كتب بواسطة

أثارت التصريحات الأخيرة الصادرة عن فرنسا والمملكة المتحدة وكندا، والتي تبعتها دول أوروبية أخرى، بشأن نيتها الاعتراف بدولة فلسطينية في سبتمبر المُقبل تحولًا بارزًا في سياسات القوى الغربية الكبرى تجاه القضية الفلسطينية. جاء هذا التحول في ظل تفاقم الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، التي تجلت في مجاعة واسعة النطاق وارتفاع حصيلة القتلى إلى أكثر من 60 ألف شخص، مما زاد من وتيرة الدعوات الدولية لحل سياسي عاجل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي المستمر منذ عقود.

 

تمثل إعلانات باريس ولندن وأوتاوا، خصوصًا التعهد غير المشروط من فرنسا والنهج المشروط من المملكة المتحدة وكندا، خروجًا واضحًا عن الاعراف الدبلوماسية التقليدية التي كانت ترتبط بالاعتراف بدولة فلسطينية موكولًا إلى التوصل لاتفاق سلام تفاوضي شامل. يعكس هذا التحول حالة من الإحباط المتزايد تجاه تعثر مسار السلام، بالإضافة إلى تبلور قناعة بأن المسارات التقليدية لم تعد تجدي نفعًا، إذ صار الاعتراف بدولة فلسطين يُنظر إليه ليس فقط كنتيجة للسلام، بل كوسيلة تحفيزية لدفع العملية السياسية قدمًا، ما يعيد صياغة الأدوات الدبلوماسية المتاحة لمعالجة الصراع ويؤسس لسابقة قد تستفيد منها دول أخرى في تعزيز ضغوطها الدولية.

 

على الصعيد الدولي، تعترف ما بين 140 إلى 147 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة بفلسطين كدولة ذات سيادة، وهو إجماع واسع يشكل الإطار المرجعي لفهم القرارات الأخيرة التي اتخذتها فرنسا والمملكة المتحدة وكندا. ومن اللافت أن هذه الدول الثلاث أعضاء في مجموعة السبع، التي لم تتخذ قبل إعلان فرنسا أي منها خطوة مماثلة، مما يجعل فرنسا، بوصفها أكبر دولة أوروبية سكانًا، تبرز كفاعل بارز في هذا التحول، بينما تستعد فرنسا وكندا لتكونا أول دولتين من المجموعة تعترفان بفلسطين.

 

في المقابل، تظل الولايات المتحدة العضو الدائم الوحيد في مجلس الأمن الدولي التي لم تعترف بعد بدولة فلسطين، ما يضفي على هذا التغيير بعدًا رمزيًا يؤسس لإعادة توازن الضغوط الدبلوماسية على كل من إسرائيل والولايات المتحدة، وقد يحفز دولًا غربية أخرى مترددة على السير في ذات الاتجاه. كما يبرز اختلاف المواقف داخل القوى الأطلسية تأثير الضغوط الداخلية والأزمة الإنسانية الملحة في بلورة مواقف أكثر تشدّدًا. بناءً على ذلك، يتناول هذا التحليل دوافع هذا التحول وآثاره على الصعيدين الأمني والسياسي للدول المعنية، إلى جانب ردود الفعل المتوقعة من إسرائيل والولايات المتحدة.

لماذا الآن؟

يعود قرار كلًا من فرنسا والمملكة المتحدة بالاعتراف بدولة فلسطينية إلى مجموعة من العوامل يمكن تفسيرها كما يلي:

 

الأزمة الإنسانية والضغوط الدولية

جاءت الأزمة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة نتيجة العمليات العسكرية الإسرائيلية التي تلت هجمات حماس في 7 أكتوبر 2023، لتشكل عاملًا رئيسيًا في دفع فرنسا والمملكة المتحدة لإعادة النظر في سياساتهما تجاه القضية الفلسطينية. فأوضاع قطاع غزة الإنسانية، التي وصفتها تقارير الأمم المتحدة بالمتدهورة بشكل كارثي، أثارت غضبًا دوليًا واسعًا وحثت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الدعوة لوقف الحرب والاهتمام الفوري بحماية المدنيين وتقديم المساعدة الإنسانية العاجلة في زيارته لمعبر رفح البري في أبريل 2025. حيث وصف الرئيس إيمانويل ماكرون هذه الخطوة بأنها “واجب أخلاقي ومطلب سياسي” يتماشى مع التزام فرنسا التاريخي بإنجاز سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط ومع مبادئ الجمهورية الفرنسية الخامسة، بينما اعتبر رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أن اعتراف بلاده بفلسطين يأتي كرد فعل على “الوضع الكارثي المتفاقم”، معبّرًا عن إدانته الشديدة لـ”المعاناة والجوع غير المبررين” اللذين يعاني منهما السكان المدنيون في القطاع.

 

و يُعزى قرار فرنسا بالاعتراف بدولة فلسطين إلى تداخل معقد بين اعتبارات أخلاقية وإنسانية وسياسية واستراتيجية، حيث لعب الضغط المحلي دور بارز في دفع فرنسا نحو الاعتراف بفلسطين، حيث أبدى حوالي 80% من المواطنين الفرنسيين دعمهم لهذا الاتجاه وفقًا لاستطلاعات الرأي. وتعقدت المشهدية الاجتماعية بفعل حضور جاليات مسلمة ويهودية كبيرة، مما ساهم في تعميق الانقسامات الاجتماعية والسياسية المحيطة بالصراع. و من الناحية الاستراتيجية، تسعى فرنسا إلى قيادة حراك أوروبي أوسع لإنشاء دولة فلسطينية، والتميّز عن السياسة الأمريكية، وتعزيز ديناميكية الاعتراف المتبادل بين فلسطين وإسرائيل، كما تعكس هذه الخطوة رغبة ماكرون في ترك إرث سياسي قبل انتهاء ولايته في 2027.

 

و على النقيض، يمتاز نهج المملكة المتحدة بحذر أكبر، متماشياً مع تحالفاتها الأوروبية ومستجيبًا للضغوط السياسية الداخلية، حيث أعلن رئيس الوزراء كير ستارمر أن بلاده ستعترف بفلسطين بحلول سبتمبر 2025 في حال لم تلتزم إسرائيل بوقف إطلاق النار ووقف ضم أراضٍ جديدة في الضفة الغربية، إضافةً إلى اتخاذ خطوات ملموسة نحو سلام دائم. ويعكس هذا الموقف المشروط تأثره بالدعوات البرلمانية والقلق الشعبي حيال الأزمة الإنسانية في غزة، حيث تعرض ستارمر لضغوط محلية مكثفة، حيث وقع أكثر من 250 نائبًا من أصل 650 في البرلمان رسالة تطالب بالاعتراف بفلسطين.

 

 يعكس ذلك الدور المحوري للضغوط المجتمعية والسياسية في صياغة السياسة الخارجية، حيث تستجيب الحكومات لمطالب شعبية أوسع نحو اتخاذ موقف أكثر وضوحًا تجاه القضية الفلسطينية. فضلاً عن تأثير الخطوة الفرنسية التي حفّزت الضغط على لندن لتوضيح موقفها، مع تردد في إضفاء طابع رسمي على الالتزام تفاديًا لعزلة محتملة من جانب الولايات المتحدة أو انقسام داخلي حزبي.

النفوذ الدبلوماسي وحل الدولتين

يمكن تفسير هذا التحول، لا سيما في حالة فرنسا، باعتباره استعادة لمبدأ استقلال القرار في السياسة الخارجية، المعروف بـ”مبدأ ديغول”، الذي يعزز من استقلالية باريس في مواقفها الدولية. ومن المتوقع أن يفضي هذا التباين في السياسات الغربية إلى زيادة العزلة الدبلوماسية التي تواجهها إسرائيل والولايات المتحدة، مما قد يحفزهما على مراجعة مواقعهما أو السعي لتطوير آليات تعاون دولية جديدة تتجاوز الإطار التقليدي الذي تهيمن عليه واشنطن.

 

و ترى كل من فرنسا والمملكة المتحدة في الاعتراف بدولة فلسطين خطوة حاسمة لكسر الجمود الحالي وتنشيط العملية السياسية، بهدف إحياء آفاق حل الدولتين، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع بوصفه تحت ضغط غير مسبوق وأحد أكبر التهديدات منذ تأسيسه. تسعى فرنسا من خلال اعترافها غير المشروط إلى خلق “ديناميكية جماعية” تشجع دولًا أخرى على اتباع نهجها، وإلى تحقيق اعتراف متبادل بإسرائيل من جانب الدول العربية. بالمقابل، اتخذت المملكة المتحدة نهجًا مشروطًا؛ حيث تربط اعترافها بموافقة إسرائيل على وقف إطلاق النار ووقف ضم الأراضي في الضفة الغربية، والالتزام بعملية سلام طويلة الأمد، بالإضافة إلى مطالبة حركة حماس بإطلاق كافة الرهائن ونزع السلاح. ويُنظر إلى هذه الخطوة البريطانية على أنها “أداة ضغط” تهدف إلى دفع إسرائيل نحو وقف الأعمال العدائية والالتزام بخارطة طريق للسلام، مما يجعل الاعتراف دبلوماسياً فاعلاً وليس مجرد إعلان تأييد سلبي.

 

يبرز في هذا السياق الفرق الواضح في الاستراتيجيات الدبلوماسية بين الدولتين؛ ففرنسا تعتمد على الاعتراف غير المشروط سعيًا لإيجاد تأثير جماعي، بينما تضع المملكة المتحدة شروطًا واضحة وملموسة لغرض توجيه الضغوط السياسية بفعالية. يعكس هذا التحليل المقارن الفوارق في النهج ويدرس مدى فعالية كل استراتيجية والمخاطر المحتملة المرتبطة بها.

معالجة مزاعم التواطؤ

ينطوي قرار فرنسا على محاولة لتخفيف المساءلة السياسية والأخلاقية عن دعمها لإسرائيل، إذ عرفت شراكتها معها تاريخيًا بدعم مبدئي قوي حيث لعبت فرنسا دورًا محوريًا في تأسيس وتطوير البرنامج النووي الإسرائيلي، خصوصًا خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين. من خلال دعمها لإسرائيل بالتكنولوجيا والخبرات اللازمة لبناء مفاعل ديمونة النووي الذي يُعتبر اليد التأسيسية للبرنامج النووي الإسرائيلي، وذلك في إطار اتفاقيات سرية وتعاون استراتيجي بين البلدين. علاوة على التعاون العسكري بين الجانبين.

 

في بداية الصراع، أبدت فرنسا تضامنها مع إسرائيل، حيث زار ماكرون القدس في أكتوبر 2023 وأدان أعمال حماس واصفًا إياها بـ”الهجمات الإرهابية التي لا تُقَبل”، لكن تحولات واضحة حدثت عقب هجمات أكتوبر 2023؛ إذ انتقل الرئيس ماكرون من التضامن الأولي إلى إبداء قلق متزايد بشأن الأثر الإنساني للعمليات العسكرية الإسرائيلية، ودعا لوقف إطلاق النار بحلول 24 أكتوبر 2023، منتقدًا ارتفاع عدد القتلى المدنيين. يعكس هذا التحول الاستراتيجي رغبة في التوافق مع الرأي العام الدولي والمحلي، وتعزيز نفوذ باريس الدبلوماسي كلاعب أكثر توازنًا، بهدف تقليل الأضرار على الساحة الدولية وفتح مساحة سياسية للمبادرة الفرنسية.

 

 كما تحيط صادرات فرنسا من المعدات العسكرية إلى إسرائيل حالة من الغموض، حيث كشفت “ديسكلوز” في يونيو 2024 أن فرنسا زودت إسرائيل بمعدات تُستخدم في تصنيع طائرات بدون طيار، استخدمت في الهجمات على قطاع غزة. ما أثار شكوكًا حول احتمال تورطها في ارتكاب جرائم حرب بحق الفلسطينيين. كما أظهر تقرير وزارة الدفاع الفرنسية لعام 2024، الذي يتناول عمليات التسليم الفعلية والتراخيص الممنوحة لصادرات الأسلحة، قيام فرنسا بتسليم معدات عسكرية لإسرائيل بقيمة بلغت 30 مليون يورو (ما يعادل 31 مليون دولار) خلال عام 2023، وهو ضعف المبلغ المسجل في العام الذي سبقه، وشملت هذه المعدات نوابض مخصصة لنظام القبة الحديدية المضاد للصواريخ، بالإضافة إلى صفائح مدرعة.

 

و على الصعيد الداخلي، شهدت فرنسا إجراءات قمعية تجاه المظاهرات المؤيدة لفلسطين، حيث تم حظر رفع العلم الفلسطيني وفض التجمعات باستخدام الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه، بزعم حفظ الأمن والنظام العام. وقد أثارت هذه الإجراءات انتقادات حادة بخصوص التضييق على الحريات المدنية وازدواجية المعايير مقارنة بعدم فرض قيود مماثلة على الفعاليات المؤيدة لإسرائيل، ما يعكس حساسيات اجتماعية ودينية معقدة في فرنسا نتيجة للتنوع الديني والثقافي.

 

و في ما يخص التغطية الإعلامية للصراع، كان ثمة تحول ملحوظ في بعض وسائل الإعلام الفرنسية، حيث انتقلت من مواقف داعمة بإفراط لإسرائيل إلى انتقادات حادة للحرب ووصفها بالإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، وقد عزى محللون هذا التغير إلى توجيهات عليا تهدف لتحضير الرأي العام لخطة سياسية حكومية جديدة، مما يبرز الأدوار المعقدة التي تلعبها وسائل الإعلام في تشكيل الخطاب السياسي.

تداعيات القرارات

يحمل الاعتراف الفرنسي والبريطاني بدولة فلسطين تداعيات سياسية وأمنية هامة تنعكس على البلدين بشكل مختلف، نظراً لموقعهما ودورهما الدولي المتباين.

 

التداعيات الدبلوماسية

يمثل الاعتراف خطوة استراتيجية تعكس تحوّلاً ملحوظاً في سياستها الخارجية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث تحاول باريس استعادة دورها كفاعل دولي فاعل يدفع نحو حل الدولتين والتسوية السياسية العادلة، و قد يزيد هذا القرار من عزلة فرنسا في علاقاتها مع إسرائيل والولايات المتحدة، في ظل إدانة تل أبيب للمبادرة ورفض واشنطن للخطوة الأحادية، مما قد يخلق توتراً دبلوماسياً معها

 

يرى مؤيدو هذه الخطوة أنها تمثل انطلاقًا نحو استئناف العملية السياسية بهدف تحقيق حل الدولتين، وتشكّل مساهمة فعلية في إرساء السلام. ويُعتقد أن التردد التاريخي في الاعتراف بفلسطين قد عرقل التقدم في هذا المسار. في المقابل، تأكد إسرائيل اعتراضها القاطع على هذه الخطوات، معتبرةً أنها تُكافئ حركة حماس وتقوض الجهود الحقيقية لتحقيق السلام، خاصةً في ظل تدهور الأوضاع الإنسانية في غزة وتوسّع المستوطنات الإسرائيلية بالضفة الغربية المحتلة، مما يزيد من تعقيد إمكانية تحقيق حل الدولتين.

 

يحمل قرار فرنسا، بصفتها أول دولة من مجموعة السبع تقدم على الاعتراف، إمكانية خلق سابقة دبلوماسية قد تحفز دولًا أخرى على تبني الموقف نفسه، خصوصًا بعد إعلان المملكة المتحدة اتخاذ مسار موازٍ، وينذر بتأثير دومينو محتمل يزيد الضغط الدولي على إسرائيل ويعزز من الزخم باتجاه الاعتراف الدولي بفلسطين.

 

كما يحمل القراران احتمال حدوث تغييرات في ميزان القوى داخل مجلس الأمن الدولي، حيث لن تظل الصين وروسيا العضوين الدائمين الوحيدين المعتَرفين بفلسطين بين الدول الخمس الدائمة العضوية، ما يجعل الولايات المتحدة العضو الدائم الوحيد المعارض رسميًا لهذا الاعتراف. وعلى الرغم من أن هذا التحول قد لا يؤدي إلى تغييرات فورية وجذرية، إلا أن الانقسامات القائمة داخل الدول الخمس الدائمة قد تدفع باتجاه تكثيف الضغط الدبلوماسي داخل الأمم المتحدة لصالح اعتماد قرار يدعم إقامة الدولة الفلسطينية بشكل صريح.

 

تُفسر هذه القرارات الصادرة عن دولتين غربيّتين رئيسيتين كرفض قاطع للأعمال العسكرية الإسرائيلية، ومن المتوقع أن تؤدي إلى مزيد من العزلة الدبلوماسية لإسرائيل، وزيادة الضغط على الولايات المتحدة لإعادة تقييم موقفها الرسمي. وتشكل هذه الديناميكية تحديًا دبلوماسيًا كبيرًا لإسرائيل، التي ترفض إقامة الدولة الفلسطينية، وللولايات المتحدة التي تؤكد ضرورة أن ينبثق الاعتراف من مفاوضات مباشرة بين الأطراف المعنية، مما يبرز التوتر والتنافس المحتمل بين الجهات الفاعلة الدولية الرئيسية نتيجة لهذه التحولات.

 

التداعيات الأمنية

تواجه فرنسا تهديدات إلكترونية وهجمات سيبرانية محتملة حيث تستهدف جهات معارضة سياسية هذا التحول، كما قد تتصاعد حدة الاحتجاجات الداخلية بين مؤيدي ومعارضي القرار، ما يستوجب تدابير أمنية مشددة لضمان الاستقرار الداخلي. في المقابل، يمكن أن يعزز هذا الاعتراف من نفوذ فرنسا في العالم العربي ودورها في دفع العملية السياسية، ما يوازن من موقعها الدولي.

 

و تعد تسريبات البيانات التي استهدفت مجموعة نافال جروب الفرنسية واحدة من أبرز الأحداث الأمنية التي أعقبت إعلان فرنسا عن نيتها الاعتراف بدولة فلسطين. ففي 23 يوليو 2025، أعلن مخترق يُطلق على نفسه اسم “نفربيتو” عن امتلاكه تيرابايت كامل من المعلومات السرية المتعلقة بشركة نافال، المتخصصة في تصنيع الغواصات والفرقاطات، ونشر عينة بحجم 13 جيجابايت كدليل على صحة اختراقه. تضمنت البيانات المسربة معلومات حساسة للغاية منها الشفرات المصدرية لأنظمة قتالية، وبرمجيات تسليح الغواصات النووية، ووثائق تقنية خاصة بمقاتلة رافال إم، بالإضافة إلى اتصالات داخلية وأدلة تشغيلية.

 

على الرغم من أن المخترق لم يطلب فدية، فقد أمهل الشركة مهلة 72 ساعة للتواصل معه، وبعد مضي الوقت نشر كامل مجموعة البيانات تحت شعار “استمتعوا، ونراكم في المرة القادمة”، مرفقًا برسالة تحذيرية مفادها أن لا شيء معزول تمامًا عن الإنترنت. ورغم غياب دلائل مباشرة على ارتباط التسريب بالدافع السياسي من إعلان فرنسا للاعتراف بفلسطين، فإن توقيته الذي يسبق بيومين فقط الإعلان الرسمي للرئيس ماكرون يشير إلى دلالات أمنية وسياسية هامة.

 

وصفت مجموعة نافال هذه الحادثة بأنها “محاولة لزعزعة الاستقرار” وهجوم يستهدف سمعة الشركة في ظل توترات متصاعدة، ونفت رصد أي خروقات لأنظمة تكنولوجيا المعلومات لديها، مؤكدةً تعاونها مع السلطات الفرنسية وبدء تحقيق شامل في الحادثة. ويحذر خبراء الأمن السيبراني من أن سرقة الشفرات المصدرية قد تفضي إلى مخاطر تشغيلية واستراتيجية جسيمة، مع إمكانية استغلال هذه الثغرات في شن هجمات إلكترونية مستقبلية تهدد أمن الشركة والقطاع الدفاعي الفرنسي بشكل عام.

 

وقد تواجه المملكة المتحدة تحديات مشابهة في مواجهة التهديدات السيبرانية والتظاهرات المحتملة، لكنها أكثر استعداداً لإدارة هذه التحديات عبر سياسات أمنية سياسية متوازنة. وستظل بريطانيا معنية بالحفاظ على مكانتها في المفاوضات الدولية عبر تقديم ضمانات تتعلق بتحقيق السلام والاستقرار كجزء من خطواتها الدبلوماسية.

 

يجدر بالذكر أن النزاع الفلسطيني الإسرائيلي قد زاد من حدة الهجمات السيبرانية، حيث تشارك مجموعات قرصنة متباينة الولاء في تنفيذ عمليات ابتزاز وهجمات إلكترونية متنوعة تستهدف جهات حكومية وعسكرية وإعلامية في المنطقة والعالم، ما يعكس بيئة جيوسياسية متوترة يمكن أن تتصاعد بسهولة إلى صراعات إلكترونية، خاصة تجاه الدول التي تخطو خطوات دبلوماسية مؤثرة مثل الاعتراف بدولة فلسطين.

أدانة و رفض

أثارت نوايا فرنسا والمملكة المتحدة الاعتراف بدولة فلسطينية ردود فعل حادة ومتباينة من قبل جهات دولية رئيسية، لا سيما إسرائيل والولايات المتحدة.

 

أدانت إسرائيل قرارَي باريس ولندن بشدة، حيث وصف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو خطة فرنسا بأنها “خطأ فادح”، متهمًا الرئيس ماكرون بتجاهل التهديدات التي تمثلها حركة حماس. أكد نتنياهو أن هذه الخطوة تُعدّ “مكافأة للإرهاب” وتشكل خطرًا جديًا بإمكانية خلق “وكيل إيراني جديد كما حدث في غزة”. وحذر من أن قيام دولة فلسطينية في الظروف الحالية سيُستخدم كـ”منصة لانطلاق تهديد وجود إسرائيل”. كما رفض تلقي “محاضرات أخلاقية” من دول لا تعترف بحقوق استقلالها على أراضيها. يستند الخطاب الإسرائيلي إلى إدانة هجمات حماس في السابع من أكتوبر لتشويه أي تحرك دبلوماسي يُنظر إليه دعمًا للفلسطينيين، من دون مراعاة المخاوف الأمنية الإسرائيلية.

 

تمتد المخاوف داخل إسرائيل إلى قضية الرهائن المستمرة وجهود السلام الأوسع، حيث أصدرت منظمات الأسر والمفقودين بيانات تشدد على أن الاعتراف بدولة فلسطينية مع بقاء الرهائن في أسر حماس “مكافأة للإرهاب” تؤكد رسالة تلغي جهود استعادة الرهائن، خاصة مع القلق من أن الربط الذي وضعته المملكة المتحدة بين الاعتراف ووقف إطلاق النار قد يبطئ الإفراج عنهم، ما يسهم في زيادة معارضة إسرائيل لهذه الخطوة.

 

ومن جهة أخري، عبرت واشنطن عن رفض قوي لقرار فرنسا، حيث وصف وزير الخارجية ماركو روبيو خطة الاعتراف بأنها “قرار متهور” يخدم دعاية حماس ويُعطل جهود السلام، معتبراً إياها “صفعة لضحايا هجمات السابع من أكتوبر”. يؤكد هذا الموقف الرسمي التمسك بالمعايير الأمريكية التي ترى أن قيام دولة فلسطينية يجب أن ينبع من مفاوضات مباشرة بين الأطراف المعنية، ويكون جزءًا من حل تفاوضي شامل. يأتي رفض الولايات المتحدة عقب انسحابها وإسرائيل من محادثات وقف إطلاق النار بالدوحة، مضيفة إلى تعزيز النظرة القائلة بأن الاعتراف الأحادي الجانب يعرقل المسارات الدبلوماسية المفضلة.

 

من اللافت أن رد فعل الرئيس السابق دونالد ترامب تجاه اعتراف المملكة المتحدة المشروط كان أكثر تساهلًا مقارنة برد الفعل الحاد لوزير الخارجية، حيث أبدى استعدادًا مبدئيًا لقبول موقف كير ستارمر، مع أنه نفى لاحقًا مناقشة ذلك معه في مكالمتهما. قد يشير هذا التباين إلى اختلافات داخلية في رؤية واشنطن بين الاعتراف المشروط وغير المشروط، أو يعكس انقسامًا في أجندات السياسة الأمريكية بشأن القضية.

 

تعكس هذه الردود، على المستويين الإسرائيلي والأمريكي، التداخل بين الاعتبارات السياسية الداخلية والدبلوماسية الدولية؛ إذ تعبر إدانة نتنياهو الشديدة عن ضغوط وتحالفات داخلية، ولا سيما مع وجود وزراء من اليمين المتطرف يعارضون إقامة دولة فلسطينية. وبالمثل، يعكس موقف ترامب الحسابات السياسية الشخصية ورغبته في تقديم صورة أكثر اعتدالاً مقارنة بوزير خارجيته. إن فهم هذه الديناميات الداخلية ضروري لفهم تأثير قرارات الاعتراف على المدى البعيد ومستقبل التحولات المحتملة في السياسة الدولية.

 

ختامًا، يشكل الاعتراف بدولة فلسطين اليوم أداة دبلوماسية فاعلة تتضمن فرصًا وتحديات تحتم على المجتمع الدولي إعادة تقييم استراتيجياته لضمان سلام عادل ومستدام يعزز الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم. ورغم الأهمية الرمزية لهذا الاعتراف، إلا أنه لا يعالج جوهر النزاع الذي يكمن في استمرار الاحتلال الإسرائيلي وانتهاك حقوق الفلسطينيين؛ فالتقدم الحقيقي يتطلب ضغوطًا فعالة على إسرائيل لإنهاء الاحتلال والعودة إلى حدود 4 يونيو 1967، مع ضمان حق الفلسطينيين في حياة كريمة وسلام ضمن دولة ذات سيادة كاملة. ويتطلب إقامة الدولة الفلسطينية إطارًا عمليًا يتعدى الاعتراف الشكلية، يشمل التزامات واضحة بوقف الاستيطان وعمليات الضم، واحترام الحقوق المدنية والسياسية، إضافةً إلى دعم دولي متكامل يسهم في بناء مؤسسات قوية تضمن الحكم الرشيد والتنمية الاقتصادية المستدامة، مما يجعل الدولة الوليدة قادرة على الصمود والعيش. لذا، فإن هذه الخطوات الدبلوماسية رغم ضرورتها، لا تشكل حلاً نهائيًا بل جزءًا من استراتيجية شاملة متعددة الأبعاد تعالج جذور النزاع وتسعى لتسوية دائمة تحقق تطلعات الشعب الفلسطيني.

المراجع

“Report to the Parliament Regarding French Arms Exports in 2024.” Ministry OF Armies. Accessed August 5, 2025. https://www.obsarm.info/IMG/pdf/rap_2024_exportation-armements.pdf

 

Biswas, Sayantani. “Britain and France Mull Recognising a Palestinian State – Will It Impact Israel? Do London and Paris Hold Clout?” Mint, July 30, 2025. https://www.livemint.com/news/britain-and-france-mull-recognising-a-palestinian-state-will-it-impact-israel-do-london-and-paris-hold-clout-11753841641540.html

 

CHARLTON, ANGELA. “Macron Says France Will Recognize Palestine as a State.” AP News, July 25, 2025. Accessed August 5, 2025. https://apnews.com/article/france-recognize-palestine-state-macron-800ed63143f0653a7f215ad96f7038d3

 

Courea, Eleni. “Why Is UK Preparing to Recognise Palestinian Statehood?” The Guardian, July 29, 2025. https://www.theguardian.com/politics/2025/jul/29/uk-to-palestine-mean

 

Crerar, Pippa. “UK To Recognise State of Palestine in September Unless Israel Holds to a Ceasefire.” The Guardian, August 4, 2025. https://www.theguardian.com/politics/2025/jul/29/uk-to-recognise-state-of-palestine-in-september-unless-israel-holds-to-a-ceasefire

 

Disclose. “Arms Sales to Israel: France’s Thales Supplying Equipment for Armed Drones Since 2018.” Disclose, March 13, 2025. https://disclose.ngo/en/article/arms-sales-to-israel-frances-thales-supplying-equipment-for-armed-drones-since-2018

 

Hage, Samy. “Gaza War: French Arms Sales to Israel Marked by Lack of Transparency and Control.” Middle East Eye, December 18, 2024. https://www.middleeasteye.net/news/gaza-war-french-arms-sales-israel-marked-lack-transparency-and-control

 

LAWLESS, JILL, and DANICA KIRKA. “Starmer Says UK Will Recognize Palestinian State Unless Israel Agrees to a Ceasefire.” AP News, July 29, 2025. Accessed August 5, 2025. https://apnews.com/article/starmer-recognize-palestinian-state-israel-peace-a08e929a9459e9160992f84dc73b6638

 

MARGULIES, JOANIE. “‘Legitimizes Horrific War Crimes’: Hostage Forum Challenges Palestinian State Recognition.” The Jerusalem Post, July 30, 2025. Accessed August 5, 2025. https://www.jpost.com/israel-news/article-862723

 

TOI World Desk. “Mideast Crisis: Canada to Recognise Palestinian State in September; Specifies Certain Conditions.” The Times of India, July 31, 2025. https://timesofindia.indiatimes.com/world/rest-of-world/mideast-crisis-canada-to-recognise-palestinian-state-in-september-specifies-certain-conditions/articleshow/123005708.cms

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *