في فجر الثاني والعشرين من يونيو 2025، دخلت منطقة الشرق الأوسط مرحة جديدة من الصراع، عقب تنفيذ الولايات المتحدة سلسلة من الضربات الجوية المُوجّهة ضد ثلاثة من أهم المراكز النووية الإيرانية: منشأة فوردو لتخصيب الوقود، ومجمع نطنز، ومركز أصفهان للتكنولوجيا النووية. مثّلت هذه الضربات تحوّلًا نوعيًّا في نمط التعاطي الأمريكي مع البرنامج النووي الإيراني، إذ تجاوزت واشنطن للمرة الأولى منذ عقود معادلة الاحتواء عبر العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية، إلى استخدام مباشر للقوة العسكرية الاستباقية بغرض شلّ القدرات التخصيبية الإيرانية في مرحلة حرجة من تطور البرنامج النووي.

 

جاء التدخل الأمريكي بعد تسعة أيام من "عملية الأسد الصاعد"، وهي حملة جوية إسرائيلية غير مسبوقة في نطاقها وشدتها، استهدفت عمق البنية التحتية العسكرية والنووية الإيرانية. وعلى إثر هذه الحملة، توصّلت القيادة الأمريكية إلى أن الضربات الإسرائيلية، على الرغم من تأثيرها الملموس، إلا أنها تحقق وحدها نتيجة حاسمة، لا سيما في مواجهة منشأة فوردو المحصّنة على عمق تسعين مترًا تحت الأرض، والتي تستعصي على أي سلاح تقليدي غير القنبلة الخارقة للتحصينات من طراز (GBU-57  ). وقد صرّح الرئيس الأمريكي حينها بأن "فوردو لم تعد موجودة"، في إعلان مدروس هدفه تأكيد اختلال ميزان الردع لصالح واشنطن، ونقل الرسالة إلى الداخل الإيراني والدولي على حد سواء بأن التفوق العسكري الأمريكي لم يتآكل رغم التحولات الجيوسياسية المتسارعة.

 

لكنّ النجاح العسكري لا يُترجم بالضرورة إلى حسم استراتيجي. فقد بادرت إيران، عبر خطابها الرسمي وأذرعها الإعلامية، إلى التخفيف من وقع الضربة، مُدعية محدودية الأضرار واستمرارية البرنامج النووي، فيما تجنّبت الرد العسكري المباشر في المرحلة الأولى، واختارت بدلًا من ذلك توسيع نطاق تهديداتها في البحر الأحمر ومضيق هرمز، وتفعيل أذرعها الإقليمية ضمن محور "الممانعة"، مع التلويح بإمكانية الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار النووي.

 

وعلى مستوي أخر، عكست هذه الضربات تحوّلًا في العقيدة الأمريكية تجاه أمن الخليج والانتشار النووي في الإقليم، إذ باتت واشنطن ترى في الضربة المحدودة عالية الدقة أداة لردع استباقي بديلاً عن الاستثمار طويل الأمد في مسارات التفاوض المتعثرة. كما أعادت تموضعها التكتيكي في محيط إيران انطلاقًا من تقديرات مفادها أن بيئة ما بعد الحملة الإسرائيلية تُتيح نافذة زمنية نادرة لإعادة رسم الخطوط الاستراتيجية دون التورط في حرب شاملة.

 

يسعى هذا التقدير إلى تحليل البنية العسكرية والسياسية لهذه الضربات، وتفكيك أبعادها التقنية والاستراتيجية، في سياق دولي يتّسم بترقّب شديد واحتمال مرتفع لانزلاق الصراع إلى مستويات إقليمية أو حتى دولية. كما يعرض التقدير لخيارات الرد المتاحة أمام طهران، ويرسم ثلاثة سيناريوهات مركزية لمستقبل الإقليم، تتراوح بين احتواء مضبوط وتوازن ردع هش، وانزلاق نحو مواجهة متعددة الجبهات ذات كلفة اقتصادية وجيوسياسية باهظة.

تحليل الهجوم – التدخل الأمريكي الحاسم

جاء التدخل العسكري الأمريكي في الثاني والعشرين من يونيو 2025 بوصفه استكمالًا لمرحلة تصعيد سابقة، وليس مجرد رد فعل منفصل عن السياق الإقليمي والدولي المتفاقم. فقد مثّلت الضربة الجوية الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية لحظة انعطاف في مسار العلاقة المتوترة بين واشنطن وطهران، وانتقالًا نوعيًّا في أدوات الضغط الأمريكية من المسارات الدبلوماسية إلى التدخل العسكري المباشر، في بيئة استراتيجية شديدة التعقيد.

 

السياق الممهّد–عملية “الأسد الصاعد” الإسرائيلية (13–21 يونيو 2025)

شهدت المرحلة التمهيدية السابقة للتدخل الأمريكي تنفيذ إسرائيل عملية عسكرية جوية مكثفة عُرفت باسم “الأسد الصاعد”، انطلقت في 13 يونيو 2025 واستمرت على مدى عشرة أيام. وقد مثلت هذه العملية تحولًا غير مسبوق من نمط حرب الظل إلى نمط المواجهة المباشرة بين دولتين. كانت أهداف الحملة الإسرائيلية واضحة ومعلنة: تفكيك البنية التحتية النووية والصاروخية الإيرانية، استنادًا إلى ما زعمته إسرائيل من اقتراب إيران من بلوغ مرحلة القدرة النووية الكاملة.

 

نفّذت القوات الجوية الإسرائيلية أكثر من ألف طلعة جوية استهدفت من خلالها شبكات الدفاع الجوي الإيرانية، ومراكز القيادة والسيطرة، ومنصات إطلاق الصواريخ الباليستية، بالإضافة إلى البنية السطحية لعدد من المواقع النووية، بما في ذلك نطنز وأصفهان. وقد ردّت إيران بإطلاق موجات متتالية من الصواريخ والطائرات المسيّرة باتجاه العمق الإسرائيلي، تسببت في وقوع إصابات بشرية وأضرار مادية، وأجبرت سكان المناطق المستهدفة على التوجه إلى الملاجئ. وبهذا التبادل المباشر للنيران، تشكّلت معادلة استراتيجية جديدة لم يكن من الممكن للولايات المتحدة تجاهلها، ما مهّد لتدخلها العسكري في اليوم العاشر من الحملة.

 

تركيبة الضربة الأمريكية

انطلقت العملية العسكرية الأمريكية في تمام الساعة الثانية والنصف صباحًا بتوقيت طهران (الساعة الحادية عشرة مساءً بتوقيت غرينتش، 21 يونيو 2025). وقد صُممت هذه العملية كضربة متعددة المجالات، تم التخطيط لها بعناية لتحقيق تأثير فوري على أهداف نووية إيرانية شديدة التحصين.

 

نفذ الهجوم ما لا يقل عن ست قاذفات استراتيجية من طراز B-2 Spirit، أقلعت من قاعدة وايتمان الجوية في ولاية ميزوري الأمريكية، ونفّذت مهمتها دون توقف. تُعد هذه القاذفات ذات قدرات شبحية عالية، وتمثل أهم سلاح مستخدم لدي القوات الجوية الأمريكية، نظراً لقدرتها على اختراق نظم الدفاع الجوي المعقّدة دون اكتشاف. جدير بالذكر أن هذه القدرات لا تمتلكها إسرائيل، وهو ما يفسر الحاجة إلى تدخل أمريكي مباشر لتدمير أهداف عميقة مثل فوردو.

 

أما من ناحية الأصول البحرية، فقد دعمت الغواصات الأمريكية الهجومية العملية عبر إطلاق نحو ثلاثين صاروخ كروز من طراز توماهوك، استهدفت بها منشآت نووية متفرقة. أُطلقَت هذه الصواريخ من مواقع متعددة وفي توقيت متزامن مع الغارات الجوية، بهدف تشتيت الدفاعات الإيرانية وإرباك قدرتها على التصدّي.

 

من جهة الذخائر المستخدمة، تم اعتماد تشكيلة من الأسلحة الدقيقة، كان أبرزها استخدام قنابل GBU-57A/B “مخترقة التحصينات”، والتي يبلغ وزنها 13,600 كيلوغرام (30,000 رطل). وتُعد هذه القنبلة أكبر قنبلة تقليدية في الترسانة الأمريكية، وصُممت خصيصًا لاختراق المنشآت تحت الأرض. وللمرة الأولى في التاريخ، استُخدمت هذه الذخيرة في سياق عمليات قتالية حقيقية، إذ أسقطت الطائرات الأمريكية ما لا يقل عن 12 قنبلة من هذا النوع على منشأة فوردو، إضافة إلى اثنتين استهدفتا منشأة نطنز. أما صواريخ التوماهوك، فقد وُجِّهت إلى أهداف أقل تحصينًا في منشآت نطنز وأصفهان.

 

طبيعة الأهداف المستهدفة

تركّزت الضربات الأمريكية على ثلاثة مواقع تشكّل الأعمدة المركزية لمسار تخصيب اليورانيوم في إيران، وهي: فوردو، ونطنز، وأصفهان.

 

  • منشأة فوردو، تقع بالقرب من مدينة قم، وتُعد أكثر المنشآت الإيرانية تحصينًا، إذ بُنيت داخل جبل على عمق يصل إلى 90 مترًا. وأكّدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن المنشأة كانت تنتج يورانيومًا مخصبًا بنسبة 60%، مع الكشف عن وجود آثار لتخصيب بنسبة تصل إلى 83.7%، وهي نسبة تقترب تقنيًّا من الوقود النووي المستخدم في الأسلحة. نظرًا لكون المنشأة محصّنة بدرجة تفوق قدرة الذخائر التقليدية، كان من المستحيل تدميرها دون تدخل أميركي مباشر باستخدام قنابل خارقة للتحصينات.

 

  • منشأة نطنز، تقع جنوب شرق طهران، وهي منشأة مركزية لتخصيب اليورانيوم وتضم سلسلة من البُنى التحتية السطحية والباطنية. ورغم أن الغارات الإسرائيلية سبقت الضربة الأمريكية وألحقت أضرارًا بالغة بالمرافق السطحية، فإن الاستهداف الأمريكي كان ضروريًّا لضمان تدمير كل ما تبقى من قدرات التخصيب، خاصة في القاعات التحت أرضية التي تحوي أجهزة الطرد المركزي.

 

  • مركز أصفهان للتكنولوجيا النووية، يمثل نقطة البداية في دورة الوقود النووي الإيراني، ويحتوي على مفاعلات أبحاث ومختبرات، إلى جانب وحدة تحويل اليورانيوم الخام إلى غاز سداسي فلوريد اليورانيوم (UF6)، وهو المادة الأولية اللازمة لتغذية أجهزة الطرد المركزي. وقد استهدفته الضربات الأمريكية بصواريخ توماهوك، بهدف تقويض قدرة إيران على إنتاج المادة المغذية لعملية التخصيب.

 

تُظهر طبيعة هذه الأهداف منطقًا استراتيجيًّا واضحًا، يتمثل في ضرب السلسلة الكاملة لإنتاج الوقود النووي الإيراني، بدءًا من المادة الأولية في أصفهان، مرورًا بالتخصيب منخفض النسبة في نطنز، ووصولًا إلى التخصيب عالي النسبة في فوردو.

 

الأهداف الأمريكية العلنية والدبلوماسية المصاحبة

تزامنت مع الضربات العسكرية حملة دبلوماسية وتصريحات سياسية. فقد أعلن الرئيس دونالد ترامب بعد انتهاء الهجوم أن هدف العملية هو “تدمير قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم ووقف الخطر النووي الذي تمثله الدولة الأولى الراعية للإرهاب في العالم”، واصفًا الضربات بأنها “نجاح عسكري مذهل”.

 

إلا أن هذا الخطاب التصعيدي العلني تزامن مع فتح قنوات خلفية لنقل رسائل احتواء إلى طهران، يُرجّح أنها تمت عبر وساطة سويسرية أو عمانية. وقد تضمّنت هذه الرسائل إشارة واضحة إلى أن العملية تقتصر على المنشآت النووية، ولا تهدف إلى إسقاط النظام، في محاولة لطمأنة القيادة الإيرانية ودفعها لتجنّب التصعيد.

 

في الوقت ذاته، أرسل البيت الأبيض تحذيرات مباشرة، مفادها أن أي رد إيراني سيقابل بقوة “تفوق بكثير ما جرى الليلة”، وفق تعبير ترامب. ويعكس هذا المزج بين الردع الصارم وفتح نافذة للتهدئة ما يُعرف في أدبيات العلاقات الدولية بـ”استراتيجية الردع “، التي تهدف إلى دفع الخصم نحو خيار التراجع دون خوض مواجهة شاملة.

 

ورغم التنسيق الكامل مع إسرائيل، فإن العملية لم تشمل إخطارًا مسبقًا لحلفاء واشنطن في الخليج، بمن فيهم الدول التي تستضيف قواعد أميركية. ويُعتقد أن هذا الإغفال متعمّد لضمان سرية الهجوم، إلا أنه قد يؤدي إلى توترات مع دول مثل الإمارات وقطر والسعودية، التي تجد نفسها عرضة لردود فعل إيرانية دون أن تكون شريكة في القرار العسكري.

 

يُجسّد هذا التدخل نقطة تحول مفصلية في عقيدة منع الانتشار الأمريكية، حيث تحوّلت من سياسة المنع المؤجّل إلى الضربات الحاسمة والمباشرة عند الوصول إلى عتبة حرجة. وبقدر ما أظهرت العملية قدرة عسكرية فائقة، فقد عكست أيضًا الحسابات الدقيقة لواشنطن في توقيت استخدامها، من حيث استغلال الثغرات التي خلّفتها الغارات الإسرائيلية، وانتهاز لحظة ضعف دفاعي نسبي لتحقيق نتيجة استراتيجية بأقل تكلفة ممكنة.

التداعيات المباشرة: حجم الضرر، العواقب الإشعاعية، وحرب السرديات

مثّل تنفيذ الضربات الأمريكية ضد المنشآت النووية الإيرانية نقطة ارتجاج استراتيجية على المستويين الداخلي الإيراني والدولي، غير أن طبيعة تداعياتها الملموسة ظلت محل تنازع بين مختلف الأطراف، وهو ما يعكس بوضوح تداخلاً معقّدًا بين الأثر المادي المباشر، والانكشاف الإعلامي والسياسي، وأدوات الحرب النفسية. ويمكن تحليل ما تلا الضربة عبر محورين رئيسيين: تقييم الأضرار الفعلية التي لحقت بالمنشآت المستهدفة، والآثار البيئية والإشعاعية المصاحبة، في سياقٍ مُحمّل بتوظيف كثيف للأدوات الدعائية والمعلوماتية من قبل الطرفين.

 

جدلية تقييم الأضرار – بين الحسم الأمريكي والإنكار الإيراني

لم يكن بالإمكان، خلال الساعات والأيام التي تلت الضربة، الحصول على تقييم مستقل حاسم بشأن مدى التدمير الذي لحق بالمنشآت النووية الإيرانية الثلاث. وقد نشأ هذا الغموض نتيجة تعمّد الطرفين—واشنطن وطهران—بناء سرديات متعارضة تخدم أهدافهما السياسية والعسكرية.

 

من جهة الولايات المتحدة، أصرّت الإدارة الأمريكية على تقديم صورة انتصار حاسم وساحق. فقد أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في خطاب رسمي أن “المنشآت الرئيسية لتخصيب اليورانيوم في إيران قد تم تدميرها بشكل كامل وتام”، في لغة تقطع مع أي تأويل أو تحفظ. وقد كان هذا الخطاب موجّهًا لأكثر من جمهور: داخليًّا لتعزيز صورة الحزم والقوة في السياسة الخارجية، وإقليميًّا لردع خصوم واشنطن، ودوليًّا لتبرير خيار التصعيد أمام الحلفاء والمنتقدين على حد سواء.

 

 

” لقد أكملنا هجومنا الناجح للغاية على المواقع النووية الثلاثة في إيران، بما في ذلك فوردو ونطنز وأصفهان. جميع الطائرات أصبحت الآن خارج المجال الجوي الإيراني. تم إسقاط حمولة كاملة من القنابل على الموقع الأساسي، فوردو. وجميع الطائرات في طريقها الآمن إلى الوطن. تهانينا لمحاربينا الأمريكيين العظماء. لا توجد قوة عسكرية أخرى في العالم كانت قادرة على تنفيذ هذا. الآن هو وقت السلام! “.

 

في المقابل، عملت طهران على التقليل من أهمية الضربة، مع الحرص على تجنّب الإقرار بأي اختراق نوعي لقدراتها النووية. فقد أعلنت منظمة الطاقة الذرية الإيرانية أن الضربات “لم توقف البرنامج النووي ولن تؤثر في استمراره”، بينما صرّح أحد نواب البرلمان عن محافظة قم—التي تقع ضمنها منشأة فوردو—أن الأضرار اقتصرت على “المنشآت السطحية القابلة للإصلاح”، نافيًا حدوث دمار هيكلي عميق. كما تحدثت مصادر رسمية أخرى عن أن المنشآت قد تم “إخلاؤها مسبقًا” وأن معظم أجهزة الطرد المركزي الحساسة والمواد النووية قد نُقلت إلى مواقع بديلة.

 

وفي ظل هذا التناقض في الخطاب الرسمي بين الطرفين، تبرز أهمية أدوات الاستشعار الفضائي، لاسيما صور الأقمار الصناعية التجارية عالية الدقة من شركات مثل Maxar Technologies وPlanet Labs. هذه الصور، التي توفّر مقارنة قبل وبعد الضربة، قد تكشف لاحقًا عن درجة التدمير السطحي وعمق الاختراق في المنشآت تحت الأرض. ومع ذلك، تبقى هناك حدود تقنية في قدرة الاستطلاع الفضائي على تحديد ما إذا كانت الضربات قد تسببت في “قتل وظيفي” للمرافق، أي تدمير البنية التحتية الداخلية لأجهزة الطرد المركزي دون انهيار البنية الجبلية نفسها.

 

ورجّحت معظم التقديرات الاستخباراتية الغربية أن منشأة فوردو تحديدًا قد تكبدت ضررًا بالغًا من شأنه أن يعطل عمليات التخصيب لفترة طويلة، حتى وإن لم يتمكن الأمريكيون من تدمير كامل الغرف تحت الأرض. أما التصريحات الإيرانية فهي، على الأرجح، موجهة للاستهلاك الداخلي ولمخاطبة “محور المقاومة” الإقليمي، وذلك للحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية ومنع تآكل صورة الردع الإيراني.

 

 الأثر البيئي والإشعاعي – تفادي السيناريو الكارثي

رغم شدة الضربات واتساع نطاقها، إلا أن خطر حدوث كارثة إشعاعية شاملة قد تم تجنّبه. فقد أصدرت كل من الوكالة الدولية للطاقة الذرية والهيئة الوطنية الإيرانية للسلامة النووية بيانات رسمية أكّدت فيها “عدم تسجيل أي زيادة في مستويات الإشعاع خارج المواقع المستهدفة”، و”غياب أي تلوّث إشعاعي في المناطق السكنية المحيطة بفوردو ونطنز وأصفهان”. وقد حمل هذا الإعلان دلالات مهمة على المستوى الاستراتيجي، إذ كشف عن أن الضربة كانت مدروسة بعناية لتجنب تجاوز ما يُعرف بـ”الخط الإشعاعي الأحمر”.

 

 

في أعقاب الهجمات على ثلاثة مواقع نووية في إيران، بما فيها فوردو، تؤكد الوكالة الدولية للطاقة الذرية عدم الإبلاغ عن أي زيادة في مستويات الإشعاع خارج الموقع حتى الآن. وستقدم الوكالة تقييمات إضافية للوضع في إيران عند توافر المزيد من المعلومات. “

 

ولفهم هذا السياق، ينبغي التمييز بين طبيعة المنشآت التي تم استهدافها. فقد اقتصرت الضربات على منشآت تقع ضمن ما يُعرف بـ”مقدمة دورة الوقود النووي”، أي منشآت تخصيب وتحويل اليورانيوم، والتي تحتوي عادة على مركّبات كيميائية من اليورانيوم منخفض الإشعاع، وليس وقودًا نوويًا مفاعلًا. فعلى سبيل المثال، يتواجد في منشأة أصفهان غاز سادس فلوريد اليورانيوم (UF₆)، وهو قابل للتفاعل الكيميائي مع بخار الماء في الجو، مما ينتج عنه غازات سامة مثل فلوريد الهيدروجين، ولكنها تظل محدودة الأثر إذا لم تحدث تسريبات واسعة في الهواء الطلق.

 

كما أشارت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أن الضربات السابقة على نطنز—قبل الضربات الأمريكية—تسببت في تلوث محدود داخل المرافق التحتية، دون أن يتسرب إلى الخارج. وقد جرى التعامل مع هذا التلوث داخليًا باستخدام معدات واقية، مثل أقنعة تنقية الهواء وبدلات مقاومة للإشعاع.

 

وتتباين هذه النتائج بشكل جذري عن السيناريو المحتمل لو تم استهداف مفاعل بوشهر للطاقة النووية، الذي يحتوي على وقود نووي مشع من نوع اليورانيوم المخصب ومخزون من النظائر المشعة الناتجة عن الانشطار. أي استهداف لهذا المفاعل كان سيؤدي إلى إطلاق نظائر مثل السيزيوم-137 واليود-131 في الهواء والمياه، بما يهدد بحدوث تلوث يمتد لمئات الكيلومترات، ويستلزم عمليات إجلاء جماعية وتدخلات دولية، بما يشبه كارثتي تشيرنوبيل وفوكوشيما.

 

ومن الواضح أن واشنطن وتل أبيب قد اختارتا عمدًا تجنّب هذا النوع من التصعيد، إدراكًا منهما لخطورة أي كارثة إشعاعية، سواء على مستوى السردية الأخلاقية أمام الرأي العام الدولي، أو على مستوى الاستقرار البيئي في منطقة حساسة سياسيًا واقتصاديًا. لقد كانت هذه الضربات انتقائية إلى درجة بالغة، بحيث تُحقق تدميرًا مؤثرًا على البرنامج النووي دون المساس بالمفاعلات المشغّلة أو التسبب في انبعاثات إشعاعية عابرة للحدود.

 

ويُعزّز هذا التحليل ما تداولته مصادر إعلامية إيرانية غير رسمية عن “خطط طوارئ مسبقة” شملت إخلاء منشآت حساسة، وإعادة توزيع المواد النووية، ونقل جزء من الكوادر العلمية إلى مواقع سرية. إذ يبدو أن القيادة الإيرانية باتت تنظر إلى علماءها ومخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب على أنهما الأصلان الاستراتيجيان اللذان يمكن بفضلهما إعادة بناء البرنامج لاحقًا، حتى إن دُمّرت البنية التحتية الظاهرة.

 

وعليه، فإن هذه المرحلة من الصراع تُمثّل، في أحد أوجهها، مواجهة بين قوة نارية استثنائية تسعى إلى فرض واقع تقني جديد، ونظام سياسي-علمي إيراني يحاول الالتفاف على الخسارة عبر الحفاظ على مقوّمات “البقاء النووي المؤجل”، بانتظار لحظة مواتية لإعادة بناء البرنامج في منشآت جديدة وأكثر سرية.

الحسابات الإيرانية: مصفوفة الردود المحتملة

شكّلت الضربات الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية لحظة اختبار استراتيجي غير مسبوقة للنظام الإيراني، تجاوزت في أبعادها العسكرية المباشرة إلى ضرب مفهوم الردع الذاتي الذي بناه النظام على مدار عقدين من الزمن. فقد أظهرت العملية، خصوصًا عبر استهداف منشأة فوردو التي كانت تُعد “محصنة”، هشاشة الحصانة التي ادّعتها المؤسسة الأمنية الإيرانية، وأجبرت صناع القرار في طهران على مواجهة معضلة استراتيجية بالغة التعقيد، تتمثّل في اختيار نمط الرد، وتحديد توقيته وحدوده، في ظل توازنات داخلية متوترة، وخارجيّة محفوفة بالمخاطر.

 

ثلاثية الخيارات الاستراتيجية – الرد، الاحتواء، التصعيد غير المباشر

إن مراجعة الخيارات المتاحة أمام إيران بعد الضربة الأمريكية تظهر تباينًا واضحًا في مستويات المخاطرة والعوائد السياسية لكل منها. فالخيار الأول، والمتمثل في الرد العسكري المباشر، يُعد من حيث التأثير المعنوي والعسكري عالي الكلفة، لكنه يحمل مخاطر مواجهة شاملة مع قوة تفوق إيران عسكريًا بدرجات عدة، ما قد يعرّض بقاء النظام ذاته للخطر. أما الخيار الثاني، والمتمثل في امتصاص الضربة دون رد مباشر، فربما يحفظ التماسك المؤسسي للنظام في المدى القصير، لكنه قد يُفسر داخليًا وخارجيًا بوصفه إقرارًا بالهزيمة، ويقوّض هيبة الدولة وقدرتها على الردع. ويبقى الخيار الثالث، وهو التصعيد غير المباشر، هو الأكثر ترجيحًا وفق تقديرات عسكرية واستخباراتية غربية، إذ يتيح لإيران توجيه رسائل قوية عبر أدوات غير تقليدية، كالهجمات السيبرانية، وعمليات الحشد الشعبي، واستهداف خطوط الملاحة الدولية، دون الدخول في مواجهة مباشرة تخرج عن سيطرة طهران.

 

الانقسام الداخلي – صراع الحرس الثوري والتيار البراغماتي

تتعقّد خيارات الرد الإيراني بفعل الانقسامات المتجذّرة داخل البنية السياسية للنظام، بين أجنحة تُجسّد مقاربات متباينة للرد. فالحرس الثوري، ممثلاً للجناح الأمني–العقائدي، يرى في الرد المباشر ضرورة لحماية ما تبقى من مصداقية استراتيجية الجمهورية الإسلامية، ويعتبر أن عدم الرد سيفسح المجال لتكرار الضربات وربما استهداف رموز الدولة. في المقابل، يتبنى التيار البراغماتي، الذي يمثله جزئيًا الرئيس مسعود بزشكيان وفريقه، رؤية أكثر تحفّظًا، تُحذّر من مغبّة التورط في حرب غير متكافئة مع الولايات المتحدة، خاصة في ظل التدهور الاقتصادي الحاد الذي تمر به البلاد، وتآكل منظومات الدفاع الجوي والبنية التحتية العسكرية بعد الحملة الإسرائيلية.

 

وتشير المؤشرات إلى أن المرشد الأعلى علي خامنئي، وهو صاحب القرار النهائي، سيسعى إلى تحقيق توازن بين هذين التوجّهين، بحيث يتفادى الانهيار الرمزي للنظام، دون تجاوز العتبة التي قد تُفجّر مواجهة شاملة. ويبدو أن قراراته ستخضع لتقدير دقيق لمعادلة المخاطر، سواء على صعيد الداخل أو في الإقليم.

 

الرد العسكري المباشر – القدرات والقيود

في الساعات التي تلت الضربة الأمريكية، أطلقت إيران دفعة من الصواريخ الباليستية باتجاه وسط وشمال إسرائيل، في رد أولي اعتُبر محاولة لامتصاص الضغط الداخلي والمزايدة من الجناح المتشدد. ومع ذلك، فإن القدرة الإيرانية على تنفيذ رد عسكري مباشر واسع باتت محل تساؤل. فالحملة الإسرائيلية، التي سبقت الضربات الأمريكية، دمّرت جزءًا كبيرًا من منصات إطلاق الصواريخ الباليستية، وألحقت أضرارًا بالغة بمراكز القيادة والسيطرة، ما أدى إلى إضعاف القدرة الإيرانية على تنفيذ هجمات متزامنة وواسعة النطاق.

 

ووفق تقديرات استخباراتية، فإن إيران لا تزال تمتلك مخزونًا يُقدّر بعدة مئات من الصواريخ القادرة نظريًا على استهداف إسرائيل أو القواعد الأمريكية في الخليج، لكنها تفتقر إلى القدرة على تحقيق مفاجأة استراتيجية أو تجاوز أنظمة الدفاع الصاروخي المتقدمة، مثل “آرو 3″ و”ثاد” و”باتريوت”. كما أن أي هجوم مباشر يسفر عن خسائر كبيرة في الأرواح الأمريكية من شأنه أن يُستغل كذريعة سياسية لإطلاق حملة عسكرية أميركية شاملة، قد تشمل ضرب مراكز القيادة الإيرانية وحتى استهداف النظام نفسه.

 

التصعيد غير المباشر – الوكلاء والساحات الهشة

أمام محدودية القدرة على الرد المباشر، تبدو إيران مرجّحة للعودة إلى أدواتها التقليدية في الرد غير المتماثل، خاصة عبر شبكة “محور المقاومة”. غير أن هذه الشبكة تعاني من حالة إنهاك ميداني وتراجع معنوي. فحزب الله اللبناني، الذي يُعد الذراع الأقوى لإيران في المشرق العربي، تكبّد خسائر بشرية وهيكلية جسيمة في حربه الأخيرة مع إسرائيل عام 2024، كما أن انهيار العمق السوري بعد ضعف النظام في دمشق أضعف من قدرته اللوجستية. أما الفصائل الشيعية في العراق، فرغم بقائها تحت التأثير الإيراني، إلا أنها باتت أكثر حذرًا، ولا تبدو مستعدة لتحمّل كلفة حرب مباشرة على أرضها، خاصة بعد الضربات الأمريكية الدقيقة لمواقعها.

 

يُستثنى من هذا التراجع النسبي، جماعة “أنصار الله” (الحوثيون) في اليمن، التي برزت كأداة فاعلة وجريئة في تنفيذ عمليات نوعية، خاصة في البحر الأحمر وباب المندب. تمتلك الجماعة ترسانة من الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية القادرة على استهداف الملاحة الدولية والبنية التحتية الاقتصادية الإسرائيلية. ومن المحتمل أن تعتمد طهران على تصعيد حوثي كبير في الممرات المائية لخلق ضغط اقتصادي عالمي، وإرهاق المنظومة الدفاعية الأمريكية دون تحميل إيران مسؤولية مباشرة.

 

إلى جانب الوكلاء، يُتوقع أن تلجأ إيران إلى العمليات السرية خارج الإقليم، بما في ذلك استهداف مصالح أميركية أو إسرائيلية عبر شبكات استخباراتية في مناطق ثالثة، أو تنفيذ هجمات إلكترونية تعيق البنى التحتية المالية أو الطاقوية لدول معادية، في محاولة لإثبات القدرة على إلحاق الضرر دون تجاوز خط النار المكشوف.

 

الرهان النووي والدبلوماسية الهجومية

بالتوازي مع الحسابات العسكرية، تدرك إيران أن أحد أبرز أوراق الضغط الاستراتيجية المتبقية لديها هو التصعيد النووي المنضبط. وقد بدأت بالفعل في استثمار الهجوم الأمريكي لصياغة رواية قانونية–دبلوماسية، تُصور الضربة على أنها انتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة واتفاق الضمانات النووية، مع دعوات متكررة لعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي، ومحاولة حشد دعم روسيا والصين والجنوب العالمي لعزل واشنطن دوليًا.

 

غير أن السيناريو الأكثر خطورة يتمثل في احتمال أن تستنتج القيادة الإيرانية أن خيار التهدئة الدبلوماسية لم يعد مجديًا، وأن الضمان الوحيد لبقاء النظام هو امتلاك سلاح نووي فعلي. في هذه الحالة، قد تقرر طهران الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار النووي، وطرد مفتشي الوكالة الدولية، وبدء ما يُعرف بـ”الاختراق النووي السريع”، عبر بناء رأس نووي في منشآت سرية.

 

ويمثّل هذا السيناريو تغييرًا جذريًا في معادلة الأمن الإقليمي، إذ من شأنه أن يدفع قوى مثل السعودية ومصر وتركيا إلى تسريع برامجها النووية، ويفتح الباب أمام سباق تسلح نووي متعدد الأطراف، يعيد تشكيل قواعد الردع والاستقرار في الشرق الأوسط لعقود قادمة.

سلّم التصعيد: المسارات المحتملة نحو حرب إقليمية موسعة

إن الضربات الأمريكية التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية في يونيو 2025 لم تمثّل نهاية للمرحلة العسكرية، بل كانت نقطة بداية لمرحلة جديدة تتسم بدرجة عالية من الخطورة والتعقيد الاستراتيجي. فقد أدّت هذه الضربات إلى انتقال الصراع من مستوى التصعيد المحدود إلى مشهد إقليمي مفتوح على احتمالات متعددة، من بينها الدخول في دوامة تصعيدية يصعب التحكم بمسارها أو مآلاتها. ويمكن تحليل المشهد من خلال أربعة مسارات رئيسية تمثل المفاصل البنيوية لسلّم التصعيد الحالي: الممرات البحرية، مواقف القوى الإقليمية، دور الفاعلين الدوليين، والعوامل المفجّرة التي قد تؤدي إلى خروج الصراع عن السيطرة.

 

الممرات البحرية الاستراتيجية – الخاصرة الاقتصادية العالمية

تُعد المضائق البحرية في الخليج والبحر الأحمر الركائز الأكثر حساسية في معادلة الأمن الاقتصادي العالمي. فمضيق هرمز، الذي تمرّ عبره ما بين 20% إلى 30% من صادرات النفط المنقولة بحرًا على مستوى العالم، يبقى النقطة الأكثر عرضة للتأثير المباشر في حال قررت إيران تفعيل استراتيجية “تقييد الملاحة” كرد على الهجوم. لطالما ارتبط هذا المضيق بالعقيدة العسكرية الإيرانية بوصفه ورقة ردع أخيرة، حيث تمتلك طهران أدوات متنوعة لتعطيل الملاحة، تشمل الألغام البحرية، الزوارق السريعة المسلحة، الصواريخ المضادة للسفن، والغواصات الخفيفة. إلا أن أي محاولة فعلية لإغلاق المضيق ستُعتبر تجاوزًا للخط الأحمر الأمريكي الذي تم وضعه صراحة منذ “عقيدة كارتر” عام 1980، وسيستدعي ردًا عسكريًا واسع النطاق من الأسطول الخامس الأمريكي المتمركز في البحرين.

 

من جهة أخرى، يُتوقع أن تتصاعد هجمات الحوثيين في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، بدافع التنسيق الاستراتيجي مع طهران أو كردّ غير مباشر على الضربات الأمريكية. وقد شهدت الأسابيع الأخيرة بالفعل تحركات عسكرية نوعية أجبرت عددًا من خطوط الملاحة العالمية على إعادة توجيه سفنها حول رأس الرجاء الصالح، ما رفع كلفة الشحن وأثر على سلاسل التوريد الدولية. ويمثل هذا الواقع احتمال دخول الاقتصاد العالمي في حالة “أزمة ممرات بحرية مزدوجة”، وهو سيناريو لم يشهد العالم مثله منذ الحرب العالمية الثانية، ويضع الولايات المتحدة وحلفاءها أمام تحديات غير مسبوقة في مجال الأمن البحري.

 

مواقف القوى الإقليمية – استراتيجيات الاحتواء والاصطفاف الحذر

تعكس مواقف القوى الإقليمية الرئيسية—وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا—درجة عالية من الحذر الاستراتيجي، إذ تجد هذه الدول نفسها محاصرة بين التزاماتها الأمنية مع الولايات المتحدة من جهة، وحاجتها إلى تجنّب الانزلاق في نزاع شامل من جهة أخرى. فالسعودية والإمارات وقطر، التي تستضيف قواعد أميركية كبرى، لم تُخطر مسبقًا بالضربة، ما أضعف الثقة في تنسيق المواقف الاستراتيجية مع واشنطن. ويُتوقّع أن تتبنى هذه الدول مزيجًا من السياسات الوقائية: تعزيز الدفاعات الجوية، تكثيف التنسيق الاستخباراتي مع الولايات المتحدة، والانخراط في قنوات خلفية مع إيران عبر الوسطاء الإقليميين كسلطنة عمان والعراق، بهدف تحييد أراضيها من دائرة الرد الإيراني المحتمل.

 

أما تركيا، فهي تتعامل مع التصعيد بمنطق براغماتي مزدوج. فهي من جهة عضو في حلف شمال الأطلسي، ما يفرض عليها التزامات تجاه الولايات المتحدة، ومن جهة أخرى تحتفظ بعلاقات اقتصادية واستراتيجية مع إيران، وتسعى للظهور بمظهر الوسيط الإقليمي المؤثر. لذلك، من المرجح أن تحاول أنقرة توظيف الأزمة لتعزيز دورها التفاوضي، لا سيما في ملفات الطاقة، والوجود في شمال سوريا، ومكانتها في التوازنات الإقليمية الجديدة.

 

الحسابات الكبرى – الموقف الروسي الصيني والتحول في التوازن العالمي

تتابع كل من روسيا والصين هذه التطورات من منظور يتجاوز الحسابات الإقليمية الضيقة، إذ ترى في التصعيد الأمريكي–الإسرائيلي فرصة لإعادة تأطير النظام الدولي على أسس تتحدى الهيمنة الغربية. فقد أدان البلدان بشكل مباشر الضربات، واعتبراها خرقًا واضحًا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، مع دعوات إلى العودة الفورية إلى الحوار والتهدئة.

 

في حالة روسيا، يندرج هذا الموقف ضمن استراتيجيتها القائمة على تعطيل النفوذ الأمريكي في أكثر من جبهة، لا سيما في أوكرانيا وسوريا. وتسعى موسكو إلى استثمار موقعها كوسيط محتمل، وهو ما يُمكّنها من تعظيم مكاسبها التفاوضية مع واشنطن وأوروبا. ومع ذلك، تبقى قدرات روسيا على تقديم دعم عملي لإيران محدودة، في ظل الضغوط الاقتصادية والعسكرية التي تواجهها على خلفية الحرب في أوكرانيا.

 

أما الصين، فمصالحها الأساسية تتمحور حول الحفاظ على استقرار تدفقات الطاقة من الخليج، وضمان أمن استثماراتها في إطار مبادرة “الحزام والطريق”. ورغم خطابها الصارم تجاه ما تسميه “الهيمنة الأمريكية”، فإن بكين تبدي قلقًا بالغًا من احتمال إغلاق مضيق هرمز، وهو ما قد يُعطّل أكثر من 40% من وارداتها النفطية. لذلك، يُتوقع أن تمارس الصين ضغوطًا خفية على كل من واشنطن وطهران للحفاظ على حد أدنى من الاستقرار في الخليج.

 

عوامل التفجير – السيناريوهات التي قد تُخرج الصراع عن السيطرة

رغم أن الأطراف الرئيسية تبدي حتى الآن رغبة في إدارة التصعيد دون الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة، فإن البيئة الإقليمية تتسم بدرجة عالية من الحساسية المفرطة، تجعل احتمالية حدوث “حدث مفجّر” أمرًا واردًا في أي لحظة. وتشمل هذه العوامل احتمالات مثل: استهداف قاعدة أميركية رئيسية في الخليج وسقوط عدد كبير من الضحايا، أو غرق سفينة حربية أميركية نتيجة هجوم إيراني مباشر، أو تعرّض منشآت نفطية سعودية أو إماراتية لضربات دقيقة، ما قد يدفع هذه الدول إلى دخول الصراع بشكل مباشر.

 

كذلك، فإن أي هجوم واسع النطاق ينفذه حزب الله ضد العمق الإسرائيلي قد يدفع تل أبيب إلى تنفيذ اجتياح بري للبنان، وهو ما قد يفتح جبهة جديدة تُجبر الولايات المتحدة على توسيع تدخلها دفاعًا عن حليفتها الاستراتيجية. ولا يمكن استبعاد وقوع “حادثة سوداء” غير محسوبة، كإسقاط طائرة مدنية بالخطأ، أو هجوم سيبراني يسبب انهيار منظومة خدمات حيوية في إحدى دول الخليج، أو اغتيال شخصية سياسية رفيعة، وكلها سيناريوهات قادرة على تحويل المواجهة المحدودة إلى حرب إقليمية شاملة متعددة الأطراف.

 

في الختام، تكشف الضربات الأمريكية التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية في يونيو 2025 عن تحوّل استراتيجي عميق في بنية الصراع الإقليمي، لا من حيث طبيعة الأدوات المستخدمة فحسب، بل من حيث المفاهيم التي تحكم قواعد الاشتباك نفسها. فالهجوم لم يكن مجرد عملية عسكرية معزولة، بل لحظة فاصلة في تاريخ المواجهة الطويلة بين إيران والمعسكر الأمريكي–الإسرائيلي، نقلت التوترات من حالة الاحتواء المدروس إلى مشهد مفتوح على احتمالات التصعيد المركّب.

 

لقد بيّنت الأحداث أن قدرة الولايات المتحدة على توجيه ضربات دقيقة ضد منشآت شديدة التحصين مثل “فوردو” لم تفضِ إلى إنهاء البرنامج النووي الإيراني، بقدر ما دفعت طهران إلى إعادة تعريف أولوياتها الدفاعية والعقائدية، وسط انقسام داخلي واضح بين تيار أمني متشدد يدعو إلى الرد المباشر، وتيار براغماتي يُحذّر من الانزلاق إلى حرب شاملة تفوق قدرات الدولة على الاحتمال. وبين هذين القطبين، يحاول النظام الإيراني أن يُعيد تموضعه ضمن بيئة إقليمية ودولية مشبعة بالتعقيد واللايقين.

 

في المقابل، عكست الضربة الأمريكية تصميمًا واضحًا على إعادة ضبط معادلة الردع النووي في المنطقة، وإن كان ذلك على حساب نسف قنوات التنسيق مع بعض الحلفاء الإقليميين، وتعميق التوترات مع خصوم دوليين كروسيا والصين. كما أن تجنّب التسبب في كارثة إشعاعية شاملة أظهر أن العملية لم تكن تهدف إلى الانفجار الشامل، بل إلى إيصال رسالة محسوبة: أن الوصول إلى القنبلة لن يُسمح به، وأن الثقة الإيرانية في قدرة مواقعها المحصّنة على ردع الهجوم قد باتت موضع شك.

 

لكن الخطر الأكبر لا يكمن في الضربة ذاتها، بل في ما ستفرزه من تداعيات استراتيجية طويلة الأمد. فإيران قد تجد في الحادثة مبررًا سياسيًا وانفعاليًا للانسحاب من معاهدة عدم الانتشار النووي، وبدء مرحلة جديدة من التسليح السري تحت الأرض، مدعومة بإرادة مضاعفة لاكتساب سلاح نووي بوصفه الضامن الأخير لبقاء النظام. في المقابل، قد تبدأ دول أخرى—كالسعودية وتركيا ومصر—بإعادة تقييم خياراتها النووية في ظل انهيار المظلة الدبلوماسية.

 

إن المنطقة اليوم تقف عند نقطة توازن حرجة؛ فكل الأطراف باتت قريبة من حافة تصعيد يصعب احتواؤه، في ظل شبكات متداخلة من الحلفاء، ووكلاء غير منضبطين، ومصالح اقتصادية عابرة للحدود. ومع غياب أفق واضح للتسوية، واستمرار انعدام الثقة، فإن الشرق الأوسط يُعاد تشكيله تحت وقع قوة السلاح، لا منطق المؤسسات. ومن هنا، فإن الخيار المطروح أمام صُنّاع القرار الإقليميين والدوليين ليس بين الحرب والسلام، بل بين الانهيار المنظَّم والانفجار غير القابل للتحكم.

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *