كتب بواسطة

بين ليلة وضحاها أصبحت "بي بي سي" BBC الشبكة الإخبارية الأشهر في بريطانيا والعالم تحت مرمى النيران، واهتزت مصداقيتها في فضيحة إعلامية تتجاوز تداعياتها المؤسسة التي كانت تعد رمزا للمؤسسات الإعلامية العالمية الراسخة، والتي وجدت نفسها متهمة ب "تحريف متعمد لخطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب"، حتى مع استقالة كل من تيم دايفي Tim Davie وديبورا تورنيس Deborah Turness رئيسة الأخبار في "بي بي سي" في 9 نوفمبر 2025، لن يغلق هذا الملف بسهولة، كونه يأتي في توقيت شديد الحساسية تطرح فيه تساؤلات حاسمة حول حدود أدوار وسائل الإعلام وآليات ضمان موثوقيتها، وتواجه فيه المنصات الإعلامية التقليدية منافسة شرسة وتحديات حاسمة يفرضها عليها الذكاء الاصطناعي والتطور غير المحدود في منصات وأدوات العمل الإعلامي، والحقيقة أن أزمات المصداقية لدى هذه المنصات الراسخة مثل "بي بي سي" تأتي بتأثيرات مضاعفة كونها لا تزال تعد بمثابة ملاذ آمن نسبيا للباحثين عن معلومات ومحتوى مُحكم أعده متخصصون مؤهلون، في مقابل المحتوى العشوائي المطروح على المنصات، كما أن الأزمة الراهنة - والتي سيتم التطرق لها ولتبعاتها في السطور القادمة- تعرض نموذجا صارخا لتحولات الإعلام الغربي الذي بات دوره يتجاوز الرقابة والنقل إلى دور الفاعل في حروب السلطة، حيث تقف المؤسسات الإعلامية اليوم في منعطف حاسم، بين متلقي بات يشكك في كل ما يرد أمامه لأنه أصبح يعلم جيدا أن كل شيء وارد تزييفه، فكيف لها أن تستطيع أن تكتسب ثقة واحترام هذا المتلقي، هناك تراخي بالفعل في تطبيق أخلاقيات العمل الإعلامي في المجمل، قد يكون سببها التدفق المبالغ فيه للأخبار والمحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي والتطور التكنولوجي الذي تجاوز حدود إدراكنا، ليخرج تماما عن السيطرة.

الخطاب الذي أشعل العاصفة: ماذا حدث داخل كواليس أزمة BBC وترامب؟

القصة بدأت بوثائقي بثته قناة “بي بي سي” بعنوان Trump: A second chance أو “الفرصة الثانية لترامب” وذلك في 24 أكتوبر 2024 أي قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية بأسبوعين تتحدث فيه عن الخطاب الذي ألقاه ترامب في 6 يناير 2021، وهو اليوم الذي اقتحم فيه أنصاره مبنى “الكابيتول” في واشنطن، حيث قام المحررون بفبركة متعمدة للمحتوى المعروض في الوثائقي وذلك من خلال “حذف” لجزء من الخطاب ودمج لجزء آخر ليصور ترامب وكأنه يدعو أنصاره لشن هجوم على الكابيتول، حيث بدا ترامب وكأنه يقول لأنصاره: “سنسير إلى مبنى الكابيتول، وسأكون معكم هناك، وسنقاتل بشراسة. سنقاتل بشراسة”.

 

“.We’re going to walk down to the Capitol and I’ll be there with you. … We fight. We fight like hell”

 

بينما تم حذف الجزء الذي ذكر فيه ترامب إنه يريد من مؤيديه “أن يُسمِعوا أصواتهم سلميًا ووطنيًا”.

“to peacefully and patriotically make your voices heard”

 

وبتحليل الخطاب الأصلي يتضح أن الفاصل الزمني بين الجزء المحذوف والمضاف يتجاوز 50 دقيقة، وهو ما ينفي احتمالية كونه جهدا تحريريا تقليديا غير موجه، أي أن الخطاب تضمن تغييرا متعمدا للسياق، وخلق رابط ليس له وجود بين جمل الخطاب، من خلال دمج بعضها وقص البعض الآخر، وقد أثيرت هذه المخاوف بشأن هذا التحريف في مذكرة كتبها مايكل بريسكوتMichael Prescott ، المستشار الخارجي المستقل السابق للجنة المبادئ التوجيهية والمعايير التحريرية في هيئة الإذاعة البريطانية (EGSC)، والذي ترك منصبه في الصيف الماضي، حيث ذكر الملف، الذي نشرته صحيفة التلغراف لأول مرة، أن البرنامج جعل ترامب “يقول أشياءً لم يقلها قط” من خلال عملية “قص ولصق” للقطات وهو ما يعد تضليلا ماديا للمشاهدين، ليس هذا فقط بل صور الوثائقي الأمر كما لو أن أعضاء جماعة “براود بويز” Proud Boys، وهي جماعة يمينية متطرفة، قد استلهموا تحركهم للسير نحو مبنى الكابيتول من خطاب ترامب وأن هذا التحرك قد جاء بعد الخطاب، علي الرغم من أن اللقطات التي استخدمها البرنامج لجماعة “براود بويز” وهي تتجه نحو مبنى الكابيتول، قد سُجِّلت قبل خطاب ترامب، وقد كتب بريسكوت: “لقد كان من المضلل تماما تحرير المقطع بهذه الطريقة التي قام بها برنامج بانوراما، إن حقيقة أن السيد ترامب لم يدع صراحة أنصاره للذهاب والقتال في كابيتول هيل كان أحد أسباب عدم توجيه اتهامات فيدرالية له بالتحريض على الشغب”، لقد حذف المحررون عبارة “peacefully and patriotically” ودمجوا بدلا منها We fight. We fight like hell، وهو ما يثير العديد من التساؤلات حول أخلاقيات “تحرير المحتوى الإعلامي” وحدوده.

تساؤلات حرجة: معضلة الحقيقة والتزييف

تطرح الواقعة السابقة العديد من التساؤلات الهامة والحرجة حول واقع وتحديات العمل الإعلامي في العصر الحديث، وفيما يلي بعض من هذه التساؤلات التي تشمل:

 

التساؤل الأول: من يملك الرواية؟

 نحن نحيا الآن في عالم لا يتصارع فقط على الثروة والأرض والنفط والسلاح وغيرها، بل يتصارع علي “الصوت”، المنافسة الحقيقية تدور حول “من يملك الرواية”، هناك العديد من الأزمات الإنسانية التي لا يعلم عنها أحد شيئا، ولم تتلقى أي دعم، وذهب ضحاياها دون أن يسمع لهم صوتا، وأزمات أخرى تحرك العالم لحلها لأنه سمع أصوات أصحابها، هناك قضايا انتصرت وقضايا تصدرت الواجهة فقط لأن أصوات أصحابها كان مسموعا، الإشكالية هنا أن هذا التأثير يصنعه في الغالب رأس المال، مجموعة ليست كبيرة الحجم من الممولين الذين ينتقون ما يصل وما لا يجب أن يصل، حتى في عصر الإنترنت والمنصات، لا زال رأس المال هو المسيطر عبر الإعلانات الممولة والأموال التي يتم دفعها للمؤثرين وصناع المحتوى، لذا فإن من يملك الصوت الآن هو من يملك التأثير، والقوة على تحريك مجريات الأمور لصالحه، في هذا الجانب لم تتغير المعادلة التي كانت ولا زالت تضع المال والسلطة كمفاتيح للرواج والانتشار وترسيخ الرواية البديلة.

 

التساؤل الثاني: هل ينقل الإعلام الواقع أم يصنعه؟ 

تأتي أزمة BBC في توقيت شديد الحساسية، تعاني فيه جماهير القراء والمشاهدين على مستوى العالم من أزمة في تمييز الحقيقي عن الزائف في وسائل الإعلام، وبينما يتساءل العالم عن تأثير الذكاء الاصطناعي في العمل الإعلامي، وحدود التحريف باستخدام “التزييف العميق” أو ال Deep fake والإعلام المولد بالذكاء الاصطناعي AI-generated media يأتي تحريف BBC ليثير تساؤلات عدة تتجاوز التساؤل التقليدي حول ما إذا كان: “هل هذا الخبر صحيح؟” إلي: “هل هذا الحدث قد حدث أصلًا؟”، لقد تغير الإدراك التقليدي لدور الإعلام  الذي يتمثل في كونه ناقلا للواقع، مرآة للحقيقة، شاهدا على ما يحدث، طرفا محايدا قادرا على التقييم الأمين والنقل الدقيق، الآن تحول الإعلام من دور الشاهد إلى دور الفاعل، ليس هذا فقط، بل أحيانا يتحول إلى “مهندس للواقع”، قد يستطيع أن يخلق أزمات لا وجود لها، ويخفي أزمات قائمة، أن يقم بالحشد حيال قضية بعينها ويقتل التعاطف والتوحد مع قضية أخرى، لذا يأتي سؤال الأخلاق ليمثل تحديا خطيرا وهاما ينبغي الوقوف أمامه والبحث عن سبل عملية وواقعية وقابلة للتطبيق لرصده وتحليليه وضبطه.

 

التساؤل الثالث: ما هي الحدود الفاصلة بين المصداقية والانحياز؟

في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبح فيها الكثير من غير المؤهلين أصحاب منصات ومصادر للأخبار والتأثير، غالبا ما يتم اللجوء إلى منصات ذات تاريخ وباع طويل في العمل الإعلامي، منصات راسخة مثل BBC، كونها منصات ذات مرجعية خاضعة للمساءلة ذات هيكل واضح وضوابط معلنة على خلاف منصات وسائل التواصل الاجتماعي، هذا الحدث لا يثير فقط تساؤلات حول جدوى وجدارة هذه المؤسسات بالثقة، بل يطرح تساؤلا أكثر خطورة، وهو هل نحن قادرين على أن نثق في أي من المنصات؟ وكيف نثق؟ لا شك في أن الحديث عن تسييس وسائل الإعلام وتأثير رأس المال وجماعات الضغط السياسي على اتجاهات وسائل الإعلام ليس بجديد، إلا إن هناك دوما الحد الفاصل بين الترويج والتزييف، أصحاب الرؤي السياسية لهم الحق في تمويل منصات تروج أفكارهم ومبادئهم خاصة وأن كانت هذه المبادئ تقوم على قيم إنسانية يرون أنها يمكن أن تساعد في رخاء المجتمعات وارتقائها، ولكن هل لهم الحق في اعتماد مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”؟ ، ففي أزمة بي بي سي على سبيل المثال بات لدى أنصار ترامب حجة قوية ودليل يستخدمونه لتأكيد سرديتهم حول تزييف وسائل الإعلام الليبرالية وافتقارها للموثوقية، إن تداعيات هذه الأزمة لم تضعف فقط بي بي سي وإنما أيضا عززت أيضا حجة ترامب وأكدت لهم أنه بالفعل “ضحية مؤامرة ليبرالية” بل وقد يمتد تأثيرها ليطال مصداقية وسائل الإعلام الليبرالية الأخرى.

 

التساؤل الرابع: هل يتعين على الإعلامي دوما أن ينضم للحشود؟

قد يأتي التزييف مدفوعا بالرغبة في إسماع الناس ما يودون سماعه، أن تنشر من الشواهد والدلائل ما يتفق مع قناعاتهم حتى وإن ثبت خطأ هذه القناعات، والحقيقة التي تفرض نفسها علينا مهما حاولنا تجاهلها هي أننا “ننحاز في الغالب إلى تصديق كل ما يتفق مع وجهات نظرنا ورؤيتنا للعالم” وهو ما يطلق عليه علم النفس “التحيز التوكيدي” Confirmation Bias وهو البذرة التي إن تم ريها باستمرار ستحولنا مع الوقت إلى متطرفين واهمين بأننا نحوذ الحقيقة المطلقة، لا نقبل النقاش أو الجدل، هذا التطرف الذي قد يؤدي بدوره إلى إقصاء الآخر، ونبذه، ونزع صفة الإنسانية عنه dehumanization، إن الانفتاح على الرؤى الأخرى، ورؤية العالم من منظور الآخر المختلف هو ما يصنع الرقي وهو جوهر الفكر المتحرر الذي يخلق مجتمعات متسامحة، قادرة على تفهم الآخر المختلف وتقبله، ولكن دأب الإعلام على تزكية الخلافات واثبات صحة وجهة نظر طرف ما، وحيازة كل فصيل أو اتجاه ساسي لأدواته التي تمجد أفكاره في المطلق حتى لو كانت الأداة التي تستخدمها في ذلك هي التزييف والتحريف وقلب الحقائق سيعمق الانقسامات ويقتل المصداقية.

 

التساؤل الخامس: من المسؤول؟

يحيا المحررون والقائمون على صناعة المحتوى الإعلامي اليوم تحت ضغط  هائل، وهو ما يدفعهم نحو السعي المحموم لجذب أعداد مهولة من المشاهدات، لأن هذا هو معيار التقييم، الإنجاز المعتمد على الأرقام يعد اتجاها كارثيا لتقييم نجاح المنصات الإعلامية على وسائل التواصل الاجتماعي، في عصر المنافسة غير العادلة بين منصات تصنع دون تكلفة تقريبا وتبث محتوى غير دقيق وغير محرر ولم يبذل فيه الجهد المبذول في المنصات الإحترافية ورغم ذلك تحقق مشاهدات أعلى، والسؤال المطروح الآن: هل عدد المشاهدات ” ونقرات الإعجاب “اللايكات” اليوم هي المعيار الحقيقي للنجاح لدى القائمين على صناعة الإعلام؟، اننا في حاجة إلى إعادة النظر في ضوابط تقييم نجاح المحتوى، بإعداد معايير أكثر واقعية وأخلاقية لا تهوي بصانع المحتوى إلى هاوية جذب المشاهدات مهما كان ثمنها، وتضعه في موقف اخيار بين جودة المحتوى ومصداقيته واحترافيته، وبين قدرته على جذب تفاعلات أكثر على وسائل التوال الاجتماعي التي تمجد كل ما هو متطرف وغير معتاد، وتبحث عن التشويق على حساب الحقيقة، ينبغي أن يمنح القائمين على العمل الإعلامي هامش من الأمن الذي يدفعهم نحو البحث عن الحقيقة وجودة المحتوى، وعدم الركض خلف الرواج اللحظي والمؤقت لفكرة أو حدث أو حادث بعينه “ترند”.

 

لاشك أن هذه التساؤلات وغيرها تدفع نحو تبني كود أخلاقي إعلامي عالمي جديد قادر على مواكبة التطور المتسارع، إن اعتماد الإعلام فيما مضى على البشر كناقلين للواقع كان محكوما ويمكن ضبطه ومراقبته ولكن في عصر الذكاء الاصطناعي، أصبحت الخوارزميات بمثابة شريك خفي للبشر في تحرير المحتوى ونقله، بل وربما خلقه، أحيانا تختار ما يثير المشاعر لا الفهم، وما يدفع نحو مزيد من المشاهدات ونقرات الإعجاب، ومن هنا لا نستطيع أن نقول أننا نتحدث فقط عن تحيز بشري ولكن “تحيز اصطناعي إعلامي” تقوم فيه الآلة نفسها بالانحياز لتوليد نوع معين من البيانات والترويج لها، وهو ما يدفع نحو وضع ضوابط لتدريب النماذج المستخدمة في الصحافة مثل Chat GPT و DALL و Midjourney ، وغيرها، على الحيادية، وضمان ألا يتم برمجتها لتنحاز لرواية دون أخرى وتفادي التضخيم والتقزيم والتلاعب والانتقائية والتحريف وغيرها، مع الزام المنصات الإعلامية بتوثيق المحتوى الذي اعتمدت فيه على الذكاء الاصطناعي، وهو ما يدفع نحو إجراء مراجعة دورية ومستمرة على الخوارزمية المستخدمة في صناعة المحتوى الإعلامي.

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *