في 28 أبريل 2025، شهدت أوروبا واحدًا من أكثر الانهيارات التكنولوجية إرباكًا في تاريخها الحديث. فقد أدّى فشل مفاجئ ومتسلسل في شبكة الكهرباء إلى انقطاع التيار الكهربائي في كافة أنحاء إسبانيا والبرتغال وأجزاء من فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ما أفضى إلى شلل في البنية التحتية الحيوية مثل أنظمة المترو والمطارات والمستشفيات والاتصالات. تكبّدت إسبانيا وحدها خسارة غير مسبوقة بلغت 15 جيجاواط في غضون خمس ثوانٍ فقط، وهو ما يعادل نحو 60% من احتياجاتها من الطاقة. وأُعلنت حالات الطوارئ، ورغم أن التعافي كان سريعًا نسبيًا في بعض المناطق، إلا أن الحادث كشف عن أوجه خلل منهجية في هيكل الطاقة في أوروبا، وهي أوجه خلل تتجاوز أصداؤها حدود القارة.
تمثّل السبب الأول في تعطل وفشل وصلة الجهد العالي بين فرنسا وإسبانيا، حيث تعرّضت هذه الوصلة الحيوية لتوقف غير متوقّع في تمام الساعة 12:33 ظهرًا بتوقيت وسط أوروبا الصيفي. وكان هذا الشريان الرئيسي يربط شبه الجزيرة الإيبيرية شبه المعزولة بشبكة الكهرباء الأوروبية. وقد أدّى تعطّل هذه الوصلة إلى “عزل” إسبانيا والبرتغال، ما تسبب فورًا في اختلال كارثي بين العرض والطلب على الكهرباء. وصرّح مشغّلو الشبكات بأن النظام تعرّض للفشل بسبب عجز شبكتي الكهرباء في إسبانيا والبرتغال عن تحقيق الاستقرار الترددي ذاتيًا، الأمر الذي كشف عن اعتماد مفرط وخطِر على موازنة التيار الكهربائي عبر وصلات بينية تفتقر إلى احتياطيات وطنية كافية أو قدرات توليد محلية سريعة الاستجابة.
رغم أن الفشل في وصلة الكهرباء البينية بين فرنسا وإسبانيا شكّل السبب الفني المباشر لانقطاع التيار الكهربائي في عام 2025، فإن الاعتماد العالي على مصادر الطاقة المتجددة المتقطّعة في كلٍّ من إسبانيا والبرتغال كان العامل الهيكلي الأعمق الذي مهد لهذه الكارثة. وبحلول عام 2023، تجاوزت حصة الطاقة المتجددة 50% من إجمالي إنتاج الكهرباء في إسبانيا، وتجاوزت 60% في البرتغال، لتُعدّ من بين أعلى النسب في أوروبا. لكن خلافًا لأنظمة التوليد التقليدية، فإن إنتاج الطاقة من المصادر المتجددة يخضع بطبيعته لظروف بيئية مثل شدة أشعة الشمس وسرعة الرياح، ما يؤدي إلى تذبذب واضح في الإمدادات الكهربائية؛ فقد تتغيّر مستويات التوليد تغيرًا كبيرًا خلال دقائق أو حتى ثوانٍ. وعند اقتران هذا التذبذب بأعطال فنية غير متوقعة – مثل انقطاع وصلة ربط كهربائي – تُصبح قدرة الشبكة على الحفاظ على التوازن بين العرض والطلب عرضة لانهيار حاد وسريع.
ويضاف إلى هذه الهشاشة فقدان القصور الذاتي بالشبكة الذي كان يوفره التوليد التقليدي، إذ تعتمد محطات الطاقة الحرارية التقليدية – كالتي تعمل بالفحم أو الغاز أو الطاقة النووية – على توربينات دوّارة ضخمة تختزن طاقة حركية تُستخدم لتقليل الصدمات المفاجئة في تردد الشبكة، وتمنح المشغّلين وقتًا لتنفيذ التدخلات التصحيحية. أما تقنيات الطاقة المتجددة، خصوصًا الطاقة الشمسية الكهروضوئية وبعض أنواع مزارع الرياح، فهي لا تضيف إلا قدرًا ضئيلًا أو منعدمًا من القصور الذاتي إلى النظام الكهربائي. ونتيجة لذلك، تتفاعل الشبكات التي تهيمن عليها مصادر متجددة بطريقة أكثر عنفًا مع الاضطرابات؛ فتغيرات التردد التي كانت مقبولة في نظام غني بالقصور الذاتي تُواجه الآن خطر الانهيار الكامل في غضون ثوانٍ، كما حدث في الانقطاع الذي طال الشبكة الإيبيرية.
