوعه منذ بدء اتفاق وقف إطلاق النار. وردّت إسرائيل بتصعيد نبرتها، متوعدة برد عنيف، ما أثار المزيد من الشكوك حول مستقبل الهدنة. لكن هذا الحدث لم يكن استثناءً، فمنذ لحظة سريان الهدنة، لم تتوقف إسرائيل عن تنفيذ غارات جوية شبه يومية على ما تعتبره مواقع عسكرية تابعة لـ”حزب الله”، مدعية أن وجود الحزب واستعداده للتسلُّح يبرران تلك الهجمات. وفي الوقت نفسه، تُبقي إسرائيل على وجود عسكري في خمسة مواقع في جنوب لبنان، وهو ما تعتبره بيروت انتهاكًا مباشرًا لسيادتها، وخرقًا لبنود اتفاق وقف إطلاق النار الذي نصّ صراحة على انسحاب إسرائيلي كامل. وبينما تزعم تل أبيب أن وجودها “دفاعي”، فقد أسهم ذلك في إبقاء التوتر مشتعلًا، وعزّز من التوقعات بأن إسرائيل قد تعود إلى خيار الحرب في أي لحظة.

 

كان الاتفاق الأصلي لوقف إطلاق النار- والذي صُمم ليستمر 60 يومًا- يهدف إلى خلق مساحة من الهدوء تمهيدًا لمفاوضات تُفضي إلى هدنة أطول أمدًا. وبموجب هذا الاتفاق، كان من المفترض أن تنسحب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان، في مقابل تعهّد “حزب الله” بإعادة تموضع مقاتليه وترسانته شمال نهر الليطاني، بما يسمح للجيش اللبناني بالانتشار وتأمين المنطقة. لكن الواقع خالف النص. فبدلًا من الانسحاب الكامل، أبقت إسرائيل على قواتها داخل الأراضي اللبنانية، واصفة وجودها بأنه “انتشار مؤقت”؛ وهو ما لا تراه بيروت إلا نوعًا من الاحتلال، يهدد بنسف الهدنة من أساسها. ومع تزايد الفوضى في الجنوب، بدأت إسرائيل تبرر بقاءها العسكري وتصعّد خطابها بشأن “الحاجة للتدخل”، بحجة أن الأوضاع باتت خارج السيطرة.

 

يتزامن هذا التصعيد مع تغيّرات سياسية جذرية في إسرائيل والولايات المتحدة. ففي وقتٍ انشغلت فيه واشنطن بتحولات الساحة الأوروبية، وعلى رأسها الحرب في أوكرانيا، تراجع ضغطها التقليدي على الشرق الأوسط. وخلال هذه المرحلة، أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انخراطه الدبلوماسي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مقلّلًا من شأن دعم الإدارة الأمريكية للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، خاصة خلال زيارة الأخير للبيت الأبيض التي قوبل فيها بجفاء واضح. وفي ظل هذا المناخ المتحوّل، يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حصل على ضوء أخضر لاستئناف العمليات العسكرية في الإقليم. وتكرّر بذلك نمط مألوف: حين تتحوّل أولويات الولايات المتحدة، تهدأ الأزمات مؤقتًا، لتشتعل مجددًا عندما يصبح التوقيت السياسي أكثر ملاءمة. والسياق الحالي- بكل مؤشراته- يُظهر أن العمليات الإسرائيلية الأخيرة في غزة واليمن ولبنان ليست عشوائية، بل تأتي ضمن مناخ إقليمي يشهد تغاضيًا أمريكيًا واضحًا.

 

بالنسبة لنتنياهو، فإن هذا التصعيد ليس مجرد رد فعل أمني، بل خطوة محسوبة تأتي في توقيت سياسي حساس. فمع تصاعد الضغوط من جانب الفصائل اليمينية المتطرفة التي تُطالب باستئناف الحرب، لجأ نتنياهو مؤقتًا إلى العمل العسكري في الضفة الغربية كوسيلة تهدئة. لكن مع تصاعد حالة الغليان داخل معسكر اليمين، اتجه إلى خيار التصعيد الأوسع نطاقًا. ولم يكن تعيين إيتمار بن غفير مجددًا وزيرًا للأمن القومي قرارًا عاديًا، بل مؤشرًا على أن إسرائيل تتهيأ لصراع طويل الأمد. هذا التعيين- الذي تم رغم اعتراضات المستشار القانوني للحكومة- يعكس بشكل واضح استراتيجية نتنياهو في توظيف التصعيد العسكري لتعزيز موقعه السياسي الداخلي.

 

علاوة على ذلك، تتفاقم التحديات التي تُطوّق نتنياهو من الداخل. فهو لا يزال يواجه محاكمات فساد متواصلة، في وقت تتعاظم فيه حدة المعارضة لقيادته، وتُشكك شرائح متزايدة من الإسرائيليين في شرعيته السياسية. وقد كشفت تحركاته الأخيرة لإقصاء مسؤولين بارزين من مواقع حساسة– وفي مقدمتهم قراره المفاجئ بإنهاء ولاية رئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) رونين بار– عن محاولته الواضحة لإسكات الأصوات المعترضة داخل المؤسسة الحاكمة. ويبدو أن إشعال حرب على جبهات متعددة بات الورقة التي يراهن عليها نتنياهو لحشد التأييد القومي، وتوجيه الأنظار بعيدًا عن أزماته القانونية والسياسية المتفاقمة. فالتصعيد العسكري- بالنسبة له- لم يعد مجرد وسيلة للردع أو التفاوض، بل أداة داخلية لصياغة الشرعية من جديد.

 

وبناءً على ذلك، لا تزال صورة المستقبل ضبابية. فاستمرار وقف إطلاق النار يبدو أمرًا غير محسوم، في حين تزداد المؤشرات على أن المنطقة قد تكون على أعتاب حرب جديدة، طويلة وشاملة. وما هو واضح حتى الآن أن التصعيدات الأخيرة لا تعكس ردود أفعال عسكرية لحظية، بل تنبع من حسابات سياسية دقيقة، تُدار بعناية خلف الكواليس.

سلام هش

رغم تصاعد التوترات بين إسرائيل و”حزب الله”، إلا أن الوضع في لبنان يختلف كثيرًا عن غزة، ولا يُشير بالضرورة إلى اندلاع حرب شاملة في الأفق القريب. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن إسرائيل ستتجنب العمل العسكري في لبنان. فثمة معطيات جديدة تلوح في المشهد. يتمثل أحد أبرز هذه العوامل في تراجع قوة “حزب الله” في الآونة الأخيرة، وهو ما حدّ من قدرته على الانخراط في صراع طويل المدى. وقد تلقّى الحزب سلسلة من الضربات الموجعة، أبرزها اغتيال القائد حسن نصر الله، في عملية نُسبت إلى إسرائيل، وأثرت بشكل عميق في هيكليته القيادية واستراتيجياته المستقبلية. إلى جانب ذلك، فإن التغيرات الإقليمية لم تكن في صالح الحزب. فإيران- داعمه الرئيسي- تعاني من أزمات اقتصادية وسياسية خانقة، تُضعف قدرتها على تقديم دعم واسع النطاق. كما أن انهيار نظام بشار الأسد في سوريا– سواء أنه جاء من الداخل أو بفعل تدخل خارجي– يُهدد بنسف خطوط الإمداد التي يعتمد عليها “حزب الله” ويُقوّض عمقه الاستراتيجي في المنطقة. كل هذه التغييرات دفعت بعض المراقبين إلى الاعتقاد بأن إسرائيل قد تغتنم هذه اللحظة لإطلاق حملة عسكرية ضد الحزب، وإن كانت محسوبة بدقة، ودون الانجرار إلى حرب شاملة.

 

ثمة عامل آخر لا يمكن تجاهله هو غياب الدور الأوروبي الفعّال. فعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يُعد الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل، ما يمنحه نظريًا نفوذًا سياسيًا، إلا أن الواقع مختلف تمامًا. فالدعوات التي تُطالب بضغط أوروبي على إسرائيل- سواء من خلال العقوبات أو عبر أدوات دبلوماسية- اصطدمت بعقبة كبرى: الإجماع المطلوب داخل المجلس الأوروبي، المؤلف من 27 دولة، والذي يبدو شبه مستحيل في قضايا تتعلق بالشرق الأوسط. وفضلًا عن ذلك، تبدو بوصلة الاهتمام الأوروبي مصوّبة إلى اتجاهات أخرى، خاصة في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا، والانتقادات العلنية من ترامب لما أسماه “المتطفلين” داخل حلف شمال الأطلسي (ناتو). حتى أن الدول التي ترتبط بلبنان بعلاقات تاريخية وثيقة– مثل فرنسا– بدت مُنهكة ومشوشة، ما جعل فكرة التدخل الأوروبي الجاد في المشهد اللبناني شبه غائبة.

 

وربما الأهم من كل ذلك هو ما تكشفه هذه التطورات من دروس أكثر عمقًا. فموجات وقف إطلاق النار الأخيرة في الشرق الأوسط لم تكن أبدًا حلولًا دائمة. بل بدت- منذ لحظتها الأولى- كصفقات سياسية مؤقتة لا أكثر. لم تُبْنَ على رغبة صادقة في وقف القتال أو بدء مفاوضات جدية، بل تحركت تحت وطأة الحسابات السياسية، وفي مقدمتها طموحات ترامب الشخصية، الذي سعى إلى تقديم نفسه كزعيم قادر على إخماد الحروب، سواء في المنطقة أو خارجها. ولعل ذلك يفسر لماذا ضغطت إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن على نتنياهو للقبول بوقف إطلاق النار قبل أن يعود ترامب إلى الساحة، مدعيًا أنه وحده من يستطيع إعادة الاستقرار. لكن، وبعد أشهر قليلة فقط من عودة ترامب إلى المشهد، بدأ كل شيء يتغير. فقد أثبتت التجربة أن الهدنات التي تُبنى على تسويات متسرعة لا تصمد طويلًا. فطالما أن جذور الصراعات لم تُعالَج بعمق، فإن احتمال عودتها يبقى قائمًا في كل لحظة. وكلما رأى القادة فرصًا لتحقيق مكاسب سياسية من الحرب، فلن يترددوا في إشعالها من جديد.

 

ومع التطورات الأخيرة، تتزايد المؤشرات على أن المنطقة قد دخلت بالفعل مرحلة جديدة من الفوضى وعدم الاستقرار. ويبدو أن إسرائيل- مدعومة بالكامل من الولايات المتحدة- تسير بخطى واثقة نحو استئناف العمليات العسكرية وتوسيع رقعة الصراع إلى ما هو أبعد من حدوده الراهنة. فقد بدأ التصعيد بسلسلة من الضربات الجوية المشتركة بين واشنطن وتل أبيب ضد الحوثيين في اليمن، أعقبها تجدّد الاشتباكات في غزة، قبل أن ينتقل التركيز إلى لبنان. وتستمر الهجمات الإسرائيلية تحت ذريعة “ردع حزب الله”، رغم أن الحزب بات في موقف أضعف نتيجة الاغتيالات الأخيرة وتغيرات المشهد الإقليمي.

 

لكن التوسع لا يقف عند هذا الحد. فالعراق– الذي تمتع باستقرار نسبي في السنوات الأخيرة– بات يُطرح الآن في الخطاب الإسرائيلي كجبهة محتملة. وتتهم إسرائيل إيران بتسليح الميليشيات العراقية بصواريخ بعيدة المدى وطائرات مسيّرة مفخخة، ما يرفع من احتمال انجرار العراق إلى حرب إقليمية مفتوحة. أما سوريا- التي لم تلتقط أنفاسها بعد سنوات من الحرب الداخلية- فلا تزال أيضًا على طاولة السيناريوهات الإسرائيلية، كهدف محتمل في الصراع الآخذ بالاتساع. وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق جاد وفعّال، فإن هذه الحلقة المفرغة من العنف مرشحة للاستمرار والتصاعد، وقد تبتلع دولًا أخرى في نزاع إقليمي مفتوح لا تلوح نهايته في الأفق.

 

تساعد تعليقات باحثي مركز الحبتور للأبحاث على المواضيع الجارية إلى تقديم تعقيبات سريعة عبر استعراض وجهات النظر الشخصية، وآراء الخبراء دون تحمل عبء الاستشهادات. و يضمن هذا النهج المرونة والسرعة في مواكبة الموضوعات المطروحة سريعة التطور.

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *