في الثالث عشر من يونيو 2025، نفّذت إسرائيل عملية عسكرية جوية غير مسبوقة ضد إيران تحت مسمى "عملية الأسد الصاعد"، دشّنت بها تحولًا استراتيجيًا بالغ الدلالة في عقيدتها الأمنية تجاه المشروع النووي الإيراني. استهدفت الضربات، التي نُفذت بمشاركة أكثر من 200 طائرة مقاتلة من طرازات F-15I، وF-35، وF-16I، منشآت نووية مركزية، أبرزها موقع نطنز للتخصيب، إضافة إلى مقار أمنية وعسكرية حساسة في طهران، ومواقع يُشتبه باحتوائها على منظومات صاروخية تحت الأرض في عدة محافظات.
ترافقت الغارات الجوية مع عمليات ميدانية محدودة نفذتها وحدات كوماندوز إسرائيلية داخل الأراضي الإيرانية، إلى جانب هجمات نفذتها طائرات مسيّرة محلية الإطلاق وشبكات تخريب داخلية جرى تفعيلها بالتزامن، مما يعكس اعتمادًا واضحًا على نمط الحرب الهجينة متعددة الوسائط. أسفرت العملية عن مقتل عدد من كبار القادة العسكريين الإيرانيين، بينهم اللواء حسين سلامي، واللواء محمد باقري، بالإضافة إلى اغتيال عدد من العلماء المرتبطين بالبرنامج النووي. وعلى الرغم من ذلك، بقيت منشأة فوردو – المحصّنة تحت جبل قرب مدينة قم – خارج نطاق الاستهداف، وهو ما أبقى على قدرة إيران التقنية في استئناف تخصيب اليورانيوم عند مستويات مرتفعة.
في المقابل، ردّت طهران بإطلاق أكثر من 100 طائرة مسيّرة هجومية تجاه إسرائيل، وأعلنت الشروع في بناء منشأة نووية جديدة "غير قابلة للاختراق"، فضلاً عن تحديث البنية التحتية لمنشأة فوردو. على الصعيد الدولي، ارتفعت أسعار النفط بأكثر من 10% خلال 24 ساعة، وسط إدانات خليجية وعربية أكدت خطورة التصعيد.
انطلاقًا من ذلك، يهدف هذا الملف إلى تحليل أنماط الرد الإيراني المحتمل، واستشراف تداعيات العملية على الأمن الإقليمي في الخليج العربي، في ضوء السيناريوهات المتوقعة للرد الإيراني.
بعد الضربة الإسرائيلية الواسعة التي طالت قلب البنية النووية والعسكرية الإيرانية، وُضعت الجمهورية الإسلامية أمام اختبار حرج يتعلق بقدرتها على امتصاص الصدمة والتفاعل معها دون الانزلاق إلى حرب شاملة قد تفوق قدرتها الاستراتيجية والاقتصادية. بالتالي اتّسم السلوك الإيراني عقب العملية بثلاثة مستويات مترابطة من التفاعل: استجابة فورية ذات طابع تكتيكي، وإعادة تموضع للمشروع النووي في ضوء الاستهداف المباشر، ثم إدارة فراغ القيادة العسكرية الذي نتج عن تصفية عدد من القادة من الصف الأول. يعكس هذا التدرج تعددية في أدوات القوة الإيرانية، وميلًا نحو استهلاك الوقت بدلًا من القرارات الانفعالية. ويمكن تحليل هذه المستويات الثلاثة على النحو التالي:
جاءت أولى مظاهر الرد الإيراني في شكل هجوم جوي باستخدام أكثر من مائة طائرة مسيّرة هجومية أُطلقت باتجاه المجال الجوي الإسرائيلي خلال أقل من 24 ساعة من الغارات الإسرائيلية. ورغم أن هذا العدد يُعد ضخمًا من الناحية العددية، إلا أن فاعليته العملياتية كانت محدودة؛ إذ اعترضت منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية الغالبية العظمى منها قبل اختراق الأجواء، دون تسجيل أضرار مادية أو بشرية كبيرة. يكشف هذا النمط من الرد عن اختيار إيراني واعٍ للانضباط الاستراتيجي، عبر تفعيل أداة منخفضة الكلفة والفعالية، تُحقق غرضًا رمزيًا بحده الأدنى، لكنها لا تدفع نحو تصعيد مباشر وشامل.
كما حمل الرد الجوي رسالة مزدوجة؛ فهو من جهة لبّى الحاجة السياسية للرد السريع حفاظًا على صورة الردع الداخلي، ومن جهة أخرى مثّل اختبارًا أوليًا لقدرات الدفاع الإسرائيلي دون اللجوء إلى صواريخ باليستية ثقيلة قد تستجلب ردًا أمريكيًا مباشرًا. تتسق هذه السياسة مع نمط سابق شوهد عقب اغتيال قاسم سليماني في يناير 2020، حيث لجأت إيران لضربات مدروسة ومحدودة ضد قواعد أمريكية في العراق، حافظت فيها على الخطاب السياسي، دون تفجير الاشتباك الشامل.
رغم ما حملته الغارات الإسرائيلية من استهداف مباشر لمنشأة نطنز، فإن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أكدت غياب أي مؤشرات على تسرب إشعاعي، ما يعني أن الضربات لم تمس البنية التحتية العميقة للموقع، وتحديدًا وحدة التخصيب السفلية المحصنة. والأهم أن منشأة فوردو – الأكثر تحصينًا والأقرب لبلوغ التخصيب بدرجات عسكرية – لم تتعرض لأي استهداف على الإطلاق، وبقيت بكامل قدرتها التشغيلية.
جاء ردّ الفعل الإيراني على هذا المعطى توسعيًا، ولم يكن دفاعيًا؛ إذ أعلنت طهران مباشرة بعد الضربة عن نيتها إنشاء موقع ثالث للتخصيب في مكان لم يُعلن عنه، ووصِف بأنه “محصن وغير قابل للاستهداف الجوي”، بالتزامن مع قرار فوري باستبدال أجهزة الطرد المركزي القديمة في فوردو بنماذج من الجيل المتقدم. بهذا المعنى، شكّلت الضربة الإسرائيلية لحظة تسريع لا لحظة إيقاف، وأعادت إيران صياغة هندسة برنامجها النووي على نحو أكثر عمقًا وانتشارًا وسرّية، بما يعقّد مستقبلاً أي جهود استخباراتية أو عسكرية لاكتشاف مواقع جديدة أو تدميرها.
هذا النمط من السلوك متجذر في الأداء الإيراني بعد كل ضربة نوعية، كما في حادثتي التخريب في نطنز عامي 2020 و2021، حين عادت المنشأة للعمل بكفاءة أعلى خلال أسابيع. يعكس ذلك نمطًا مؤسسيًا في قدرة النظام على امتصاص الهجمات ثم استخدامها كحجج لتوسيع البنية التحتية وتقليل الاعتماد على المواقع المعروفة، ما يزيد من تكلفة الضربات المستقبلية ويُضعف من جدوى أي حملة استباقية مشابهة.
مثّلت تصفية كلٍّ من اللواء حسين سلامي، القائد العام للحرس الثوري، واللواء محمد باقري، رئيس الأركان العامة، ومعهما قادة من الصف الأول كغلام علي رشيد وعدد من العلماء النوويين، واحدة من أكبر الضربات الممنهجة التي استهدفت القيادة السيادية الإيرانية منذ نهاية الحرب مع العراق عام 1988. ومع ذلك، فإن البنية المؤسسية للأجهزة العسكرية الإيرانية – سواء الجيش النظامي أو الحرس الثوري – تقوم على مبدأ “استمرارية القيادة تحت النار”، وقد خضعت لعمليات محاكاة متكررة منذ عام 2012 تحسّبًا لهجمات إسرائيلية أو أمريكية تستهدف الرأس القيادي.
في هذا الإطار، ورغم الفجوة الفورية التي أحدثتها العملية في رأس الهرم، فإن التوقعات تشير إلى قدرة المؤسسة العسكرية على ترميم نفسها خلال فترة وجيزة، خصوصًا في ظل وجود مجالس قيادة جماعية تتوزع فيها الصلاحيات وتُدار من غرف عمليات متعددة. ومع ذلك، فإن الأثر السياسي والنفسي لتصفية هذه الشخصيات لا يمكن تجاهله، فقد يؤدي إلى دفع المؤسسة نحو ردّ أكثر انضباطًا من جهة، أو نحو تفعيل أدوات غير تقليدية من جهة أخرى، مثل توسيع نطاق الرد عبر وكلاء إقليميين في العراق، أو اليمن، أو حتى استهداف الخليج العربي.
بذلك، يمكن القول إن إيران لا تزال تحتفظ بقدرة كاملة على إعادة الهيكلة، لكنها تواجه معادلة جديدة تُرغمها على تطوير توازن ردع متحرك، ومتعدد الجبهات، ومقاوم للانكشاف، في بيئة إقليمية لم تعد تقبل بقاء البرنامج النووي في وضعه الحالي دون مواجهة.
برغم أن الرد الإيراني الأولي جاء في صورة إطلاق أكثر من مئة طائرة مسيّرة باتجاه إسرائيل، إلا أن طبيعته الرمزية وعدم فعاليته العملياتية يؤكدان أن الرد الحقيقي لم يبدأ بعد، وأن طهران ما زالت تحتفظ بجعبة واسعة من الخيارات التي يمكن استخدامها ضد مصالح خصومها في الخليج، بدرجات متفاوتة من التصعيد. وبناءً على الخبرة التاريخية لسلوك إيران في لحظات الضغط القصوى، وطبيعة أدوات القوة المتاحة لديها، يمكن رسم ثلاث مسارات محتملة للرد الإيراني، تطال بدرجات متفاوتة دول مجلس التعاون الخليجي: المسار المباشر (الهجمات الصاروخية والجوية)، والمسار غير المباشر (الوكلاء الإقليميون)، والمسار الاقتصادي-التخريبي (استهداف البنية التحتية والممرات البحرية). وتُعد هذه المسارات غير حصرية، بل قابلة للتكامل حسب الضرورات الاستراتيجية التي يفرضها التوقيت أو السياق الجغرافي.
تُظهر الضربة الإسرائيلية أن إيران ما زالت تلتزم بحدود دنيا من قواعد الاشتباك المباشر، تجنّبًا لانزلاق شامل نحو حرب تقليدية واسعة النطاق. ومع ذلك، لا يُمكن استبعاد أن تلجأ طهران إلى ضربات صاروخية أو جوية مركّزة على “أهداف ناعمة” في دول الخليج، أو قواعد عسكرية بها، وخصوصًا تلك التي تحتفظ بعلاقات أمنية معلنة مع إسرائيل، مثل الإمارات والبحرين. وتشمل هذه الأهداف منشآت نفطية، أو مطارات مدنية، أو محطات كهرباء، أو موانئ تصدير حيوية.
تملك إيران ترسانة واسعة من الصواريخ الباليستية متوسطة المدى، مثل “شهاب-3” و”سجّيل”، القادرة على بلوغ العمق الخليجي بدقة متزايدة. وقد سبق لإيران أن استخدمت هذه القدرة ضد أهداف أميركية في قاعدة “عين الأسد” في العراق عام 2020، وهو ما أثبت عمليًا أنها لا تفتقر إلى الجرأة السياسية أو الكفاءة الفنية لتنفيذ هجمات مباشرة عند الضرورة. كما أن التجربة اليمنية خلال 2022، حين تعرّضت الإمارات لهجمات حوثية بطائرات مسيّرة وصواريخ باليستية، تؤكد هشاشة بعض المنشآت الحيوية أمام الضربات بعيدة المدى.
لكن تنفيذ ضربات مباشرة على أراضٍ خليجية سيعتمد على عاملين حاسمين: أولًا، قدرة إيران على تقديم هذه الضربات بوصفها ردًا “مشروعًا” على تعاون أمني مباشر مع الولايات المُتحدة أو إسرائيل؛ وثانيًا، مدى استعداد الولايات المتحدة للتدخل في حال تعرّضت مصالحها أو قواعدها في الخليج لهجمات متزامنة. في حال قررت طهران تفعيل هذا الخيار، فإنها ستسعى غالبًا إلى استخدامه كأداة تحذيرية متدرجة، دون تجاوز العتبة التي تستدعي ردًا أميركيًا حاسمًا.
يُمثّل استخدام الوكلاء الخيار الأرجح لإيران إذا أرادت الرد بطريقة مدروسة دون تحمل كلفة الحرب المباشرة. فطهران تمتلك شبكة واسعة من القوى غير النظامية الموالية لها، تشمل الحوثيين في اليمن، والميليشيات الشيعية في العراق، وحزب الله في لبنان، بالإضافة إلى خلايا نائمة في بعض دول الخليج، استخدمتها سابقًا في أعمال تخريبية محدودة.
تشير سوابق استخدام هذا المسار إلى فاعليته السياسية والدعائية. فقد تمكّن الحوثيون، في عدة مناسبات، من استهداف منشآت حيوية في السعودية والإمارات، كما جرى في هجومي 2019 و2022، دون أن تتحمل إيران مسؤولية مباشرة، مما وفّر لها هامشًا واسعًا من الإنكار. كما أن هذه المجموعات تملك اليوم قدرات مستقلة في تصنيع الطائرات المسيّرة، وشنّ عمليات هجومية نوعية على ممرات بحرية أو منشآت تصدير، كما حدث سابقًا في هجمات على ميناء ينبع، أو السفن قبالة الفجيرة.
في السياق العراقي، يمكن للميليشيات الموالية لإيران أن تُشكّل منصة لضرب مصالح أميركية أو خليجية في العمق العراقي، وهو ما قد يُربك حسابات الولايات المتحدة ويُجبرها على تفريق جهود الردع. ومن ثمّ، فإن إيران قد تستخدم هذه الأذرع بأسلوب التدوير الجغرافي للضغط، فتستهدف في مرحلة أولى المصالح الغربية في العراق أو سوريا، وتُصعّد تدريجيًا نحو أهداف خليجية، بما يمنحها مرونة في إدارة وتيرة التصعيد.
لعل السيناريو الأخطر، والأكثر تعقيدًا من حيث تداعياته العالمية، يتمثّل في لجوء إيران إلى شنّ هجمات اقتصادية مباشرة أو غير مباشرة على منشآت وممرات حيوية خليجية، وعلى رأسها مضيق هرمز وميناء الفجيرة، أو البنى التحتية للطاقة والمياه والكهرباء في المدن الساحلية الإماراتية والسعودية. وقد سبق لإيران أن لوّحت بهذا الخيار في عدة محطات، معتبرة أن أي تهديد لسيادتها يجب أن يُقابل بتكلفة على النظام الاقتصادي العالمي ككل.
يمثل مضيق هرمز نقطة ضعف استراتيجية شديدة الحساسية، نظرًا لمرور أكثر من خمس تجارة النفط العالمية من خلاله، بالإضافة إلى ما يحمله من أهمية لوجستية لتصدير الغاز والبتروكيماويات من الخليج إلى آسيا وأوروبا. ويُمكن لإيران، باستخدام أدوات غير تقليدية مثل الألغام البحرية، أو الزوارق الانتحارية، أو الهجمات السيبرانية على أنظمة الملاحة، أن تُربك حركة التجارة العالمية دون أن تعلن مسؤوليتها المباشرة، مما يجعل عملية الرد أكثر صعوبة وتعقيدًا سياسيًا.
وبالنظر إلى أن الهجمات على منشآت سعودية في بقيق وخريص عام 2019 تسببت في تعطيل نحو 5.7 مليون برميل من الطاقة الإنتاجية اليومية للسعودية، فإن أي هجوم مماثل في السياق الحالي قد يُحدث اضطرابًا أكبر، في ظل هشاشة الأسواق العالمية بعد أزمة الطاقة الأوروبية والحرب الروسية الأوكرانية. وبالتالي، فإن لجوء إيران لهذا النوع من الرد، حتى وإن اقتصر على التهديد، يُعد أداة ردع استراتيجية ذات فاعلية مرتفعة.
في المحصلة، فإن الخيارات الإيرانية للرد على “الأسد الصاعد” لا تتسم فقط بالتعدد، بل تتمتع بدرجة عالية من التكيّف والمرونة. ولا يبدو أن طهران مضطرة لتبني خيار واحد، بل ستلجأ إلى دمج المسارات الثلاثة بشكل متدرج وتراكمي، وفقًا لدرجة التصعيد الإسرائيلي، وردود الفعل الدولية، وموقف الولايات المتحدة، ومستوى الانكشاف الخليجي في كل لحظة زمنية.
عندما نفّذت إسرائيل ضربتها الجوية الواسعة ضد إيران في 13 يونيو 2025، دفعت الخليج إلى قلب معادلة أمنية غير مستقرة. لم تُعد دول الخليج طرفًا مراقبًا لصراع إقليمي بعيد، بل وجدت نفسها في مواجهة استراتيجية، وقريبة من خطوط التماس العسكرية والاقتصادية مع طهران. وقد فرضت هذه اللحظة على دول المنطقة، وفي مقدمتها الإمارات العربية المتحدة، إعادة تقييم جذرية لموقعها ضمن معادلات الردع، وحدود تحالفاتها، ودرجة تحملها لكلفة الانخراط في منظومة أمنية إقليمية، موجهة ضد إيران، وعند تفكيك هذا المشهد، يمكن تحديد ثلاث دوائر تأثير مركزية: الاقتصاد السياسي للطاقة، المواقف الدبلوماسية، وتحولات العقيدة الدفاعية.
أدّت الضربة الإسرائيلية إلى رفع أسعار النفط بأكثر من 10% خلال أقل من 24 ساعة، نتيجة تصاعد المخاوف من استهداف محتمل للمضائق الحيوية، وعلى رأسها مضيق هرمز، الذي تمر من خلاله ما يقارب 20% من إمدادات النفط العالمية يوميًا. وقد فرض هذا التحول المباغت على الدول الخليجية، لا سيما الإمارات، التعامل مع واقع باتت فيه منشآتها الحيوية وممراتها البحرية عُرضة لتهديد مباشر، سواء من إيران نفسها أو من وكلائها الإقليميين.
ورغم سعي دول الخليج العربي عمومًا وخصوصًا الإمارات في السنوات الماضية إلى تنويع موانئها وتعزيز قدراتها اللوجستية، إلا أن واقعها الجغرافي ما زال يفرض درجة عالية من الانكشاف على إيران، خصوصًا لمنشآت التصدير في الرويس والفجيرة. ويكشف هذا الاضطراب عن هشاشة البنية الاقتصادية في مواجهة التهديدات الجيوسياسية القريبة، ويدفع صُنّاع القرار في أبوظبي إلى مزيد من التسريع في إعادة صياغة نموذج النمو الاقتصادي، بحيث يؤدي لمزيد من التقليص في الاعتماد على العوائد الهيدروكربونية في بيئة دولية متقلبة.
في المقابل، تُدرك إيران أن أي تهديد لمضيق هرمز أو للبنية التحتية في الخليج لا يمس مصالح الخليج وحده، بل يُصيب النظام الاقتصادي العالمي في قلبه، ويضغط على القوى الكبرى بما يؤدي لتراكم ضغوط دولية لا يُمكن لإيران مواجهة جميعها. لهذا السبب، فإن الخليج يجد نفسه اليوم عالقًا بين ضرورات أمنية ملحّة ورهانات تجارية كبرى لم يعد يملك رفاهية تجاهلها ولا إمكانية التحكم الكامل فيها.
أصدرت دول الخليج، بما فيها الإمارات، بيانات إدانة مباشرة للهجوم الإسرائيلي على إيران، مع تأكيدها على احترام السيادة ورفض التصعيد. هذا الموقف، الذي لم يكن ممكنًا قبل اتفاقيات أبراهام، يعكس تحوّلًا واضحًا في فهم عواصم الخليج – وعلى رأسها أبو ظبي – لمخاطر التماهي غير المشروط مع الولايات المُتحدة إسرائيل. فبرغم الشراكات الأمنية والتكنولوجية الواسعة بين الطرفين، تدرك الإمارات أن أي تصعيد عسكري أمريكي أو إسرائيلي مفتوح قد يُعرضها لردود فعل إيرانية مباشرة، سواء كانت ميدانية أو غير نظامية.
لقد حاولت الإمارات منذ 2015 أن تبني سياسة خارجية قائمة على برجماتية ومرونة عالية وقدرة على المناورة بين المحاور، لكن هذه المواجهة تقلص المكاسب التكتيكية لدول المنطقة لصالح المخاطر الاستراتيجية الناتجة عن هذه العلاقة مع الولايات المُتحدة وإسرائيل. ومن ثم، فإن الصيغة التي تحاول الإمارات الوصول إليها تتمثل في الاستمرار في العلاقة مع إسرائيل دون الانخراط في مواجهتها المفتوحة مع طهران، وهو توازن دقيق، ويزداد هشاشة كلما اتسع نطاق الصراع.
وبالتالي فمن غير المُستبعد أن تُعيد الإمارات النظر في بعض مجالات التعاون الأمني مع الولايات المُتحدة وإسرائيل، أو أن تُجمّد تنفيذ بعض الاتفاقات الحساسة التي قد تُفهم إيرانيًا كجزء من بنية عدوانية، مواجهة لها في الإساس، وأن تُعمق بدلًا من ذلك شراكاتها مع قوى أخرى كالصين، وروسيا والاتحاد الأوروبي والبرازيل. هكذا، تدفع ضربة “الأسد الصاعد” الخليج إلى إعادة تعريف حدود علاقاته مع الولايات المُتحدة وإسرائيل، ليس من منطلق أيديولوجي، بل بناءً على معايير الكلفة والفائدة السياسية والأمنية.
منذ تعرّضها لهجمات حوثية دقيقة في يناير 2022، شرعت الإمارات في مراجعة منظومتها الدفاعية، وركّزت على إغلاق الثغرات في طبقاتها الجوية والصاروخية. وبرز ضمن هذه الجهود اقتناء منظومة M-SAM-II الكورية الجنوبية، التي جاءت لتغطية النطاق المتوسط في الدفاع الجوي، ما بين منظومتي PAC-3 وTHAAD الأميركيتين. وتُعدّ هذه المنظومة المتقدمة مؤشّرًا على تحوّل جوهري في طريقة تعامل الإمارات مع التهديدات؛ إذ لم تَعُد تكتفي بتكنولوجيا أميركية، بل بدأت تُنوّع مصادر تسليحها لتكتسب مرونة سياسية وميدانية أكبر.
لكن بعد ضربة يونيو 2025، بدا أن الردع الجوي والصاروخي، على أهميته، لا يُغلق دائرة التهديد. إذ ما زالت إيران قادرة على استخدام وكلائها، وشنّ هجمات سيبرانية أو بحرية يصعب رصدها أو الرد عليها بالطرق التقليدية. وبالتالي، فإن التحدي لم يَعُد فقط في رفع الكفاءة الدفاعية، بل في بناء شبكة أمان استراتيجية تشمل الأمن السيبراني، حماية البنية التحتية، الاستخبارات الوقائية، وتكامل الجهد الأمني الخليجي المشترك.
في هذا السياق، لا يُمكن فصل التوجه نحو الشراكة مع الصين، وكوريا الجنوبية أو غيرها من القوى الآسيوية عن محاولة الإمارات خلق توازن جديد في علاقاتها الأمنية. فمع تراجع القدرة الأميركية على ضمان الأمن الخليجي بشكل مطلق، تسعى أبوظبي إلى بناء استقلالية تكتيكية دون الانفصال التام عن المظلة الأمنية الغربية. وهذا ما يجعل سلوك الإمارات بعد “الأسد الصاعد” أقرب إلى بناء ردع طويل المدى، قائم على التعددية والمرونة، لا على الاندماج في تحالفات صلبة قد تُهدد أمنها الداخلي واقتصادها الحيوي.
تُمثّل ضربة 13 يونيو 2025 لحظة تحوّل فارقة في بنية التوازنات العسكرية والدبلوماسية في الشرق الأوسط، إذ تجاوزت آثارها حدود إيران وإسرائيل إلى قلب النظام الأمني الخليجي، والنظام الدولي القائم على معايير عدم الانتشار النووي والاستقرار البحري. إذ لم يعد التهديد افتراضيًا ولا الاحتمال التصعيدي نظريًا، بل صار واقعًا يتطلب تخطيطًا استراتيجيًا يتعامل مع التعقيد المتزايد في العلاقات الإقليمية والدولية. في هذا السياق، يطرح هذا القسم تحليلًا لمسارات تطور الصراع على المدى القصير والطويل، ويُقدّم حزمة من التوصيات الموجّهة إلى دول الخليج العربي.
على المدى القصير، يُرجّح أن يتّسم الصراع بنمط تصعيدي محسوب بين إسرائيل وإيران، يتمثل في ضربات متبادلة عبر الوكلاء، وتهديدات بحرية، وربما عمليات سيبرانية نوعية. إيران، التي لم ترد بعد بشكل مباشر على الضربة الإسرائيلية، من المرجّح أن تسعى لتأخير ردها الرسمي، بهدف تقليل فرص استهداف منشآتها الدفاعية أو دخولها في مواجهة مفتوحة غير محسوبة. أمّا إسرائيل، فستواصل على الأرجح استراتيجيتها القائمة على “إعادة رسم قواعد الاشتباك”، بهدف تقويض برنامج إيران النووي وكسر مظلة الردع الإقليمي التي بنتها طهران عبر وكلائها. هذا النمط، إن استمر دون احتواء، قد يقود إلى تصعيد أفقي في العراق وسوريا واليمن، ويعرّض الخليج لانكشافات أمنية متزايدة.
أما على المدى الطويل، فإن الصراع يتجه نحو إعادة تعريف مفهوم “الردع غير المتماثل”، خصوصًا في ظل تآكل الثقة بين الأطراف الفاعلة، وفشل الآليات الدولية التقليدية في احتوائه. كما أن استمرار حالة اللايقين، وانعدام الضوابط الواضحة لاستخدام القوة، قد يؤديان إلى سباق تسلح إقليمي، وتدهور في بيئة الأمن البحري، وزيادة في وتيرة التهديدات السيبرانية والهجمات غير النظامية. كما أن غياب أي مبادرة دبلوماسية موثوقة يعزز من منطق الحرب الوقائية، ويُدخل المنطقة في حلقة مفرغة من الردع والرد عليه.
تُواجه دول مجلس التعاون، وفي مقدمتها الإمارات والسعودية، تحدّيًا مركبًا يتمثّل في حماية منشآتها الحيوية، وضمان استمرار تدفق الطاقة، والحفاظ على شبكات تحالفاتها دون أن تتحول إلى جبهة اشتباك مباشر. ولتحقيق هذه الغاية، يُوصى باتباع نهج ثلاث مسارات متوازية: أولًا، تعزيز شبكات الدفاع المتكاملة متعددة الطبقات، لا سيما في مجال الدفاع الجوي والصاروخي، وتوسيع الشراكات التقنية مع دول مثل كوريا الجنوبية والهند. ثانيًا، الاستثمار في قدرات الأمن السيبراني، والإنذار المبكر، وحماية البنى التحتية من الهجمات غير التقليدية. وثالثًا، تبني دبلوماسية متعددة المسارات تشمل أطرافًا فاعلة مثل الصين وروسيا وتركيا، بما يُخفف من اعتمادها الكامل على المظلة الأميركية، ويوسّع هامشها الاستراتيجي في حالات التصعيد.
كذلك، تحتاج دول الخليج إلى إعادة تقييم مستوى انكشافها السياسي في الملفات الإسرائيلية-الإيرانية، بحيث لا تُفهم مشاركتها في أي تحالفات أمنية على أنها قبول غير مشروط بالسياسات الإسرائيلية، ولا أن تُعتبر مواقعها نقطة انطلاق لهجمات تُعرضها لمخاطر ميدانية جسيمة. إن تحقيق هذا التوازن يتطلب دبلوماسية ذكية تُوظف علاقاتها مع واشنطن دون أن تُصادر استقلال قرارها الإقليمي.
ختامًا، فإن ضربة “الأسد الصاعد” الإسرائيلية ضد إيران في 13 يونيو 2025 تُمثّل نقطة انعطاف استراتيجية فارقة في هندسة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، لا لأنها فقط أعادت رسم قواعد الاشتباك بين خصمين تاريخيين، بل لأنها فجّرت طبقات دفينة من التناقضات الهيكلية داخل معادلة الردع، وكشفت عن حدود الضبط الدولي للاندفاعات العسكرية الأحادية. لقد وضعت الضربة المنطقة على حافة نمط جديد من النزاعات تتسم بأنها مركّبة، ومتعددة المسارح، وغير قابلة للاحتواء عبر القنوات الدبلوماسية التقليدية.
كما أظهرت إسرائيل في هذه العملية استعدادًا غير مسبوق لتحمل كلفة المواجهة المفتوحة من أجل كسر المسار النووي الإيراني، مستندة إلى تفوق تقني، ودعم غربي ضمني، وإدراك بأن الوقت ليس في صالحها. في المقابل، حافظت إيران حتى اللحظة على رد محسوب، لكن كل المؤشرات تفيد بأنها بصدد هندسة رد استراتيجي، ومركب، ومتعدد الأبعاد، يدمج ما بين أدوات الدولة وأذرعها غير النظامية، مستغلة هشاشة البيئة الأمنية الإقليمية، وتباين مصالح القوى الدولية.
أمّا دول الخليج، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، فقد وجدت نفسها أمام اختبار تاريخي غير مسبوق: كيف تضمن أمنها الوطني، وتُدير تحالفاتها، وتُحافظ على انسياب مصالحها الاقتصادية، دون أن تُدفع إلى قلب صراع قد لا تملك التحكم بمساراته أو توقيتاته. في المقابل، أظهرت هذه اللحظة أيضًا محدودية المظلة الأميركية، وتآكل الثقة في قدرة النظام الدولي على احتواء الصدمات الكبرى، وهو ما يفرض إعادة تعريف شامل لمفهوم الشراكة الأمنية، والحياد الاستراتيجي، والاعتماد على الذات.
الخلاصة الأساسية أن المنطقة تدخل مرحلة انتقالية ذات طبيعة أمنية-نووية، تتداخل فيها الحسابات العسكرية بالمخاوف الاقتصادية، وتنكمش فيها مساحات المناورة لصالح معادلات صفرية. لم تعد التهديدات افتراضية، ولم يعد الردع كافيًا بمفرده. المطلوب اليوم بنية أمنية جديدة، وتفكير سياسي غير تقليدي، وإعادة صياغة كاملة لمنطق العلاقات الإقليمية، قبل أن تتحول لحظة “الأسد الصاعد” من مجرد عملية عسكرية إلى لحظة انهيار شامل للهندسة الأمنية في الشرق الأوسط.
تعليقات