في الرابع من أغسطس 2025، اندلعت مجددًا اشتباكات بين القوات السورية والقوات الكردية في محافظة حلب، رغم الاتفاق الذي وُقّع بين الجانبين في مارس من العام نفسه. وقد أعاد هذا التصعيد طرح تساؤلات جوهرية حول جدوى هذا الاتفاق وإمكانية استمراره.
منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية عام 2011، سيطرت القوات الكردية في شمال وشرق سوريا، والمتمثلة بشكل رئيسي في قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، على شرق البلاد. وحتى بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 وتشكيل حكومة جديدة، رفضت “قسد” حل قواتها، في ظل استمرار حالة عدم الاستقرار التي كانت لا تزال سائدة في سوريا. وفي الأشهر الأخيرة، جرت مفاوضات بين الحكومة السورية الجديدة و”قسد” أسفرت عن التوصل، في مارس 2025، إلى اتفاق نصّ على حل قوات “قسد” ودمجها في الجيش السوري، مع التأكيد على ضرورة الحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية، وعدم المساس بها بأي شكل من الأشكال.
بعد أشهر من إبرام هذا الاتفاق، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية أنها لن تحل قواتها في إطار عملية الاندماج مع الحكومة السورية الجديدة، بل اقترحت بدلاً من ذلك الإبقاء على كتلة عسكرية منفصلة ضمن وزارة الدفاع. وقد أدى هذا الموقف إلى جمود في المفاوضات، إذ تسعى الحكومة السورية إلى هيكل قيادة عسكرية موحّد. وفوق ذلك، تتمسك “قسد” بالإبقاء على نمط حكم لا مركزي، وهو ما ترفضه الحكومة السورية التي تؤكد على ضرورة ترسيخ نموذج الحكم المركزي. وترى الحكومة السورية أن أي شكل من أشكال الفيدرالية أو اللامركزية يمثل تهديدًا لسيادتها، إذ من شأن الفيدرالية أن تحفّز أقليات أخرى على المطالبة بالحكم الذاتي. هذا الخلاف بين الطرفين أفضى إلى مأزق في مفاوضاتهما بشأن كيفية تنفيذ اتفاق مارس 2025.
في حين تأمل الحكومة السورية أن يشكل حلّ حزب العمال الكردستاني في تركيا دافعًا لقوات سوريا الديمقراطية لأن تحذو حذوه، فإنها لا تستبعد اللجوء إلى الخيار العسكري ضد “قسد” إذا ما استمرت في رفض حل قواتها. لكن هل تستطيع الحكومة السورية في الوقت الراهن خوض مواجهة عسكرية مع “قسد”؟
على الرغم من امتلاك الحكومة السورية قدرات عسكرية كافية لشنّ مثل هذا الهجوم، إلا أنها تفضّل الحلول الدبلوماسية لعدة أسباب. أولًا، البلاد عانت حربًا أهلية منذ عام 2011، وقد دُمّر نظامها الإداري بالكامل، وقد يحتاج إلى سنوات ليعود للعمل بكفاءة بدعم من القوى الأجنبية. وهذا يعني أن أي حرب مع “قسد” ستؤجل مساعي الحكومة السورية لإصلاح أوضاع البلاد. ثانيًا، يرزح الاقتصاد السوري تحت أوضاع متردية للغاية، حيث يعيش ملايين المواطنين تحت خط الفقر، وهو ما يدفع الرأي العام إلى تفضيل الحلول الدبلوماسية لإنهاء النزاع مع “قسد” بدلًا من الانخراط في مواجهة عسكرية قد تزيد الأوضاع الاقتصادية سوءًا. ثالثًا، تواجه الحكومة السورية تهديدات عسكرية خطيرة في مناطق متفرقة من البلاد، من بينها تحركات الدروز في الجنوب، والعلويين في الغرب، الأمر الذي يزيد من احتمال أن تؤدي أي حرب شاملة ضد الأكراد إلى اندلاع صراعات أخرى في الجنوب والغرب، وهو ما قد يحدّ من القدرة العسكرية للحكومة السورية على حسم المواجهة مع تلك القوى. رابعًا، ورغم أن الحكومة السورية تحظى باعتراف الأمم المتحدة، فإنها تميل في الوقت الراهن إلى الحفاظ على حالة السلم الداخلي لترسيخ سلطتها وتعزيز شرعيتها. وأي حرب محتملة مع الأكراد قد تستمر لسنوات، بما قد يقوّض هذه الشرعية ويضعف مكانة الحكومة. فضلًا عن ذلك، فإن نتائج أي مواجهة عسكرية مع الأكراد تبقى غير مضمونة، وهو ما قد يؤدي إلى استنزاف موارد الدولة وتبديد إمكاناتها.
لا تزال حقول النفط والغاز في شرق سوريا تمثل أحد أبرز أسباب التوتر بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية ذات القيادة الكردية. وتقع هذه الحقول، التي تتركز بشكل رئيسي في محافظتي دير الزور والحسكة، تحت سيطرة الأكراد منذ سنوات. ويوفر الدخل المتأتي من هذه الموارد مصدرًا أساسيًا لتمويل البنية العسكرية للإدارة الكردية، وتشغيل مؤسساتها المدنية، وتقديم الخدمات للسكان المحليين. وقد منح هذا الاستقلال المالي “قسد” القدرة على العمل دون الحاجة للاعتماد على دمشق. وبالنسبة للأكراد، فإن التخلي عن هذه الحقول يعني خسارة المصدر الرئيسي لقوتهم، وإضعاف مشروعهم الذاتي، وهو ما يفسر رفضهم حتى الآن تسليمها للحكومة السورية.
ترى الحكومة السورية، في ظل اقتصاد منهار وبنية تحتية مدمرة، أن حقول النفط والغاز تمثل عنصرًا حيويًا لعملية التعافي الوطني. فبعد سنوات الحرب، تحتاج البلاد إلى مصادر دخل موثوقة لاستعادة الخدمات العامة وإعادة بناء مؤسسات الدولة. كما أن استعادة السيطرة على هذه الحقول من شأنه أن يوجّه رسالة قوية مفادها أن الدولة قد أعادت ترسيخ سلطتها على كامل أراضيها. وتعتبر الحكومة أن أي سيطرة خارج إطار الدولة على مثل هذه الموارد الاستراتيجية تشكل تهديدًا مباشرًا لسيادتها. ومن منظور دمشق، فإن السماح لـ”قسد” بالاحتفاظ بهذه الحقول لن يضر بالاقتصاد فحسب، بل سيشجع أيضًا مجموعات أخرى على السعي نحو حكم ذاتي مماثل.
لطالما اعتبرت تركيا قوات سوريا الديمقراطية فرعًا منبثقًا عن حزب العمال الكردستاني، الذي تصنّفه أنقرة كمنظمة إرهابية. ورغم أن حزب العمال الكردستاني قد أعلن رسميًا حلّ نفسه، فإن تركيا تتوقع من “قسد” أن تحذو حذوه. ومع ذلك، إذا اندلعت مواجهة عسكرية بين الحكومة السورية و”قسد”، فقد تتدخل أنقرة لدعم دمشق في إضعاف القوات الكردية. سيصبّ مثل هذا التحرك في خدمة المصالح العليا للأمن القومي التركي، من خلال منع قيام كيان كردي ذي حكم ذاتي قرب حدودها، وتفكيك البنية العسكرية لـ”قسد” في المنطقة، وضمان عدم توسع نفوذ حزب العمال الكردستاني في شمال سوريا. كما أن التحوّل الأخير في الخطاب الدبلوماسي الأميركي تجاه الأكراد يشكل حافزًا إضافيًا لأنقرة للتدخل عسكريًا دعماً لأي حرب سورية محتملة ضدهم، ولا سيما بعدما طالبت الولايات المتحدة الأكراد رسميًا بنزع سلاحهم والاندماج في صفوف الجيش السوري.
في الختام، لا تزال الأوضاع في سوريا تتسم بعدم الاستقرار مع اتساع الهوة بين قوات سوريا الديمقراطية والحكومة السورية. فقد أدّت الخلافات حول مسألة الاندماج العسكري، ونمط الحكم اللامركزي، والسيطرة على حقول النفط والغاز، إلى وصول الطرفين إلى طريق مسدود. ورغم تفضيل الحكومة السورية للحلول الدبلوماسية، يبقى خيار المواجهة العسكرية مطروحًا، ويزداد المشهد تعقيدًا مع احتمالات التدخل التركي، ولا سيما بعد التحوّل في الموقف الأميركي الأخير.
تساعد تعليقات باحثي مركز الحبتور للأبحاث على المواضيع الجارية إلى تقديم تعقيبات سريعة عبر استعراض وجهات النظر الشخصية، وآراء الخبراء دون تحمل عبء الاستشهادات. و يضمن هذا النهج المرونة والسرعة في مواكبة الموضوعات المطروحة سريعة التطور.
تعليقات