بدأت قبضة الرئيس دونالد ترامب المحكمة على الحزب الجمهوري تضعف، إذ كشفت الانقسامات الداخلية بشأن مشروع القانون الشامل المتعلق بخفض الضرائب والإنفاق، الذي يروّج له ترامب تحت مسمى "مشروع القانون الكبير والجميل"، عن بوادر تصدع حقيقي في وحدة الحزب. ويُعد هذا المشروع بمثابة تجسيد لطموحات ترامب الشعبوية، كما يُمثّل نقطة اشتعال لانقسامات أيديولوجية وجغرافية داخل الحزب قلّما تظهر إلى العلن.
يُعد مشروع ترامب “الكبير والجميل” حزمة تشريعية شاملة تجمع بين إصلاحات ضريبية كبرى، وتخفيضات واسعة في الإنفاق، وتطبيق صارم لقوانين الهجرة، وتحولات في سياسة الطاقة. ويمتد المشروع ليُعزز التخفيضات الضريبية التي أقرّها ترامب عام 2017، كما يتضمن إعفاءات ضريبية جديدة للعمال، ويزيد من سقف الخصومات بما في ذلك تعديل حد خصم الضرائب المحلية وعلى مستوى الولاية، بالإضافة إلى رفع الحد الأدنى لضريبة التركات.
ولتمويل هذه التخفيضات الضريبية، يقترح المشروع أكثر من تريليون دولار من الاقتطاعات من برامج الرعاية الصحية والمساعدات الغذائية، كما يفرض قيوداً على استفادة المهاجرين من برنامج “ميديكيد-Medicaid”، وينهي التمويل الحكومي لإجراءات التحول الجنسي للقاصرين. أما في ملف الهجرة، فيخصص المشروع مليارات الدولارات لبناء الجدار الحدودي وتعزيز عمليات الترحيل، ويقترح فرض ضريبة بنسبة 5% على التحويلات المالية الدولية التي يُجريها غير المواطنين.
وعلى صعيد الطاقة، يتضمن المشروع تقليصاً للدعم المخصص للطاقة الخضراء لصالح زيادة إنتاج الوقود الأحفوري، إلى جانب خطة لتحديث نظام مراقبة حركة الطيران. كما يرفع سقف الدين الفيدرالي بمقدار 3.8 تريليون دولار، وهو ما أثار انتقادات واسعة بسبب التأثير المتوقع على حجم الدين العام. وبينما يسعى المشروع إلى تجسيد الوعود الشعبوية والمحافظة التي تبناها ترامب، إلا أنه أثار جدلاً حاداً داخل الحزب الجمهوري نظراً لحجمه الكبير، ومستويات الإنفاق المتضمنة فيه، وأولوياته السياسية المثيرة للانقسام.
واجه ترامب هذه التحديات بأسلوبه المعروف، حيث باشر جهود ضغط مباشرة على أعضاء الكونجرس المترددين، واستضاف اجتماعات في البيت الأبيض، واستخدم منصاته على وسائل التواصل الاجتماعي لحث الكونجرس على التحرك العاجل، بل وهدّد بتأجيل عطلة الرابع من يوليو حتى يتم تمرير مشروع القانون. وامتثالاً لنهجه الحازم، أرجأت قيادة الحزب الجمهوري بعض فترات الاستراحة المُقررة، وعملت على التوصل إلى تسويات، من بينها إلغاء بند مثير للجدل كان يقضي ببيع مئات آلاف الأفدنة من الأراضي العامة الفيدرالية، وهو ما أثار حفيظة عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين من الولايات الغربية.
ومع ذلك، فإن الحاجة الملحة إلى هذا المستوى من الضغط السياسي، إلى جانب الهوامش الضيقة التي تم بها تمرير بعض الأصوات الرئيسية—مثل الموافقة على الإطار المالي في مجلس النواب بفارق صوتين فقط (217 مقابل 215)—تكشف عن هشاشة قبضة ترامب على الحزب الجمهوري. فقد اتّسمت العملية بمفاوضات اللحظة الأخيرة وحالة من عدم اليقين، حيث ظلّت نتائج التصويت معلّقة حتى اللحظات النهائية.
رغم محاولات الرئيس ترامب تقديم مشروع القانون كإنجاز موحِد يرسخ إرثه السياسي، فإن مسار تمريره كشف عن الانقسامات العميقة داخل الحزب الجمهوري، حيث لا يبدو أن أحداً من أعضاء الحزب راضٍ تماماً عن محتواه.
فالجناح المحافظ المتشدد، وخصوصاً أعضاء تجمع الحرية بمجلس النواب (House Freedom Caucus)، يُبدي تشككاً كبيراً إزاء مستويات الإنفاق الواردة في المشروع، ويعتبر أن الاقتطاعات المقترحة غير كافية، بل ويطالب بتخفيضات أوسع وأكثر جرأة. وفي حين يدعو مشروع مجلس الشيوخ إلى اقتطاعات لا تتجاوز 4 مليارات دولار، يُصرّ مجلس النواب على حد أدنى يبلغ 1.5 تريليون دولار من التخفيضات، وفق ما ورد في مخططه الأصلي. وقد سخر بعض النواب الجمهوريين من مقاربة مجلس الشيوخ، حيث وصفها النائب آندي أوجلز بأنها “مزحة”، متعهداً بالتصويت ضدها. وأدى ذلك إلى تصاعد التهديدات بالعصيان، مع وجود ما يُقدَّر بنحو 40 نائباً جمهورياً إمّا مترددين أو معارضين للمشروع بشكل صريح.
يرى المحافظون المعتدلون أن بند مشروع القانون المتعلق برفع سقف خصم الضرائب المحلية وعلى مستوى الولاية — والذي يستفيد منه بشكل غير متناسب السكان الأثرياء في الولايات ذات الضرائب المرتفعة والتي يغلب عليها الطابع الديمقراطي — قد تسبب في نشوب خلاف بين أعضاء مجلس الشيوخ من الولايات الجمهورية (الحمراء) وأعضاء مجلس النواب المعتدلين من الولايات الديمقراطية (الزرقاء).
ففي حين يسعى بعض أعضاء مجلس الشيوخ إلى تثبيت السقف عند مستوى منخفض بصورة دائمة، هدّد النواب المعتدلون في مجلس النواب بحجب تأييدهم للمشروع ما لم يتم رفع السقف، في إشارة إلى الانقسامات الجغرافية العميقة داخل الحزب الجمهوري.
وأخيراً، يواجه المشروع معارضة كبيرة بسبب عمق التخفيضات المقترحة في برامج الرعاية الصحية، وخصوصاً “ميديكيد”. فبعض الجمهوريين في مجلس الشيوخ يُبدون تحفظات على تقليص الخدمات المقدمة للفئات ذات الدخل المنخفض، بينما يُطالب المحافظون في مجلس النواب باقتطاعات أوسع للحد من العجز المالي. وعلى الرغم من اتفاق الجمهوريين في العادة على تقليص الإنفاق على الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي، فمن المرجح أن ينظر أعضاء مجلس الشيوخ إلى انتخابات التجديد النصفي لعام 2026 بحذر شديد.
وفي ظل تدني معدلات تأييد ترامب شعبياً، فإن تمرير قانون لا يحظر بتأييد شعبي كهذا—من شأنه أن يُقصي ملايين المواطنين من الخدمات الحيوية—قد يزيد من صعوبة إعادة انتخاب الجمهوريين، بل ويُهدد بفقدانهم السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ على حد سواء. وبغضّ النظر عمّا إذا كان مشروع القانون سيمرّ أم لا—ورغم أن احتمالات تمريره قائمة—فقد بات واضحاً أن سلطة ترامب داخل حزبه لم تعد مطلقة.
تُعدّ المقاومة الداخلية لمشروع قانون ترامب مؤشراً بالغ الأهمية لعدة أسباب. فعلى الرغم من أن تأييد ترامب لا يزال عاملاً حاسماً في الانتخابات التمهيدية الجمهورية، إلا أن قدرته على فرض الانضباط التشريعي تواجه اختباراً حقيقياً من قبل نواب يشعرون بأن لديهم مساحة لتحدّيه علناً، سواء بدافع المبدأ أو بدافع مصالح محلية. إن استعداد العشرات من المشرّعين الجمهوريين لإبداء معارضة صريحة—أو التهديد بالتصويت ضد المشروع—يمثل تحولاً نوعياً مقارنة بحالة الإجماع شبه الكامل التي حظي بها ترامب خلال معظم فترته الرئاسية الأولى.
كما أن الهوامش الضيقة التي يتمتع بها الجمهوريون في كلا المجلسين تُعقّد المشهد السياسي أكثر، وتُضخّم من تأثير الكتل الصغيرة والنواب المستقلين، مما يُصعّب على ترامب فرض رؤيته دون تقديم تنازلات كبيرة. وتفرض هذه الديناميكية واقعًا تفاوضيًا يُفضي إلى تسويات تُضعف من مضمون مشروع القانون، وتُعرّض ترامب لانتقادات من الجناحين اليميني والمعتدل داخل الحزب.
ويجسد الصراع الدائر حول مشروع قانون الإنفاق تساؤلات أوسع حول هوية الحزب الجمهوري في عصر ترامب. فلا يزال التوتر قائماً بين الوعود الشعبوية من جهة، والنزعة المالية المحافظة من جهة أخرى، وبين أولويات الولايات الجمهورية وضرورات الولايات الديمقراطية. وطريقة إدارة هذه الخلافات لن تُحدد إرث ترامب فحسب، بل سترسم أيضًا الاتجاه المستقبلي للحزب. وبينما لا تزال قبضة ترامب السياسية قوية، فإن حالات التمرّد العلنية والحاجة إلى التفاوض تُبرز بوضوح أن سيطرته لم تعد مطلقة. ومن المؤكد أن مآل هذه المعركة التشريعية لن يرسم ملامح السياسات الاقتصادية لترامب فحسب، بل سيُشكّل أيضاً مصير الحزب الجمهوري نفسه في السنوات المقبلة.
تساعد تعليقات باحثي مركز الحبتور للأبحاث على المواضيع الجارية إلى تقديم تعقيبات سريعة عبر استعراض وجهات النظر الشخصية، وآراء الخبراء دون تحمل عبء الاستشهادات. و يضمن هذا النهج المرونة والسرعة في مواكبة الموضوعات المطروحة سريعة التطور.
تعليقات