كتب بواسطة

تفرض ظاهرة الهجرة المناخية تحدياتٍ جيوسياسية وإنسانية متشابكة، مُلقيةً بضغوطٍ متزايدة على الدول في مختلف مراحل سلسلة الهجرة. ووفقًا لتقريرٍ صادرٍ عن البنك الدولي، يُتوقّع أن تُجبر التغيرات المناخية القاسية، وما يترتب عليها من كوارث طبيعية تشمل موجات الحرّ الحادة، والجفاف الممتد، وتراجع المحاصيل، والفيضانات المدمرة، نحو 143 مليون شخص في دول الجنوب العالمي على النزوح القسري بحلول عام 2050. وتُفرز هذه الكوارث أخطاراً جسيمة، لا سيّما في الدول النامية التي تعاني أساساً من ضعفٍ بنيويٍّ في خدماتها الأساسية ومواردها المالية المحدودة، وهو واقعٌ يدفع غالبية سكانها إلى العيش تحت خط الفقر. وفي ظل هذا السياق المأزوم، تتصاعد موجات الهجرة المناخية بشكلٍ ملحوظٍ نحو دول الشمال، حيث يبحث الأفراد عن ظروفٍ معيشيةٍ أكثر استقراراً وأمناً، هرباً من تداعياتٍ تُفاقم هشاشة أوطانهم الأصلية وتُهدد مقومات بقائهم.

 

تحتل منطقة شمال أفريقيا، بحكم موقعها الجغرافي الرابط بين الجنوب العالمي وأوروبا، محورَ عبورٍ استراتيجيًّا لهؤلاء المهاجرين، فيما يُمثّل جنوب أوروبا البوابة الأساسية للدخول إلى دول الشمال العالمي. وتُلقي هذه الضغوط المتزايدة للهجرة المناخية بظلالها الثقيلة على كلتا المنطقتين، مُولّدةً بيئةً خصبةً لاضطراباتٍ محتملةٍ قد تمتد آثارها عبر ضفتي البحر الأبيض المتوسط، بما يُهدد استقرار التوازنات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية القائمة. وفي محاولةٍ لإدارة هذه التدفقات المتصاعدة، تنخرط "دول المقصد" الأوروبية في تفاعلاتٍ معقدة مع "دول العبور" ضمن إطار ما يُعرف بـ "دبلوماسية الهجرة". وتقوم هذه الاستراتيجية على منح دول المقصد حوافز متنوعة، تشمل تسهيلات التأشيرات وفرصاً استثمارية، لدول العبور، مقابل تبني الأخيرة إجراءاتٍ فعالة لاحتواء المهاجرين غير النظاميين القادمين من أراضيها وتشديد الرقابة على حدودها، بينما يُقدَّم دعمٌ اقتصادي واستثماري موازٍ لدول المنشأ بهدف معالجة الأسباب الجذرية للظاهرة.

 

وعلى الرغم من أن هذه الأساليب الدبلوماسية قد تُحقّق نجاحاً نسبياً في حالاتٍ معينة، أثبتت التجارب المتكررة قصورها في مواقف عديدة. ومع التفاقم المتوقع للاضطرابات المناخية، يُتوقع أن تتزايد موجات الهجرة الناتجة عن تغير المناخ، بما يُنذر بتآكل فعالية تلك الأدوات تدريجياً وصولاً إلى انعدام جدواها، وهو ما سيُحتّم على دول المقصد ابتكار آلياتٍ أكثر فاعلية واستدامة. وتُشير الدلائل إلى احتماليةٍ مرتفعةٍ لحدوث تداعياتٍ جسيمة تطال الجانبين؛ إذ قد تواجه دول العبور ضغوطاً متنامية على مواردها المالية تفوق قدرتها الحالية، بالتوازي مع تصاعدٍ ملموسٍ في حجم التهديدات الأمنية. وفي المقابل، قد تشهد دول الدخول تفاقماً في الأعباء الاقتصادية، وتوتراتٍ سياسية، واحتداماً في الاستقطابات الثقافية، بما يمنح التيارات اليمينية المتطرفة زخماً متزايداً قد يُفضي إلى تغييراتٍ جوهرية في بنية الاتحاد الأوروبي. وبذلك، تُنذر الهجرة المناخية بالتحول إلى تهديدٍ بالغ الخطورة على الاستقرار الإقليمي ما لم تُعتمد إجراءاتٌ فعالة وتنسيقٌ مشترك لاحتواء آثارها.

 

وعليه، تستعرض هذه الورقة البحثية الأثر المزعزع للاستقرار الذي قد تُخلّفه الهجرة الناجمة عن التغير المناخي على دول العبور في شمال أفريقيا ودول الدخول في جنوب أوروبا. وتنقسم الورقة إلى أربعة محاور رئيسية، هي: تدهور المناخ، والانعكاسات على دول العبور، والانعكاسات على دول الدخول، والحلول المقترحة. وتتناول الورقة التداعيات الاقتصادية والسياسية والأمنية المترتبة على هذه الظاهرة، مُؤكدةً الحاجة إلى تبني تدابير مخصصة تتلاءم مع أوضاع الدول المتضررة. وتخلص إلى ضرورة أن يُقدم الاتحاد الأوروبي، إلى جانب تعزيز حلول الصمود والإنذار المبكر، حوافز أكثر جاذبية لدول شمال أفريقيا، وأن تُصاغ المقترحات بما ينسجم مع الواقع الفعلي والمتطلبات الاقتصادية والأمنية للدول الأفريقية، بما يُسهم في بناء شراكاتٍ متوازنة تُعالج جذور المشكلة بدلاً من الاكتفاء بإدارة نتائجها.

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *