مع اتساع نطاق اعتراف الدول بفلسطين، يبرز تساؤل جوهري: هل ستنتقل أشكال الدعم المالي من الإغاثة الإنسانية قصيرة الأجل إلى الاستثمار التنموي طويل المدى؟ قد يسهم الاعتراف في إعادة تشكيل أولويات المانحين، غير أنّ استمرار هيمنة إسرائيل على الموارد المالية والحدود والتجارة يُلقي بظلال من الشك على مدى التحوّل الحقيقي الذي يمكن أن يحدث في هذا المسار.
شهد شهر سبتمبر 2025 تحوّلًا دبلوماسيًا بارزًا تمثّل في اعتراف عدد من الدول الغربية رسمياً بدولة فلسطين. ففي الحادي والعشرين من الشهر نفسه أعلنت كلٌّ من المملكة المتحدة وكندا وأستراليا والبرتغال اعترافها بشكل متزامن، في خطوة منسّقة تعكس إرادة سياسية مشتركة. وفي الثاني والعشرين من سبتمبر انضمّت فرنسا إلى هذه الدول، في إشارة إلى اتساع نطاق الدعم الأوروبي. يُعزّز هذا الموج من الاعتراف الشرعية الدولية لفلسطين ويقوّض حالة الجمود التي اتّسمت بها مفاوضات السلام طوال عقود، حيث ظلّت رهينة الغموض واللايقين. ويمثل هذا التطوّر بالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط مزيجاً من الفرص والمخاطر: فهو يفتح آفاقاً جديدة أمام المساعدات التنموية المهيكلة وتوسيع مجالات التجارة، لكنه في الوقت نفسه يفاقم التوتّر السياسي مع إسرائيل التي تعارض بشدّة هذه الاعترافات.
إنّ اعتراف دول مؤثّرة مثل المملكة المتحدة وفرنسا بدولة فلسطين لا يُجسّد مجرّد اصطفاف سياسي، بل يُعيد تشكيل المشهد الاقتصادي الذي تعمل ضمنه السلطة الوطنية الفلسطينية. فحتى اليوم تحظى دولة فلسطين باعتراف 153 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة، أي ما يقارب 81% من مجموع الأعضاء، وهو ما يُيسّر لها التمتّع بالحقوق التي ينبغي أن تتوافر لأي دولة ذات سيادة. أولًا، من شأن الاعتراف الرسمي أن يُوسّع نطاق وصول فلسطين إلى المؤسسات المالية متعدّدة الأطراف والبنوك التنموية، بما في ذلك مجموعة البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، الأمر الذي يُهيّئ لتحوّل الدعم الخارجي من الإغاثة الإنسانية قصيرة الأجل إلى الاستثمار طويل الأمد في مجالات البنية التحتية، والحَوْكمة، والنمو الاقتصادي. ثانيًا، من خلال إضفاء قدر أكبر من الشرعية المؤسسية، يعزّز الاعتراف قدرة فلسطين على التفاوض بشأن الاتفاقات التجارية، والحصول على دعم موازناتي، واجتذاب تدفّقات رؤوس الأموال الخاصة. وأخيرًا، يشجّع الاعترافُ الدولَ المانحة على إعادة صياغة حزم المساعدات بحيث تنتقل من كونها مساعدات طارئة إلى برامج تنموية منظّمة، بما يعزّز السيادة المالية ويقوّي دعائم البناء المؤسسي.
لذا، فإنّ الاعتراف لا يقتصر على كونه رمزيًا، بل يحمل أيضًا طابعًا تحويليًا لبنية الاقتصاد الفلسطيني، إذ يُحتمل أن يُغيّر معادلة الاعتماد على المساعدات الإنسانية الطارئة ليتّجه نحو الاندماج في الأسواق العالمية والانخراط في مسارات التنمية طويلة الأمد. غير أنّ هذا الاعتراف، على الرغم ممّا يتيحه من مسار نحو واقع اقتصادي جديد، يصطدم بالإطار القائم حالياً للمساعدات الموجَّهة إلى الأرض الفلسطينية المحتلّة، وهو إطار يُبرز العقبات الجسيمة التي تحول دون بلوغ ذلك الهدف.
تعمل المساعدات الموجَّهة إلى الأرض الفلسطينية المحتلّة ضمن بنية مجزّأة من الجهات المانحة وآليات إيصال التمويل. فهناك آليات تقودها الأمم المتحدة، مثل آلية الأمم المتحدة 2720 التي تديرها مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع (UNOPS)، وتهدف إلى تسريع تقديم الإغاثة الإنسانية بما في ذلك الغذاء والمأوى. كما تضطلع وكالات أممية رئيسة، من بينها الأونروا واليونيسف ومنظمة الصحة العالمية، إلى جانب منظمات غير حكومية دولية، بتمويل وتنفيذ مشاريع على الأرض. وتتلقى منظمات غير حكومية مثل المجلس النرويجي للاجئين ومنظمة إنقاذ الطفل تمويلاً كبيراً لتطبيق برامج تتركّز على الصحة والأمن الغذائي والمأوى وغيرها من المبادرات الإنسانية.
يُخصّص معظم التمويل لأغراض إنسانية قصيرة الأجل، مثل التحويلات النقدية وحصص الغذاء وخدمات الرعاية الصحية الطارئة والمأوى المؤقّت، بدلاً من توجيهه إلى استثمارات طويلة المدى. أما المشاريع التنموية، كإعادة تأهيل البنية التحتية أو بناء القدرات المؤسسية، فغالباً ما تعاني نقص التمويل، ويُعزى ذلك أساساً إلى أولويات المانحين وإلى القيود الإسرائيلية المفروضة على حرية الحركة والتجارة وتدفّقات الأموال، ما يعرقل تنفيذ تلك المشاريع. ونتيجة لذلك، تبقى المساعدات منحازة إلى الإغاثة الطارئة، بما يُكرّس الاعتماد على مصادر الدعم الخارجي بدلاً من تعزيز السيادة المالية أو تحقيق نمو اقتصادي مستدام. ويُبرز هذا الواقع الحاجة الماسّة إلى توفير إمدادات منتظمة وضمان وصول آمن وإيجاد حلول سياسية قادرة على رفع أثر المساعدات وتعزيز القدرة على الصمود على المدى الطويل.
بين الأول والخامس عشر من سبتمبر 2025، تعرّض أكثر من 77% من المساعدات الغذائية المنسّقة عبر الأمم المتحدة في قطاع غزة إلى النهب أو التحويل القسري من قِبَل حشود يائسة، ما عطّل آليات التوزيع الموجّهة للمستحقّين. وكشفت تقارير صادرة عن منظمة أطباء بلا حدود أنّ السلطات الإسرائيلية دفعت باتجاه استبدال الجهود الأممية بنظام ذي طابع عسكري هو “مؤسّسة غزة الإنسانية”. ومنذ مايو 2025، قُتل أكثر من 2,500 فلسطيني أثناء محاولتهم الوصول إلى المساعدات قرب نقاط توزيع تابعة لهذه المؤسّسة، وتشير العديد من حالات الوفيات إلى استهداف متعمّد لمدنيين يعانون الجوع. وقد أدّت هذه الديناميات المأساوية، مقترنةً باستمرار تحكّم إسرائيل في العائدات المالية وحجبها مئات ملايين الدولارات سنويًا عن السلطة الفلسطينية، إلى تقييد فعالية المساعدات على نحو بالغ وتفاقم الاعتماد على تدفّقات إنسانية مجزّأة. ومن ثمّ، فإنّ الاعتراف الرمزي وحده لا يكفي لتجاوز العوائق البنيوية التي يفرضها الاحتلال على إيصال المساعدات وعلى مسار التنمية الفلسطينية.
إنّ اعتراف بريطانيا وفرنسا بدولة فلسطين يعني أنّ أربعًا من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي قد أقرت رسميًا بهذه الصفة، ما يجعل الولايات المتحدة معزولة في هذا الملف داخل المجلس.
وعلى نحو مماثل، تُشير النظرية إلى أنّه كلّما ازداد عدد الدول التي تعترف رسمياً بفلسطين، وجدت إسرائيل وحليفتها الرئيسة الولايات المتحدة نفسيهما في موقع متزايد العزلة على الساحة الدولية. وعلى المدى البعيد، قد يؤدّي ذلك إلى فرض حظرٍ وعقوباتٍ دولية على إسرائيل، بما يضغط عليها لتقديم تنازلات لصالح فلسطين. ويُعزّز الاعتراف من قِبَل دول كبرى مثل المملكة المتحدة وفرنسا وكندا الشرعية الدولية لفلسطين، مانحاً إياها وزناً دبلوماسياً أكبر في المحافل العالمية، ومُتيحاً إمكانية الانفتاح على مساعدات تنموية مهيكلة، واتفاقات تجارية، وشراكات استثمارية. وقد يُشجّع ذلك المانحين على تحويل وجهة دعمهم من الإغاثة الإنسانية القصيرة الأجل إلى استثمارات تنموية طويلة الأمد، مثل مشاريع الطاقة المتجددة، والبنية التحتية الرقمية، والإسكان، وتنمية القطاع الزراعي. ويمكن لهذا التحوّل أن يُسهم في توفير فرص العمل، وتحسين مستويات المعيشة، وتقليص الاعتماد على المساعدات الطارئة. وإلى جانب القنوات الثنائية، قد يفتح الاعتراف آفاقاً أوسع للحصول على تمويل متعدد الأطراف، ما يتيح لفلسطين المشاركة بفاعلية أكبر في مبادرات البنك الدولي أو برامج الجوار الأوروبية. كما يُحتمل أن يُحفّز ذلك القطاع الخاص على الانخراط بصورة أوسع، معززًا ثقته بشرعية فلسطين الدبلوماسية المتنامية
ومع ذلك، تواجه هذه المكاسب المحتملة قيودًا جسيمة ناجمة عن استمرار تحكّم إسرائيل في الحدود الفلسطينية والعائدات والإيرادات والسلع وحركة الأفراد والبضائع. فقيود إسرائيل المالية والتنظيمية، التي تمتدّ من إدارة عائدات الجمارك إلى فرض حدود على تدفّق رؤوس الأموال عبر الحدود وعرقلة المشاريع المموّلة من المانحين، تقوّض قدرة فلسطين على الاستفادة الكاملة من أموال التنمية. ومن دون آليات مُلزِمة وضغط دولي مستدام يضمن الوصول والسيادة، يظلّ الاعتراف في الغالب ذا طابع رمزي. ويبقى السؤال المحوري ما إذا كان تعاظم الاعتراف الدبلوماسي سيستطيع أن يحشد ضمانات ملموسة عبر مؤسسات مثل البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، أو من خلال الشروط الأوروبية، أو عبر ضغط جماعي من كتل إقليمية مثل الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، لحماية التدفقات المالية الفلسطينية وتمكين الحوكمة الفعّالة. وفي غياب مثل هذه التدابير، ستبقى العوائق البنيوية التي يفرضها الاحتلال تحول دون إحراز تقدّم اقتصادي ملموس، على الرغم من المكاسب الدبلوماسية المتحققة.
وعليه، يُولّد الاعتراف زخماً لتحويل مسارات التدفقات المالية من الإغاثة قصيرة الأجل إلى التنمية المهيكلة في فلسطين، بما قد يفتح آفاقًا للاستثمار في البنية التحتية، وتعزيز انخراط القطاع الخاص، وتحقيق اندماج إقليمي أوسع. غير أنّ غياب الآليات الكفيلة بضمان سيادة فلسطين على حدودها وإيراداتها وتجارتها يهدّد بأن تبقى هذه المكاسب في إطار رمزي فحسب. ولكسر حلقة الاعتماد على المساعدات الإنسانية المجزّأة، يتعيّن على المجتمع الدولي أن يقترن الاعتراف بممارسة ضغط دبلوماسي واقتصادي حازم على إسرائيل لرفع القيود المالية والقيود المفروضة على الوصول والحركة. ويشكّل ربط التمويل متعدّد الأطراف بمدى الامتثال، وتطبيق اتفاقات تقاسم الإيرادات، ودعم قدرات المؤسّسات الفلسطينية ركائز أساسية في هذا المسار. فمن خلال تحرّك منسّق يضمن الاستقلال المالي الفلسطيني وانسياب مسار التنمية دون عوائق، يمكن أن يتحوّل الاعتراف إلى نمو اقتصادي حقيقي وتحسّن ملموس في سُبُل العيش.
تساعد تعليقات باحثي مركز الحبتور للأبحاث على المواضيع الجارية إلى تقديم تعقيبات سريعة عبر استعراض وجهات النظر الشخصية، وآراء الخبراء دون تحمل عبء الاستشهادات. و يضمن هذا النهج المرونة والسرعة في مواكبة الموضوعات المطروحة سريعة التطور.
تعليقات