يشكّل البيان المشترك الأخير الصادر عن المملكة المتحدة وفرنسا وكندا، والذي هدّد باتخاذ "إجراءات ملموسة" ضد إسرائيل في حال عدم توقفها عن استئناف العمليات العسكرية في غزة وعدم قيامها بزيادة كبيرة في حجم المساعدات الإنسانية، نقطة تحوّل بارزة في الخطاب الدولي المتعلق بالصراع الدائر. تسعى هذه الورقة إلى تحليل توقيت هذا التدخل الثلاثي، واستكشاف طبيعة "الإجراءات الملموسة" التي قد تلجأ إليها هذه الدول، بالإضافة إلى تحليل رد الفعل الإسرائيلي إزاء هذا التصعيد في الضغوط الدولية.

نقطة التحوّل

إن إصدار هذا التحذير القوي في هذا التوقيت من قِبل ثلاث من القوى الغربية المتحالفة هو نتاج تَراكُم عدة عوامل متداخلة. أولًا، بلغت الأزمة الإنسانية في غزة مستوى “لا يُحتمل”، فالتقارير المتواترة عن انتشار المجاعة على نطاق واسع، إلى جانب النقص الحاد في المساعدات، نتيجةً للحصار الإسرائيلي المستمر والتصعيد العسكري المتجدد، أثارت قلقاً عالمياً متصاعداً. وقد دأبت الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية على التحذير من خطورة الوضع، مشيرة إلى أن الكميات المحدودة من المساعدات التي تسمح إسرائيل بدخولها لا تمثل سوى “قطرة في محيط” مقارنةً بالاحتياجات الماسّة. إن استمرار منع دخول المساعدات الأساسية، كما جاء في البيان المشترك، يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه قد يشكّل انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي، الأمر الذي يفرض ضغوطاً قانونية وأخلاقية متزايدة على هذه الدول للتحرك.

 

ثانيًا، إن حجم وطبيعة العمليات العسكرية الإسرائيلية المتجددة، لا سيما التوسع في مناطق كانت تُصنَّف سابقاً على أنها “مناطق آمنة” للمدنيين النازحين، قد أثارت إدانات واسعة النطاق. وعلى الرغم من إقرار الدول الثلاث—المملكة المتحدة وفرنسا وكندا—بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس عقب هجمات السابع من أكتوبر، فإنها وصفت التصعيد الراهن بأنه “مفرط ولا يتناسب مع التهديد”. كما أن الزيادة المطردة في أعداد الضحايا المدنيين، إلى جانب الدمار الواسع الذي طال البنية التحتية، قد عزّز من الدعوات المطالبة بوقف فوري للأعمال العدائية، وبضرورة تبنّي نهج أكثر ضبطاً للنفس في العمليات العسكرية.

 

ثالثًا، هناك قلق متزايد بشأن التداعيات بعيدة المدى لهذا الصراع، ولا سيّما ما يتعلق بمستقبل حل الدولتين وإمكانية تطبيقه. فقد نص البيان المشترك صراحةً على رفض التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية، والذي يُنظر إليه على نطاق واسع باعتباره يقوّض فرص قيام دولة فلسطينية مستقبلية. كما أن “اللغة البغيضة” التي استخدمها بعض المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية، والتي تضمّنت تهديدات بالترحيل القسري والدائم للمدنيين في قطاع غزة، قد أثارت مخاوف عميقة من احتمالات تنفيذ تطهير عرقي، وهو ما استدعى رد فعل دولي صارم.

 

وأخيرًا، وعلى الرغم من أن هذه الدول كانت تاريخياً من أقرب الحلفاء لإسرائيل، فإن مشاهد المعاناة الإنسانية المتواصلة، إلى جانب ما يُنظر إليه على أنه تعنت من جانب حكومة نتنياهو، قد أديا إلى تآكل ملموس في التعاطف الشعبي والسياسي تجاه إسرائيل. وقد زاد من وطأة هذا التآكل الزخم الشعبي المتصاعد للمظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية، والتي اجتاحت عدداً من المدن الأوروبية الكبرى، بما في ذلك لندن وباريس ومدن حضرية رئيسية أخرى في كلٍّ من المملكة المتحدة وفرنسا. وقد جذبت هذه التظاهرات، التي غالباً ما شارك فيها مئات الآلاف من المتظاهرين، اهتماماً إعلامياً وجماهيرياً كبيراً، ما وضع ضغوطاً سياسية غير مسبوقة على الحكومات المعنية. ويبدو أن الإحساس العام بعدم فعالية الوساطات الدبلوماسية التقليدية والنداءات الهادئة قد أسهم في تبرير اتخاذ موقف أكثر حزماً. كما أن الضغط الشعبي الداخلي، والذي شمل مطالبات بفرض عقوبات، وإعادة تقييم العلاقات الدبلوماسية، وزيادة المساعدات الإنسانية، يُرجَّح أنه لعب دوراً مباشراً في صياغة هذا الموقف الحازم.

الخيارات المطروحة؟

تشير عبارة “إجراءات ملموسة” إلى الانتقال من مجرد الإدانة اللفظية إلى خطوات عملية ذات طابع ملموس. وعلى الرغم من أن البيان المشترك لم يحدد طبيعة هذه الإجراءات بدقة، فإن سوابق الضغط الدولي واللغة المستخدمة في البيان تتيح بعض الاستنتاجات بشأن ما قد يكون قيد الدراسة.

 

يتمثّل أحد أبرز الاحتمالات في فرض عقوبات محددة الأهداف، فقد أشار البيان المشترك صراحةً إلى “فرض عقوبات”، لا سيما في سياق التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية. وقد تشمل هذه العقوبات أفراداً أو كيانات ضالعة في العمليات العسكرية الإسرائيلية أو في عرقلة وصول المساعدات الإنسانية. وتتعدد أشكال العقوبات المحتملة، بما في ذلك حظر السفر، وتجميد الأصول، وفرض قيود على المعاملات المالية، أو حتى قيود على التجارة مع أفراد أو مؤسسات ذات صلة بالأنشطة الاستيطانية أو بالعمليات العسكرية الجارية في قطاع غزة.

 

ومن الخيارات الأخرى الممكنة تقليص التعاون العسكري أو وقف مبيعات الأسلحة. فرغم أن هذه الدول تُعد من الموردين الرئيسيين للمعدات العسكرية والدعم الاستخباري لإسرائيل، فإن تفاقم الأزمة الإنسانية قد يدفعها إلى إعادة النظر في هذه العلاقات. وسيشكل اتخاذ مثل هذه الخطوة تحولاً مهماً، إذ يعكس مستوى أعمق من الرفض السياسي، وقد يترك أثراً مباشراً على القدرات العسكرية الإسرائيلية. وبالتوازي مع ذلك، قد تعمد الدول الثلاث إلى تعزيز الدعم المالي واللوجستي للسلطة الفلسطينية والمنظمات الدولية المعنية بتقديم المساعدات، بهدف الالتفاف على السيطرة الإسرائيلية وتعزيز الضغوط من أجل تسهيل الوصول الإنساني.

 

علاوة على ذلك، يمكن لهذه الدول أن تدفع باتجاه اتخاذ تدابير قانونية ودبلوماسية أكثر قوة على الساحة الدولية. وقد يشمل ذلك دعم قرارات في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تدعو إلى وقف إطلاق النار، وضمان وصول المساعدات دون عوائق، أو حتى تأييد فتح تحقيقات في مزاعم انتهاكات للقانون الدولي، بما في ذلك جرائم الحرب، من خلال هيئات قانونية دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية. ورغم أن الولايات المتحدة غالباً ما تستخدم حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لحماية إسرائيل، فإن موقفاً موحداً من حلفاء غربيين بارزين قد يعزز الضغط الدبلوماسي ويضيق هوامش المناورة.

 

وأخيراً، هناك احتمال اتخاذ خطوات دبلوماسية مثل خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي أو سحب السفراء. وعلى الرغم من أن هذا الخيار يُعد أقل ترجيحاً كخطوة أولى، إلا أن مثل هذا الإجراء الرمزي سيكون بمثابة رسالة واضحة عن الاستياء الشديد، وقد يُمهّد الطريق لإجراءات أكثر تأثيراً في حال استمر تدهور الوضع. كما أن التركيز المتزايد في الخطاب الرسمي لهذه الدول على ضرورة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، يعكس تحولاً محتملاً في أولوياتها الدبلوماسية، وقد يُترجم إلى خطوات أكثر فاعلية في دعم هذا الهدف مستقبلاً.

رد فعل إسرائيل

جاء رد إسرائيل على البيان المشترك سريعًا وحاسمًا، وتمثل في تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو التي اتسمت بالتحدي الواضح. فقد رفض نتنياهو التحذير باعتباره “مكافأة ضخمة للهجوم الإبادي على إسرائيل في السابع من أكتوبر، ودعوة لارتكاب المزيد من هذه الفظائع”. وأعاد التأكيد على التزام إسرائيل بتحقيق “نصر كامل” على حركة حماس، مشدداً على أن الحرب لن تتوقف إلا في حال إطلاق سراح جميع الرهائن، وتجريد الحركة من سلاحها، ونفي قادتها خارج القطاع، وتجريد غزة من السلاح. هذا الموقف يعكس رفضاً واضحاً لأي انحراف عن الأهداف العسكرية المعلنة، واعتبار الضغوط الخارجية تهديداً للأمن القومي الإسرائيلي.

 

ومع ذلك، وعلى الرغم من التصعيد اللفظي، فقد لوحظت بعض التنازلات المحدودة فيما يتعلق بالمساعدات الإنسانية. فقبيل صدور البيان المشترك، أعلنت إسرائيل أنها ستسمح بإدخال “كمية أساسية من الغذاء” إلى قطاع غزة بعد أحد عشر أسبوعاً من الحصار الكامل. ورغم أن المملكة المتحدة وفرنسا وكندا اعتبرت هذا الإعلان “غير كافٍ على الإطلاق”، إلا أن هذه الخطوة تعكس أن الضغط الدولي، وخصوصاً من الحلفاء التقليديين، ليس بلا تأثير. وقد أقر نتنياهو نفسه بتزايد الضغوط القادمة من واشنطن، في إشارة إلى التعقيدات التي تحكم توازن إسرائيل بين التشدد الداخلي من جهة، والاستجابة المحدودة للمطالب الدولية من جهة أخرى.

 

في الوقت ذاته، ترفض إسرائيل بشكل قاطع المقترحات المطروحة بشأن الانتقال السياسي في غزة، سواء عبر إشراك السلطة الفلسطينية أو من خلال نشر قوات حفظ سلام دولية. وبدلاً من ذلك، تواصل إسرائيل تنفيذ استراتيجيتها العسكرية المعروفة باسم “مركبات جدعون”، والتي تهدف إلى “غزو” غزة وإنهاء سيطرة حركة حماس على القطاع. وتتضمن هذه المقاربة خططاً للتهجير القسري للمدنيين الفلسطينيين في غزة، وهو ما أدانته كل من بريطانيا وفرنسا وكندا صراحة في بيانهما المشترك. وتظل الفجوة شاسعة بين الأهداف الأمنية التي تسعى إليها إسرائيل، والمطالب الإنسانية الملحة التي يرفعها المجتمع الدولي، حيث لا تزال المساعدات الإنسانية تتدفق بوتيرة محدودة، دون أن تلوح في الأفق مؤشرات على تغيير جذري في السياسة الإسرائيلية.

 

تُقابل تبريرات الحكومة الإسرائيلية القائلة إن حركة حماس تقوم بسرقة المساعدات الإنسانية، وإن هناك حاجة إلى نظام توزيع جديد لمنع هذا “النهب”، بتشكيك واسع من قِبل منظمات الإغاثة. فهذه المنظمات تؤكد على أهمية إيصال المساعدات بصورة مستقلة ومحايدة، وترفض التعاون مع الآلية الجديدة التي تقترحها إسرائيل لتوزيع المساعدات. ويعكس هذا الرفض عمق انعدام الثقة بين الطرفين، فضلاً عن التحديات اللوجستية الكبيرة التي تعيق فعالية إيصال الإغاثة.

 

ختامًا، يُمثّل البيان المشترك الصادر عن المملكة المتحدة وفرنسا وكندا تصعيداً ملموساً في مستوى الضغط الدولي على إسرائيل في ظل استمرار النزاع في غزة. ويعكس توقيت هذا التحرك لحظة حرجة يتقاطع فيها تفاقم الأزمة الإنسانية، وتصاعد العمليات العسكرية على نحو غير متناسب، وتزايد القلق بشأن استقرار المنطقة على المدى الطويل. ويشير التحذير باتخاذ “إجراءات ملموسة” إلى استعداد هذه الدول لتجاوز حدود الخطاب السياسي، والنظر بجدية في اتخاذ تدابير عملية، مثل فرض العقوبات أو العزلة الدبلوماسية. ورغم أن الرد الإسرائيلي الأولي جاء في معظمه متحدّياً ورافضاً، فإن الضغط المتزايد من قبل الحلفاء الرئيسيين قد يدفع الحكومة الإسرائيلية إلى إعادة النظر في استراتيجيتها العسكرية وفي سياساتها الإنسانية، لتفادي التعرض لعواقب دولية أكثر حدة. ومن المتوقع أن تكون الأسابيع المقبلة، بما في ذلك مؤتمر الثامن عشر من يونيو، حاسمة في اختبار مدى التزام هذه الدول بتحركاتها الجديدة، وكذلك في قياس استعداد إسرائيل للتكيّف مع بيئة دولية تشهد تحولات سريعة. رغم استئناف المساعدات الإنسانية بشكل جزئي، لا تزال المطالب السياسية الجوهرية تواجه رفضاً مستمراً، مما يُلقي بظلال من الشك على مستقبل الصراع وإمكانية التوصّل إلى تسوية دائمة.

 

تساعد تعليقات باحثي مركز الحبتور للأبحاث على المواضيع الجارية إلى تقديم تعقيبات سريعة عبر استعراض وجهات النظر الشخصية، وآراء الخبراء دون تحمل عبء الاستشهادات. و يضمن هذا النهج المرونة والسرعة في مواكبة الموضوعات المطروحة سريعة التطور.

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *