أصبحت أشباه الموصلات ساحةَ تنافسٍ إستراتيجي عالمي بين القوى الكبرى، لدرجةٍ يُطلق عليها البعض "النفط الجديد" نظرًا لأهميتها الاقتصادية والأمنية. فالرقائق الدقيقة تدخل في كل شيء، من الإلكترونيات الاستهلاكية والسيارات إلى أنظمة التسلح المتقدمة. هذا الدور المحوري جعل السباق التقني بين الولايات المتحدة والصين على أشده في هذا المجال، مع تأثيراتٍ جيوسياسية واضحة. وتؤكد تقارير متخصصة أن نتيجة سباق الابتكار في صناعة الرقائق ستحدد أي دولة ستقود تطوير الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، لما لذلك من تبعاتٍ إستراتيجية واقتصادية هائلة.
اتخذت الولايات المتحدة خطواتٍ حازمة لحماية تفوقها التقني، فأصدرت على مراحل منذ عام 2022 قيودًا صارمة على تصدير التقنيات والمعدات المتعلقة بالرقائق إلى الصين. شملت هذه القيود منع تصدير أنواعٍ متقدمة من الشرائح والحواسيب الفائقة وأدوات التصنيع، كما وضعت عشرات الشركات الصينية على قوائم سوداء. الهدف المعلن هو شلّ قدرة الصين على الوصول إلى التقنيات اللازمة لصنع الشرائح المتقدمة التي قد تعزز قدراتها العسكرية أو التجسسية. وقد نجحت هذه السياسة جزئيًا في إرباك قطاع أشباه الموصلات الصيني ورفع أسعار بعض الرقائق النادرة، لكنها في الوقت نفسه دفعت الصين إلى الرد باستنفار جهودها الذاتية؛ إذ ضخت دعمًا هائلًا لتطوير ابتكارات محلية يمكن أن تتجاوز التقنيات الحالية، مما يثير احتمال تفوقٍ صينيٍّ مفاجئ يقفز على ريادة الغرب التقنية. أي أن سلاح العقوبات التقنية جعل بكين أكثر تصميمًا على تحقيق الاكتفاء الذاتي في أشباه الموصلات، رغم ما تواجهه من تحديات.
على الجانب الآخر، لم تقف الصين مكتوفة الأيدي في هذا الصراع. فإضافةً إلى الاستثمارات الضخمة في شركاتها المحلية، استخدمت بكين أوراق ضغطٍ تجارية ضد الغرب. ومثالٌ حديث على ذلك ما حدث في أكتوبر 2025 حين حظرت الصين تصدير رقاقات شركة Nexperia (وهي شركة أوروبية تمتلك مصانع في الصين) ردًا على إجراءٍ هولندي بوضعها تحت الوصاية وإبعاد مديرها التنفيذي الصيني. سبّب هذا الحظر الصيني المفاجئ أزمةً لمصنّعي السيارات في أوروبا واليابان، إذ أعلن اتحاد مصنّعي السيارات الأوروبي أن مصانعهم على وشك التوقف خلال أيامٍ بسبب نقص الشرائح الحيوية للإنتاج. كما حذّرت شركات كبرى مثل Volkswagen وNissan من نفاد مخزونها الاحتياطي من الرقائق ما لم يتم إيجاد حلٍّ دبلوماسي عاجل. كذلك تأثرت أوروبا بقيودٍ صينية أخرى على تصدير المعادن الأرضية النادرة، ردًا على قيودٍ أمريكية. هذه الحرب التجارية التقنية باتت تهدد سلاسل التوريد الصناعية عالميًا، وتستدعي تحركاتٍ سياسية رفيعة المستوى، إذ سعى مسؤولون من الاتحاد الأوروبي إلى التفاوض مع بكين لتخفيف حدة هذه الإجراءات.
بلغ تسييسُ أشباه الموصلات حدًّا جعلها ضمن أوراق التفاوض الجيوستراتيجية. فالولايات المتحدة لا تضغط على الصين فحسب، بل توسّع مظلة قيودها لتشمل دولًا ثالثة خشية تسرب التقنيات إلى بكين. وفي أكتوبر 2023 وسّعت واشنطن قيود التصدير لتشمل أيَّ دولٍ تخشى أن تعيد تصدير هذه الشرائح إلى الصين أو دولٍ منافسة، مما جعلها تشترط منح ترخيصٍ خاص لتصدير أحدث الرقاقات حتى إلى حلفائها في الشرق الأوسط. وقد أثار هذا الموقف استياءً ضمنيًا لدى دول المنطقة التي رأت فيه إعاقةً لطموحاتها التقنية، لكنه في الوقت نفسه دفعها إلى توثيق التعاون مع واشنطن، وأيضًا إلى التركيز على بناء قدراتٍ وطنية في صناعة الرقائق، كما فعلت السعودية والإمارات مؤخرًا.
يدرك الجميع أن مركز الثقل في صناعة أشباه الموصلات عالميًا هو شرق آسيا (تايوان وكوريا الجنوبية واليابان تحديدًا)، مما يزيد حساسية الخلافات السياسية حول تايوان بوصفها مقر شركة TSMC العملاقة. كما أن أي توترٍ عسكري هناك قد يؤدي إلى هزةٍ في إمدادات الرقائق عالميًا، ما يجعل قضية الرقائق مرتبطةً بالأمن الدولي بقدر ارتباطها بالاقتصاد. وهكذا بات الصراع على أشباه الموصلات محرّكًا للسياسات، من تحالفاتٍ تجارية جديدة إلى اتفاقاتٍ تمنح امتيازاتٍ لدولٍ في مجال الذكاء الاصطناعي مقابل ضماناتٍ أمنية. إنه صراعٌ تقني بمضامين حربٍ باردة حديثة، سيكون له تأثيرٌ عميق على خرائط التحالفات والنزاعات الدولية كما سنناقش لاحقًا.
أصبح الاستثمار في الذكاء الاصطناعي أولويةً قصوى على مستوى العالم نظرًا لإمكاناته الاقتصادية الهائلة وتأثيره المستقبلي في كل القطاعات. وتشير تحليلاتٌ حديثة إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يضيف نحو 15.7 تريليون دولار إلى الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030، وهو رقم مذهل يعكس التحول الجذري المتوقع مع تبنّي هذه التقنية. وتنتظر منطقة الشرق الأوسط مكاسب كبيرة، إذ يُقدَّر أن يساهم الذكاء الاصطناعي بنحو 320 مليار دولار في اقتصاد المنطقة بحلول عام 2030، ما يعادل 11% من إجمالي الناتج المحلي، وهي نسبة أعلى في دول الخليج الرائدة تقنيًا. ومن المتوقع أن يشكّل الذكاء الاصطناعي حوالي 13.6% من اقتصاد الإمارات (قرابة 96 مليار دولار) و12.4% من اقتصاد السعودية (حوالي 135 مليار دولار) بحلول عام 2030. هذه التوقعات تفسر لماذا تتسابق الحكومات والشركات على ضخ الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي وتطوير استراتيجياتٍ وطنية له.
على الصعيد العالمي، تضاعف الإنفاق على أبحاث وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة، إذ تتسابق الشركات الكبرى مثل مايكروسوفت وجوجل وأمازون لدمج نماذج الذكاء الاصطناعي في خدماتها ومنتجاتها، مما أدى إلى ارتفاعٍ هائل في قيمة شركات الرقائق. فشركة Nvidia الأمريكية مثلًا بلغت قيمتها السوقية 2.6 تريليون دولار في منتصف عام 2024 بعد نجاحها في سوق شرائح الذكاء الاصطناعي. هذه الثورة التقنية فرضت نفسها على واضعي السياسات أيضًا، فهناك اليوم أكثر من 60 دولة وضعت استراتيجياتٍ وطنية للذكاء الاصطناعي أو أنشأت هيئاتٍ متخصصة له. وتسعى الاقتصادات الكبرى إلى تأمين الحصة الأكبر من سوق الذكاء الاصطناعي العالمي المتوقع أن يتخطى تريليون دولار سنويًا خلال العقد القادم.
بالنسبة إلى الشرق الأوسط، يمثل الذكاء الاصطناعي فرصةً تاريخية لتنويع الاقتصاد والتحول إلى مجتمعاتٍ معرفية. ودول الخليج خصوصًا، السعودية والإمارات في المقدمة، تستثمر بقوة في التعليم والتدريب والبحث والتطوير المرتبط بالذكاء الاصطناعي. فقد أعلنت السعودية عام 2020 عن استراتيجيةٍ وطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي بهدف أن تصبح من أعلى 15 دولة في هذا المجال بحلول عام 2030، ورصدت موارد مالية وبشرية كبيرة لتحقيق ذلك، منها إطلاق شركة وطنية برأسمال 15 مليار دولار كـ"بطل وطني" للذكاء الاصطناعي، إضافةً إلى صندوقٍ عالمي للاستثمار في هذا المجال بقيمة 40 مليار دولار بالشراكة مع مستثمرين دوليين. وتشير هذه الأرقام إلى مدى الجدية في تحويل الاقتصاد السعودي ليكون قائمًا على المعرفة والابتكار.
أما الإمارات فكانت سبّاقةً في هذا المضمار؛ إذ عيّنت منذ عام 2017 وزير دولةٍ للذكاء الاصطناعي وأطلقت "استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي". وفي عام 2023 كشف "معهد الابتكار التكنولوجي" في أبوظبي عن نموذج اللغة الضخم Falcon 180B المدرَّب على 180 مليار معامل، مما وضع الإمارات على خريطة تطوير الخوارزميات عالميًا. كما جذب مركز الابتكار G42 في أبوظبي اهتمامًا عالميًا عندما أعلن عن شراكةٍ مع شركاتٍ أمريكية لإنشاء مجمّعٍ للحوسبة الفائقة للذكاء الاصطناعي بطاقة 5 جيجاوات، سيكون الأكبر من نوعه خارج الولايات المتحدة. هذا المجمّع سيسمح باستيراد ما يصل إلى 500 ألف شريحة ذكاءٍ اصطناعي متقدمة من نوع Nvidia سنويًا بدءًا من العام الحالي بموجب اتفاقيةٍ أمريكية–إماراتية خاصة. وقد وُصفت الصفقة بأنها نصرٌ كبير للإمارات في سعيها لأن تكون لاعبًا عالميًا في مجال الذكاء الاصطناعي، خاصةً بعد فترةٍ كانت فيها مقيدةً بالقيود الأمريكية زمن الإدارة السابقة.
إذن، فإن الدول التي تستثمر مبكرًا وبقوة في الذكاء الاصطناعي ستحصد فوائد اقتصادية وإستراتيجية جمّة، وستكون لديها القدرة على رفع الإنتاجية وتحسين الخدمات - كالصحة والتعليم والنقل وغيرها - عبر حلولٍ ذكية، وخلق صناعاتٍ ووظائف جديدة. أي أن الكفة ترجّح لصالح فرص عملٍ جديدة ونموٍّ اقتصادي يفوقان المخاطر، إذا ما وُضعت التشريعات والسياسات المناسبة لمواكبة هذه التقنية. من هنا نرى حرص دول المنطقة على الريادة في الذكاء الاصطناعي كجزءٍ من سباقٍ عالمي أوسع، سوف يحدد ملامح الاقتصادات القوية والقادرة على المنافسة في العقود القادمة.