فضلًا عن ذلك، لم تُواكب مرونة الشبكة – أي قدرتها على زيادة أو خفض التوليد بسرعة لمواكبة تغيّرات الطلب – الوتيرة السريعة لتوسع الطاقة المتجددة، إذ بقيت الموارد الحيوية المرنة، مثل توربينات الغاز سريعة الاستجابة، ومحطات الضخ والتخزين المائي، وأنظمة تخزين الطاقة بالبطاريات، صغيرة الحجم على نحو غير كافٍ للتعامل مع تقطّع الطاقة المتجددة. وافتقرت الشبكة الإيبيرية إلى القدرة الذاتية السريعة على تثبيت نفسها عند تعرّض وصلة الربط للفشل، فكانت الانهيارات المتتالية أمرًا لا مفرّ منه في ظل غياب منظومة قوية من الأصول المرنة القادرة على تعويض الفقدان المفاجئ للطاقة المستوردة.
وفي نهاية المطاف، فإن اعتماد شبه الجزيرة الإيبيرية على وصلات ربط ضعيفة جعلها معرضة على نحو خاص لمثل هذا النوع من الإخفاقات. فرغم الجهود المبذولة لتعزيز الربط العابر للحدود، ما زالت إسبانيا والبرتغال شبه معزولتين عن الشبكة الأوروبية الرئيسة، بمستوى ترابط لا يتجاوز نحو 6% من القدرة – وهو ما يقل كثيرًا عن الحد الأدنى الذي حدده الاتحاد الأوروبي بنسبة 10%، وعن الحد المثالي للمرونة والذي يُقدَّر بـ15%. ويعني هذا العزل أنه عند فشل الرابط الأساسي، لم تكن هناك مسارات بديلة كافية لاستيراد الطاقة الطارئة أو توفير دعم ترددي. وبوصفها شبكة تعمل كأنها جزيرة شبه مستقلة، انهارت الشبكة الإيبيرية بفعل العيوب الهيكلية التي تعتريها.
ومع الأخذ في الاعتبار جميع العوامل، لم يكن انقطاع التيار الكهربائي نتيجة تلف أحد الأسلاك فحسب، بل كان نتيجةً لتحول في مجال الطاقة، على الرغم من أنه جدير بالثناء من الناحية البيئية، إلا أنه تجاوز نمو الدعم الفني والهيكلي اللازم لدعمه في ظل الضغط. وقد حوّل ارتفاع معدل انتشار الطاقة المتجددة دون استثمارات مماثلة في القصور الذاتي والمرونة والترابطات القوية مشكلةً فنيةً محليةً إلى كارثة قارية.
يقدّم انقطاع التيار الكهربائي في أوروبا رؤى استراتيجية مهمة لعملية الانتقال في الطاقة في الشرق الأوسط. بادئ ذي بدء، يوضح هذا الحدث أن مصادر الطاقة المتجددة لا يمكن أن تكون الركيزة الوحيدة لتوليد الطاقة.
فعلى الرغم من انخفاض أسعار مصادر الطاقة المتجددة وما تتمتع به من مزايا بيئية، فإن بعض المصادر مثل الرياح والطاقة الشمسية تفتقر بطبيعتها إلى الثبات اللازم لضمان توفير الطاقة الأساسية بشكل دائم. حيث تولد هذه المصادر الطاقة بشكل متقطع وغير متوقع، اعتماداً على ضوء النهار وحالة الطقس. ويعرض الاعتماد على الطاقة المتجددة وحدها دون وجود أنظمة احتياطية فعالة—تشمل وحدات توليد الطاقة القابلة للتوزيع، وتخزين الطاقة على نطاق الشبكة، وقدرات سريعة للاستجابة لتذبذب التردد—الشبكة لانهيارات مفاجئة وشديدة عند خروج الظروف عن المألوف.
ورغم سعي الشرق الأوسط الحثيث لتحقيق أهداف الطاقة المتجددة، عليه أن يُدرك أن مزيجاً متوازناً ومتعدد المستويات من مصادر الطاقة يُعد ضرورياً لتحقيق خفض انبعاثات الكربون. حيث يعتمد الأمن القومي على القصور الذاتي للشبكة، والتقنيات السريعة لتحقيق التوازن، والتوليد الاحتياطي الحراري أو الكهرومائي في ظل ظروف الضغط المشابهة لتلك التي شهدتها أوروبا؛ فتلك ليست ترفًا اختياريًا.
علاوة على ذلك، يُظهر انقطاع التيار الكهربائي بوضوح مؤلم أنه رغم أن الربط الإقليمي بين الشبكات يُعد ميزة، فإنه لا يمكن أن يكون بديلاً عن السيادة الوطنية في مجال الطاقة. فعندما تعطّلت وصلات ربط حيوية مثل وصلة الربط بين فرنسا وإسبانيا، تحوّل النظام الأوروبي المترابط—الذي كثيراً ما يُشاد بكفاءته—إلى قناة للهشاشة المنهجية بدلاً من أن يكون مصدراً للمرونة.
ينبغي ألا تفرط دول الشرق الأوسط في الثقة بمبادرات التكامل الإقليمي. فرغم أن الشبكات المترابطة يمكن أن توفّر فرصاً لتجارة الطاقة، وتعزيز الاستقرار، وتحقيق أفضل تخصيص للموارد، لا ينبغي لأي دولة أن تُؤسس أمن الطاق على حسن النية المستمر، أو البنية التحتية، أو الاستقرار لدى جيرانها.
وقد يؤدي إهمال تحقيق الاكتفاء الذاتي إلى أزمات وجودية ناجمة عن توترات سياسية، أو صراعات عابرة للحدود، أو حتى أعطال تقنية بسيطة. فيجب على كل دولة في الشرق الأوسط أن تضمن احتفاظها بشبكة توليد محلية قوية للعمل باستقلالية خلال فترات العزلة الجيوسياسية أو التقنية، مما يوفر شبكة أمان داخلي مستمرة لشعبها واقتصادها.
أما الحاجة الاستراتيجية الثالثة، وربما الأكثر إلحاحاً، فهي ضرورة أن يُسرّع الشرق الأوسط وتيرة استثماراته في الطاقة النووية المدنية، ليس كبديل عن مصادر الطاقة المتجددة، بل كمكمّل ضروري لها. حيث توفّر الكهرباء المولدة من الطاقة النووية مزيجاً فريداً من التوليد الأساسي الخالي من الكربون وقوة استمرار طبيعية للنظام، مما يوفر الاستقرار الدائم والمتين الذي تفتقر إليه المصادر المتقطعة.
تشكل منشآت مثل محطة براكة في الإمارات العربية المتحدة أمثلة إقليمية على كيفية مساهمة البنية التحتية النووية في تعزيز الاكتفاء الذاتي للدولة من الطاقة، مع دعم أهداف خفض انبعاثات الكربون العالمية في الوقت ذاته. حيث توفر الطاقة النووية عمقاً استراتيجياً لا مثيل له في مستقبلٍ تتقاطع فيه أهداف المناخ، وندرة المياه، والنمو السكاني لتشكّل ضغوطاً متزايدة على أنظمة الطاقة؛ إذ تُسهم في استقرار الشبكات، والحفاظ على السيادة الوطنية، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، وتعزيز التنمية الصناعية.
ستظل أهداف الطاقة المتجددة في الشرق الأوسط عرضة من الناحية الهيكلية للتقلب، والانقطاع، والصدمات الخارجية ما لم تُعتمد الطاقة النووية ركيزة أساسية لا غنى عنها. ولذلك، لا بد أن يتقدّم تطوير الطاقة النووية بوتيرة عاجلة وبُعد نظر استراتيجي، على أن يُدمج ضمن خطط الأمن القومي، بدلاً من أن يُؤجل لصالح اعتبارات بيئية أو اقتصادية.
وعلى ضوء ذلك، يقف الشرق الأوسط اليوم عند مفترق طرق حاسم، ومن خلال استخلاص الدروس المستفادة من إخفاق التجربة الأوروبية، يتعيّن على المنطقة أن تصوغ مستقبلًا طاقويًا متنوعًا، ومرنًا، وذو استقلالية استراتيجية، يجمع بين أمل الطاقة المتجددة، وثبات الطاقة النووية المثبت بالأدلة، وحكمة الحفاظ على القدرة السيادية في إنتاج الطاقة.
تساعد تعليقات باحثي مركز الحبتور للأبحاث على المواضيع الجارية إلى تقديم تعقيبات سريعة عبر استعراض وجهات النظر الشخصية، وآراء الخبراء دون تحمل عبء الاستشهادات. و يضمن هذا النهج المرونة والسرعة في مواكبة الموضوعات المطروحة سريعة التطور.
تعليقات