كتب بواسطة

قبل بضعة أشهر فقط، كان حزب المحافظين في كندا على موعد مع تحقيق نصر تاريخي. فقد منحت استطلاعات الرأي زعيم المحافظين، بيير بويليفر، تقدمًا واسعًا بفارق 25 نقطة على الليبراليين بزعامة جاستن ترودو، الذين تراجعت شعبيتهم تراجعًا كبيرًا. وبعد ما يقرب من عقد من الحكم الليبرالي، اتّسم بارتفاع معدلات التضخم، وأزمة إسكان، وحالة من الإرهاق لدى الناخبين، كانت الانتخابات الفيدرالية لعام 2025 تتّجه لتكون بمثابة محاسبة قاسية لليبراليين. ثم طرأ متغيّر آخر اسمه دونالد ترامب.

 

جلبت عودة ترامب إلى البيت الأبيض حالةً جديدة من عدم القدرة على التنبؤ بالسياسة الخارجية الأمريكية. ففي تتابع متسارع، فرض الرئيس الأمريكي تعريفات جمركية على السلع الكندية، وطرح فكرة استفزازية تمثّلت في جعل كندا الولاية الحادية والخمسين، وهي فكرة دأب على تكرارها باستمرار. ورغم أن كثيرين اعتبروا تصريحاته مجرد تهويل، إلا أنها لامست وترًا حساسًا لدى الناخبين الكنديين. فلم تكن هذه التصريحات مجرد إهانات، بل تهديدات مباشرة لسيادة البلاد واقتصادها وهويتها الوطنية. ومع تصاعد حدة التوتر من جانب ترامب، تحوّل تركيز الانتخابات، بين عشية وضحاها، من الاستياء الداخلي إلى مسألة بقاء وطني، ما وحّد الكنديين في مواجهة عدو مشترك.

صعود مارك كارني

في تلك اللحظة الحرجة، برز مارك كارني. فزعيم الليبراليين المُعيّن حديثًا – وهو شخصية اقتصادية مرموقة شغل منصب محافظ بنك كندا، ثم محافظ بنك إنجلترا مؤخرًا، دون أي خبرة سياسية سابقة – أعاد صياغة الحملة الانتخابية بوصفها معركة من أجل مستقبل كندا على الساحة الدولية. واستنادًا إلى خلفيته كخبير مصرفي مركزي سابق وشخصية مالية عالمية، تعهّد كارني ليس فقط بتحقيق الاستقرار الاقتصادي، بل بالتصدي بحزم لأساليب ترامب العدوانية. وقد لاقت رسالته صدى واسعًا لدى الكنديين الذين باتوا أقل اهتمامًا بمعاقبة الليبراليين على أخطاء الماضي، وأكثر تركيزًا على اختيار من يمكنه الدفاع بكفاءة عن مصالح البلاد في ظل منطقة ومناخ دولي يزدادان اضطراباً ولا يمكن التنبؤ بهما.

سقوط بيير بويليفر

في المقابل، تمسّك المحافظون بخطاب بات باليًا بين ليلة وضحاها. فقد استمرت حملة بويليفر في التركيز على التذمرات المعتادة– مثل سجل ترودو، وضريبة الكربون، وتوسّع نفوذ الحكومة. لكن مع انسحاب ترودو من السباق عقب استقالته من منصبي رئيس الوزراء وزعيم الحزب، وإلغاء كارني لضريبة الكربون في أول يوم له، وجد المحافظون أنفسهم فجأة بدون أبرز أسلحتهم الهجومية، التي أنفقوا سنوات وملايين الدولارات في استخدامها ضد الليبراليين. والأسوأ من ذلك، أن بويليفر تأخر وتردد في الرد على استفزازات ترامب، ربما لأنه قبل هجمات ترامب على السيادة الكندية كان يُسوّق لنفسه باعتباره “ترامب كندا”. كما قراره بتفادي المواجهة المباشرة مع ترامب جعله يبدو غير مستعد في لحظة كانت تتطلب قيادة واضحة.

 

وجاءت التداعيات السياسية بسرعة. فقد التفّ الناخبون، الذين ربما كانوا سيصوّتون لصالح الحزب الديمقراطي الجديد أو الكتلة الكيبيكية، أو يمتنعون عن التصويت، حول كارني، معتبرين إيّاه وحزبه أكثر جدية في الدفاع عن استقلال كندا.

 

ورغم أن حملة الليبراليين حققت صعودًا كبيرًا وتجاوزت فجوة كانت تبدو مستحيلة، فإن المحافظين نجحوا في زيادة حصتهم من الأصوات وعدد المقاعد مقارنة بالانتخابات السابقة، لكنهم فشلوا في حسم النتائج في المناطق الحاسمة. وربما تمثّلت الضربة الرمزية الأشدّ في دائرة كارلتون، المعقل التقليدي لبويليفر ، حيث خسر مقعده لصالح مرشح ليبرالي جديد. وكانت تلك نتيجة صادمة أبرزت مدى التحوّل العميق، وتركت زعيم المحافظين بلا مقعد في البرلمان. وبالنسبة لحزبٍ كان على وشك تحقيق انتصار كاسح، فقد شكّلت هذه النتيجة هزيمة مفاجئة تنطوي على قدر كبير من التواضع السياسي.

"تأثير ترامب"

ما حدث في كندا قد يُجسّد ثغرة رئيسية تهدد الأحزاب المحافظة في ديمقراطيات أخرى: فعندما ينخرط الرئيس الأميركي دونالد ترامب في سلوك عدائي أو يثير زعزعة في الاستقرار، قد تنعكس تداعيات ذلك سلبًا على قادة يتقاطعون معه أيديولوجيًا في الخارج. وبدلاً من أن يستفيدوا من القيم المشتركة، قد يُعاقَب هؤلاء القادة من قبل الناخبين الذين يربطونهم بعدم الاستقرار أو الضعف في مواجهة الضغوط الخارجية—وهنا يتجلى ما يُعرف بـ”تأثير ترامب”.

 

فمن دون تدخّل ترامب، لكان من المرجّح أن يواجه الليبراليون الهزيمة – حتى في ظل قيادة كارني. غير أن الانتخابات تحوّلت إلى استفتاء، لا على حصيلة عقدٍ من الحُكم الداخلي، بل على مَن هو الأقدر على قيادة البلاد خلال أربع سنوات مقبلة من رئاسة أميركية تتسم بالتقلّب والعدوانية.

 

وعند النظر إلى المستقبل، ينبغي للأحزاب المحافظة حول العالم أن تأخذ العِبرة. فأن يُنظر إلى الحزب على أنه قريب جدًا من ترامب أو متساهل معه قد يُلهب حماسة أنصارها الأساسيين، لكنه أيضًا قد ينفّر القاعدة الأوسع من الناخبين. ففي عصر باتت فيه السياسات الداخلية عرضة للتأثّر بشخصيات دولية، قد لا يكون الابتعاد عن الحلفاء المثيرين للجدل مجرد خطوة استراتيجية، بل ضرورة من أجل البقاء السياسي. ومع اقتراب انطلاق الانتخابات في أستراليا في الثالث من مايو، سيكون من اللافت مراقبة ما إذا كان “تأثير ترامب” سيُكلّف ائتلاف الأحزاب الليبرالية/الوطنية فرصة تحقيق النصر.

 

تساعد تعليقات باحثي مركز الحبتور للأبحاث على المواضيع الجارية إلى تقديم تعقيبات سريعة عبر استعراض وجهات النظر الشخصية، وآراء الخبراء دون تحمل عبء الاستشهادات. و يضمن هذا النهج المرونة والسرعة في مواكبة الموضوعات المطروحة سريعة التطور.

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *