من أبرز مظاهر هذا التحول، انخراط شركات الطيران في سباق محموم لتحديث الأساطيل بأحدث طرازات الطائرات ذات المدى البعيد والكفاءة العالية في استهلاك الوقود، في استثمار استراتيجي يتجاوز 200 مليار دولار في الشرق الأوسط وحده. يتجاوز هذ السباق مجرد التجديد تقني إلى رؤية طويلة المدى لبسط النفوذ الجوي، وتعزيز القدرة التنافسية في الأسواق الدولية، وتثبيت موقع هذه الشركات كأذرع سيادية لدولها.
لذلك تُحلل هذه الورقة ملامح هذا التحول من خلال نظرة متكاملة تجمع بين عناصر القوة التشغيلية، وتوجهات الاستثمار في الأساطيل، وبُنى الشبكات الجوية، ومرونة نماذج الأعمال. كما تُسلط الضوء على العلاقة المتزايدة بين شركات الطيران والمشاريع القومية الكبرى، مثل “رؤية السعودية 2030” ومبادرة “الحزام والطريق”، حيث لم تعد هذه الشركات مجرّد كيانات تجارية، بل أصبحت أدوات تنفيذية لرؤى اقتصادية وجيوسياسية عابرة للحدود.
تهدف الدراسة إلى فهم السياقات التي تنتج هذا التحول، دون استباق نتائجه النهائية، وتضع صناعة الطيران ضمن مشهد عالمي أكثر تقلبًا، حيث تتقاطع اعتبارات الربحية والكفاءة مع اعتبارات السيادة، وتتحول السماء إلى مجال تنافسي يعكس موازين القوى المستقبلية.
بدأت خريطة الطيران العالمية تشهد تحولًا بنيويًّا مع تراجع الوزن النسبي لشركات الطيران الغربية، وبروز قوى تشغيلية ومالية جديدة في الشرق الأوسط وآسيا تُعيد تشكيل مسارات الربط الجوي العالمي. إذ كشفت مؤشرات ما بعد الجائحة عن هذا التحول بوضوح؛ فقد سجّلت شركات الطيران في الشرق والجنوب وتيرة تعافٍ أسرع وأكثر اتساقًا من نظيراتها في أوروبا وأمريكا الشمالية. ارتبط هذا التفاوت بعدة عوامل، أبرزها الدعم السيادي المباشر، ونمو الطلب المحلي والإقليمي، والموقع الجغرافي الوسيط الذي يسمح بإدارة تدفقات الركاب عبر قارات متعددة بكفاءة تشغيلية عالية.
فقد حققت شركات الشرق الأوسط في عام 2025 أعلى هامش ربح مُقارنة بباقي المناطق بلغ 8.7%، وذلك رغم أن حصتها من الأسطول العالمي لم تتجاوز 6%. كما أشارت التقديرات إلى أن المنطقة، التي تمثل أقل من 10% من إجمالي السعة السوقية، ساهمت بأكثر من 12% من إجمالي أرباح قطاع الطيران العالمي، ما يعكس فعالية نموذج التشغيل القائم على الكفاءة والاستغلال الأمثل للموقع. في المقابل، اتسمت السوق الآسيوية بدرجة عالية من التجزئة؛ حيث تطلّب الوصول إلى 50% من إجمالي السعة المقعدية مشاركة ما لا يقل عن 18 شركة طيران، مقارنة بخمس شركات فقط تسيطر على نصف السوق في الشرق الأوسط، وعشر شركات تستحوذ على 62% من سعة المنطقة.
وظّفت الصين شركاتها الجوية الكبرى—”تشاينا ساوثرن” (650 طائرة)، و”تشاينا إيسترن” (664 طائرة)، و”إير تشاينا” (505 طائرات)—كأذرع تنفيذية لمبادرة الحزام والطريق، مع اعتماد 85% من سعتها التشغيلية على السوق المحلي. تضمّن التوسع الخارجي لهذه الشركات طلبيات ضخمة تشمل 100 طائرة محلية من طراز C919 لكل من “تشاينا إيسترن” و”إير تشاينا”، إلى جانب طلبيات مكمّلة من طائرات A350 وB787 لفتح خطوط نحو آسيا الوسطى وأفريقيا وأوروبا الشرقية. ساهم هذا التوجه في تخفيف الاعتماد على الموردين الغربيين، وبناء منظومة تصنيع متكاملة تعزز الاستقلال الصناعي الصيني في قطاع الطيران.
أما الهند فقد اتبعت نموذجًا مختلفًا، قائمًا على استعادة السيطرة على سوق المسافرين من وإلى الهند، بعد عقود من سيطرة الشركات الأجنبية على الخطوط الدولية. شكّلت صفقة “إير إنديا” التاريخية، التي أعلنت عنها مجموعة “تاتا” في فبراير 2023، نقطة التحول؛ حيث شملت الطلبية 470 طائرة (250 من إيرباص و220 من بوينغ)، منها 70 طائرة عريضة البدن لتوسيع العمليات الدولية، و400 طائرة ضيقة البدن لبناء شبكة داخلية كثيفة تربط أكثر من 80 مدينة هندية. تعتمد هذه الاستراتيجية على نموذج الطلب المحلي (O&D) وليس على حركة العبور، ما يجعلها أكثر قدرة على امتصاص التقلبات الدولية، يوضح الشكل التالي أحجام أساطيل شركات الطيران الكبرى في آسيا والشرق الأوسط لعام 2025، مُبيّنًا التفاوت في القدرات التشغيلية بين نماذج الأعمال المختلفة، من الناقلات الفائقة إلى الشركات الموجهة للسوق المحلي.
تُظهر البيانات أن الشركات الصينية تهيمن من حيث الحجم، في حين تتبع الخليجية نماذج أكثر تركيزًا مع فاعلية استراتيجية أعلى، بينما تواصل شركات مثل “إير إنديا” إعادة بناء قدراتها التشغيلية.
ففي منطقة الخليج، رسّخت شركات مثل “طيران الإمارات” (260 طائرة) و”الخطوط القطرية” (261 طائرة) و”الاتحاد” (111 طائرة) نموذج “الناقل الفائق” Super-Connector Carrier، حيث يعتمد 66% إلى 84% من ركاب هذه الشركات على رحلات العبور (transit).
دعمت الإمارات هذا النموذج بطلبية ضخمة لـ 205 طائرات من طراز B777X، بالإضافة إلى 57 طائرة A350-900 و30 طائرة B787، ما يعكس التزامًا طويل الأجل بربط مراكز الطلب العالمية عبر محور دبي. أما قطر، فقد تنوعت استثماراتها لتشمل 90 طائرة B777-9، و130 طائرة B787، و18 طائرة A350-1000، ما يمنحها مرونة تشغيلية بين الخطوط عالية الكثافة والخطوط طويلة المدى محدودة الطلب. تبنّت “الاتحاد” مسارًا أكثر حذرًا، ضمن خطة “رحلة 2030″، التي تهدف إلى مضاعفة الأسطول والركاب بحلول نهاية العقد، بالاعتماد على طائرات B787 وA350 لدعم شبكة من 90 وجهة.
أنتج هذا التمايز في الاستراتيجيات والطلبيات حالة واضحة من إعادة توزيع القوة التشغيلية في المجال الجوي العالمي. تجاوزت القيمة الإجمالية للطلبيات الجديدة في الشرق الأوسط 200 مليار دولار حتى منتصف 2025، ما يعكس مستوى الثقة المؤسسية في مستقبل الربط الجوي عبر هذه المنطقة. في المقابل، لا تزال شركات الطيران الغربية تعاني من تأخر في تسليمات الطائرات، وضغوط بيئية وتشغيلية متزايدة، وتراجع في قدرتها على المنافسة في الأسواق العابرة للقارات.
أعادت هذه التحولات، مجتمعة، تعريف قواعد المنافسة في القطاع، فلم يعد معيار الريادة مرتبطًا بحجم السوق التقليدي أو إرث التشغيل، بل بقدرة الشركات على توظيف موقعها الجغرافي، ومرونة نموذجها التشغيلي، وكفاءة اندماجها في رؤية الدولة الاقتصادية. بهذا الميل المتسارع نحو الشرق، تدخل صناعة الطيران مرحلة ما بعد المركزية الغربية، لتُعاد صياغة المشهد الجوي وفقًا لمعادلات جيوسياسية واقتصادية جديدة.
لا تقتصر مظاهر الصعود الآسيوي والشرق أوسطي على إعادة رسم خطوط الربط أو تعظيم الحصة السوقية، بل تمتد إلى البنية الصلبة لمنظومة التشغيل، وتحديدًا في استراتيجيات تحديث الأساطيل واقتناء الطائرات. إذ تمثل الطلبيات الجديدة، في هذا السياق، أكثر من مجرد أدوات نمو تقليدية؛ حيث باتت تعكس التزامات مالية ومؤسسية طويلة الأجل، تُجسّد رؤى الدول والشركات حول مستقبل السوق واتجاهاته الهيكلية.
تشير تقديرات منتصف عام 2025 إلى أن قيمة الطلبيات القائمة في الشرق الأوسط تجاوزت 200 مليار دولار، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ المنطقة. تتركّز هذه الاستثمارات بالدرجة الأولى في سوق الطائرات عريضة البدن (Widebody)، لا سيّما الطرازات الحديثة من B777X وA350 وB787، نظرًا لما توفره من مدى أطول، واستهلاك أقل للوقود، وسعة أعلى للركاب. تمثل هذه الطائرات العمود الفقري في استراتيجيات الشركات التي تسعى لتوسيع شبكاتها العابرة للقارات، ورفع كفاءتها التشغيلية، وتقليل البصمة الكربونية على المدى الطويل.
في هذا السياق، تقدّمت شركة طيران الإمارات (Emirates) بطلبية ضخمة تشمل 205 طائرات من طراز Boeing 777X (170 من النسخة 777-9 و35 من النسخة 777-8)، إلى جانب 57 طائرة Airbus A350-900 و30 طائرة Boeing 787، لتعزيز قدرة دبي كمركز عالمي للحركة الجوية. أما الخطوط الجوية القطرية (Qatar Airways)، فاعتمدت مقاربة أكثر تنويعًا، تشمل 90 طائرة B777-9، و130 طائرة B787-9 وB787-10، و18 طائرة A350-1000، بما يتيح لها تشغيل مزيج متوازن من الخطوط عالية الكثافة وخطوط “المدى الطويل ضعيفة الطلب”. وفي المقابل، تبنّت شركة الاتحاد للطيران (Etihad Airways) سياسة توسع أكثر انضباطًا ضمن خطة “رحلة 2030″، وركزت على استثمارات في طائرات B787 وA350 بهدف مضاعفة الأسطول والوصول إلى 90 وجهة بحلول عام 2030.
على مستوى المملكة العربية السعودية، أدرجت شركة الخطوط السعودية (Saudia) تحديث الأسطول ضمن رؤية السعودية 2030، حيث أعلنت المجموعة عن استلام 191 طائرة جديدة، من بينها طائرات A330neo، وذلك لدعم خطة الوصول إلى 330 مليون مسافر سنويًّا، وربط المملكة بـ 250 وجهة، مع استيعاب الطلب المتزايد على حركة الحجاج والمعتمرين.
في جنوب آسيا، وقّعت شركة إير إنديا (Air India)، المملوكة لمجموعة تاتا، على صفقة تاريخية تُعد الأكبر عالميًّا، تشمل 470 طائرة، منها 70 طائرة عريضة البدن (40 A350، 20 B787، 10 B777-9)، و400 طائرة ضيقة البدن (210 A320/321neo، 190 B737 MAX). تهدف هذه الصفقة إلى بناء شبكة محلية ضخمة تدعم التوسع الدولي، ضمن استراتيجية تعتمد على نموذج الطلب المباشر (Origin & Destination) بدلًا من نموذج العبور.
أما في الصين، فقد ركزت شركات الطيران الثلاث الكبرى—تشاينا ساوثرن (China Southern)، تشاينا إيسترن (China Eastern)، وإير تشاينا (Air China)—على التوسع الداخلي عبر طلبيات ضخمة من طائرات A320neo وB737 MAX، إلى جانب طلبيات أقل للطائرات عريضة البدن من طراز A350. وتمثّلت الخطوة الاستراتيجية الأبرز في تقديم تشاينا إيسترن وإير تشاينا طلبات شراء لـ100 طائرة COMAC C919 لكل شركة، في دعم مباشر لتوطين صناعة الطيران الصينية وتقليل الاعتماد على بوينغ وإيرباص ضمن رؤية صناعية سيادية، تُظهر هذه الخريطة الحرارية حجم الطلبيات حسب نوع الطائرة لكل شركة طيران آسيوية وشرق أوسطية رئيسية في عام 2025.
بهذا التوزيع، تتباين الرهانات الاستراتيجية بين من يستثمر في الممرات العابرة للقارات كنقطة ارتكاز للنمو العالمي، ومن يراهن على السوق الداخلي كسوق تمويلي طويل الأجل، ومن يُدرج الطائرة ضمن سياسة تصنيع وصعود قومي مُمأسس. يعكس ذلك ليس فقط تعدد نماذج التشغيل، بل أيضًا تنوّع التصورات حول موقع الطيران في بنية الدولة الحديثة، بين من يراه خدمة تجارية، ومن يعتبره أداة سيادية واستثمارًا في المستقبل الاقتصادي والسياسي للدولة.
يُشكّل التنافس حول الراكب – باعتباره مركز القيمة النهائية في الصناعة- المرحلة الأكثر حسمًا في إعادة توزيع النفوذ داخل قطاع الطيران. فبعد استكمال استراتيجيات التوسع عبر تحديث الأساطيل وبناء الشبكات، تنتقل المنافسة إلى مستوى أعمق: قدرة نموذج العمل على تحويل الإمكانات التشغيلية إلى ولاء راكب وإيراد متكرر وهوامش ربح قابلة للاستدامة. لا تدور هذه المنافسة حول حجم السعة أو عدد الوجهات فحسب، بل حول كيفية هيكلة التجربة الجوية نفسها، وتحديد العلاقة بين الناقل والمستخدم ضمن منطق اقتصادي مستقر.
وهنا برز نموذج الناقل الفائق (Super-Connector Model) في دول الخليج بوصفه الأكثر تأثيرًا على خريطة الطيران العابرة للقارات. يستند هذا النموذج إلى ربط محاور عالمية مركزية مثل دبي، الدوحة، وأبوظبي، بشبكة من الخطوط التي تُمكّن المسافر من التنقل بين آلاف الوجهات من خلال توقف واحد. وقد وصلت نسب الركاب العابرين عبر هذه المحاور إلى ما بين 66% و84% من إجمالي الحركة، ما وفّر كثافات تشغيلية سمحت بخفض الكلفة وتكثيف العائد على المقعد. غير أن استدامة هذا النموذج تظل رهينة باستقرار خطوط الملاحة الدولية، وعدم بروز بدائل مباشرة عبر شركات وطنية في الأسواق الكبرى.
في المقابل، تعتمد شركة إير إنديا نموذجًا مختلفًا يتمحور حول الطلب المحلي المباشر (Origin & Destination). فبعد عقود من فقدان السيطرة على حركة السفر الدولية لصالح الشركات الأجنبية، تسعى إير إنديا لإعادة بناء شبكة تشغيل تركز على الربط المباشر بين المدن الهندية والأسواق الكبرى، مع الاعتماد على شبكة داخلية كثيفة تغذي الطلب الدولي. يُعد هذا النموذج أكثر توافقًا مع الأسواق كبيرة السكان وقليلة التشبع، لكنه يتطلب ضبطًا دقيقًا لتكاليف التشغيل، خصوصًا على الخطوط الطويلة.
أما في شرق آسيا، فقد حافظت شركات مثل سنغافورة للطيران وكاثي باسيفيك على نموذج محور الخدمة المتميزة (Premium Transit Hub)، القائم على الجمع بين الموقع الجغرافي والمالي الفريد والخدمات فائقة الجودة. تُركّز هذه الشركات على الفئات عالية القيمة، لا سيما رجال الأعمال والمسافرين من الدرجة الأولى، مع اعتماد مبدأ “الربحية من الجودة لا من الكم”. ويُلاحظ أن هذه الاستراتيجية تسعى إلى بناء حصن تنافسي من خلال تجربة الراكب، بدءًا من الصالات الفاخرة وحتى تصميم المقصورات.
شهدت هذه المقاربة تطورًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، خاصة في ما يتعلق بالاستثمار في الدرجات الممتازة. فقد طرحت الخطوط الجوية القطرية منتج Qsuite في درجة رجال الأعمال، الذي يقدم مقصورة مغلقة بالكامل بسرير مسطح وإمكانية التواصل العائلي أو الجماعي، ما قارب بين درجة الأعمال ومفاهيم الدرجة الأولى. من جهتها، استثمرت طيران الإمارات ما يقارب 5 مليارات دولار في إعادة تصميم مقصورات A380 وB777، وأدخلت فئة الدرجة الاقتصادية الممتازة (Premium Economy) لأول مرة ضمن شبكتها. أما سنغافورة للطيران، فقد خصصت 1.1 مليار دولار لتحديث أسطول A350، عبر أجنحة مغلقة في الدرجتين الأولى والأعمال، ضمن خطة تمتد حتى عام 2026.
انعكس هذا التركيز على الفئات المتميزة في هيكل الإيرادات، إذ تُظهر البيانات أن الرحلات الدولية الممتازة تُولّد ما يفوق 30% من أرباح بعض الشركات، رغم أن نسب الإشغال لا تتجاوز غالبًا 20%. يُبرز هذا التفاوت تحولًا بنيويًّا في منطق التشغيل، من تعظيم الحمولة إلى تعظيم القيمة، ومن استهداف السوق الواسع إلى تخصيص التجربة.
في هذا السياق، لم تعد المنافسة في قطاع الطيران تدور حول خطوط الطيران أو أنواع الطائرات فحسب، بل باتت معركة بين نماذج تشغيل مختلفة، تتواجه فيها مفاهيم العبور مع الطلب المباشر، وتتقاطع فيها الاستراتيجيات المالية مع تفضيلات المستخدم، ضمن سوق عالمي يشهد تغيرًا متسارعًا في سلوك المسافرين وهيكل الاقتصاد الجوي.
تمتلك شركات الطيران الآسيوية والشرق أوسطية اليوم قدرات تشغيلية واستثمارية غير مسبوقة، إلا أن قدرتها على تحويل هذه الميزات إلى تفوق طويل الأجل ستظل رهينة بمجموعة من العوامل الخارجية البنيوية، والداخلية المؤسسية. فبينما تدفع بعض المؤشرات نحو تعميق النفوذ الإقليمي والدولي لهذه الشركات، تبرز في المقابل تحديات كبرى تتعلق بالهيكل المالي، ومحددات السوق، والتقلبات الجيوسياسية والتنظيمية. وبالتالي، فإن استشراف المسار المستقبلي لا يتوقف عند رصد عناصر القوة، بل يتطلب تحليلًا مركبًا لما يمكن أن يُسهم في تعزيز أو تقويض هذا الزخم خلال العقد القادم.
على مستوى الرياح المواتية، يوفّر الموقع الجغرافي لشركات الخليج ميزة تنافسية مستدامة، تسمح بربط قارات آسيا، أوروبا، وأفريقيا عبر خطوط قصيرة نسبيًّا. وقد أظهرت تجارب شركات مثل طيران الإمارات والخطوط القطرية القدرة على استغلال هذا الموقع عبر نماذج تشغيل قائمة على العبور، مدعومة باستثمارات طويلة الأجل في الأساطيل والمطارات والبنية التحتية اللوجستية. كما تُعد الطلبيات الحالية مؤشرًا على مستوى الثقة المؤسسية في بقاء هذه الميزة. وفي المقابل، تمثل السوق الداخلية في كل من الصين والهند قوة دافعة مستقلة، نظرًا لحجم الطلب المحلي والإقليمي. وتشير التقديرات إلى أن الهند ستُصبح ثالث أكبر سوق للطيران في العالم بحلول عام 2030، بينما يُتوقع أن تُولّد الصين ما يزيد عن 1.4 مليار رحلة داخلية سنويًّا مع نهاية العقد.
في الوقت نفسه، تواجه هذه الشركات رياحًا معاكسة تتعلق بمحدودية الطاقات الاستيعابية للمطارات في بعض المراكز، وتباطؤ سلاسل التوريد في تسليم الطائرات، واشتراطات البيئة والانبعاثات الكربونية. على سبيل المثال، واجهت شركات خليجية كبرى تأخرًا في استلام طائرات B777X وA350-1000 بسبب تعقيدات فنية وتنظيمية في خطوط الإنتاج، ما أضعف قدرتها على تنفيذ خطط التوسع ضمن الجداول الزمنية المخططة. كما أن السياسات الأوروبية المقترحة لفرض ضرائب بيئية على الرحلات الطويلة قد تفرض ضغوطًا مباشرة على نماذج العبور التي تعتمد عليها شركات الشرق الأوسط. وتزداد حساسية هذه التحديات مع صعود التوجهات الحمائية في قطاع الطيران، وتنامي دعوات “استعادة السيادة الجوية” في الدول الغربية، عبر سياسات دعم الناقلات الوطنية، وتشديد شروط دخول الشركات الأجنبية إلى الأسواق.
من ناحية أخرى، تُمثل تحولات سلوك المسافر عاملًا متغيرًا لا يقل أهمية. فبعد الجائحة، برزت أنماط جديدة في الطلب، تتجه نحو المرونة في الحجز، وتفضيل الرحلات المباشرة، وارتفاع التوقعات فيما يتعلق بتجربة السفر الرقمي والخصوصية. ورغم أن شركات الشرق قد حققت تقدمًا ملحوظًا في تطوير الخدمات المتميزة، إلا أن القدرة على التكيّف مع هذه المتغيرات ستُشكّل معيارًا فارقًا في الحفاظ على الحصة السوقية، خاصة في ظل بروز منافسة من شركات منخفضة التكلفة تعمل على تحديث نماذجها.
يُضاف إلى ذلك أن مسألة أمن البيانات والامتثال التنظيمي في الأسواق الغربية قد تُحدّد مستقبل النفاذ إلى الأسواق المتميزة، إذ تفرض بيئات مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة معايير متشددة فيما يتعلق بحماية البيانات، والتعامل مع أنظمة الحجز والدفع السحابي.
في المجمل، يبدو أن القدرة على الحفاظ على الزخم الحالي ستعتمد على ثلاثة محددات رئيسية: أولًا، مرونة النماذج التشغيلية أمام الصدمات النظامية. ثانيًا، القدرة على المواءمة بين توسع الأساطيل والتقلبات في الطلب. وثالثًا، دمج الابتكار التكنولوجي بشكل مؤسسي لا يقتصر على الواجهة الخدمية بل يشمل البنية التشغيلية بالكامل. وفي ضوء هذه العوامل، يتعين النظر إلى المشهد الجوي العالمي كميدان مفتوح لإعادة الترتيب، لا تحسمه القدرة الراهنة فقط، بل القدرة على إعادة التكيّف المستمر مع مسار معقد وغير قابل للتنبؤ.
خلاصة القول إذن أنه في ضوء التحولات التي تناولتها الدراسة، لا يُمكن حسم الإجابة وفق معيار تقني أو تجاري واحد، بل يتعيّن تحليل تراكبي يدمج الموقع الجغرافي، ونموذج التشغيل، وطبيعة السوق المستهدفة، وهيكل الاستثمار المؤسسي. إذ تُظهر شركات الخليج مرونة استراتيجية عالية، مدعومة بنماذج عبور عالمية، وأساطيل متطورة، ومواقع تشغيلية وسطية، إلا أن اعتمادها على الرحلات العابرة يجعلها أكثر عرضة لمخاطر التغيرات التنظيمية في الأسواق الغربية.
في المقابل، تمتلك الصين والهند قاعدة طلب داخلية ضخمة، تمكّنها من الاستقلال الجزئي عن التقلبات العالمية، مع إدماج الطيران في رؤى صناعية وتنموية طويلة الأمد. تُراهن الصين على التوطين الصناعي وتقليص الاعتماد على الغرب، بينما تسعى الهند لاستعادة السيطرة على شبكة السفر من خلال نموذج الطلب المباشر.
وفق هذا التوزيع، لا يبدو أن “الفوز” سيُحسم من خلال نموذج أحادي، بل من خلال قدرة كل طرف على تحويل ميزته النسبية إلى بنية تشغيلية مستدامة، وتحييد مكامن ضعفه البنيوية. وتظل النتيجة مفتوحة على متغيرات جيوسياسية وتنظيمية ستُعيد رسم قواعد المنافسة في العقد القادم، ما يجعل المشهد الجوي أكثر سيولة وتعقيدًا من أي وقت مضى.
Air Travel Recovery as Asia-Pacific, Middle East, and Americas Show Mixed Trends, New Update is Here, accessed August 20, 2025, https://www.travelandtourworld.com/news/article/air-travel-recovery-as-asia-pacific-middle-east-and-americas-show-mixed-trends-new-update-is-here/
Asia Pacific and Middle East to propel air passenger traffic growth to 2030, says new ACI-ICAO report, accessed August 20, 2025, https://moodiedavittreport.com/asia-pacific-and-middle-east-to-propel-air-passenger-traffic-growth-to-2030-says-new-aci-icao-report/
India, China, and the Middle East boost aviation; AOT sees strong profits – Nation Thailand, accessed August 20, 2025, https://www.nationthailand.com/business/economy/40054225
(PDF) The Impact of Government Intervention on the Short-& Long-term growth of the Flag Carriers: A Comparative Analysis between Middle East & Far East Asian Countries – ResearchGate, accessed August 20, 2025, https://www.researchgate.net/publication/378265467_The_Impact_of_Government_Intervention_on_the_Short-_Long-term_growth_of_the_Flag_Carriers_A_Comparative_Analysis_between_Middle_East_Far_East_Asian_Countries
Middle East aviation: Key market insights from latest outlook – Cirium, accessed August 20, 2025, https://www.cirium.com/thoughtcloud/2025-middle-east-aviation-key-market-insights/
Middle East Carriers Post 8.7% Margin, Highest Globally, accessed August 20, 2025, https://www.aviationbusinessme.com/airlines/middle-east-carriers-post-8-7-margin-highest-globally
Chart of the Week – Airline market share profiles vary across regions – IATA, accessed August 20, 2025, https://www.iata.org/en/iata-repository/publications/economic-reports/airline-market-share-profiles-vary-across-regions/
The North American Airline Market Is The Most Concentrated In The World – Simple Flying, accessed August 20, 2025, https://simpleflying.com/north-america-concentrated-airline-market/
Top 10 Airlines in the Middle East & Africa in 2021 No. of Seats Sold – GlobalData, accessed August 20, 2025, https://www.globaldata.com/companies/top-companies-by-sector/travel-and-tourism/middle-east–africa-airlines-by-no-of-seats-sold/
Middle East Aviation: Growth in the World’s Second-Fastest Growing Market – OAG, accessed August 20, 2025, https://www.oag.com/blog/middle-east-aviation-growth-in-the-worlds-second-fastest-growing-market
تعليقات