في تصعيد جديد للحرب المستمرة منذ نحو عامين، أصدرت إسرائيل يوم الثلاثاء أمراً بالإخلاء الكامل لمدينة غزة، التي يقطنها ما يقارب مليون فلسيني، تمهيداً لما وصفه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بـ"بداية" مناورة برية مكثفة.

 

أسقط الجيش الإسرائيلي آلاف المنشورات التي تأمر السكان بالنزوح جنوباً باتجاه منطقة المواصي المكتظة، والمسمّاة بـ"المنطقة الإنسانية"، فيما واصلت الغارات الجوية استهداف الأبراج السكنية والأحياء الحضرية. وتمثل هذه الخطوة نقطة تحول في الحملة الإسرائيلية، إذ تشير إلى انتقالها من السيطرة العسكرية الجزئية على مدينة غزة إلى السعي نحو فرض احتلال كامل لها.

التداعيات قصيرة المدى

رغم الأوامر الصادرة، تشير التقارير الميدانية إلى أن جزءاً محدوداً فقط من السكان تمكن أو رغب في الإخلاء. وتستعد المستشفيات لعمليات نقل قسري، فيما يؤكد الأطباء أنهم لن يتخلوا عن مرضاهم. وفي الأثناء، تحذّر وكالات الإغاثة من أن منطقة المواصي، التي تستضيف بالفعل عشرات الآلاف في خيام، غير آمنة وعاجزة عن استيعاب موجة نزوح جماعية جديدة. كما وصفت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) غزة بأنها تُفرَّغ من سكانها الذين يعانون الجوع، في حين حذّر مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة من عواقب “كارثية” قد تطال المدنيين.

 

سيؤدي القرار الإسرائيلي بالإخلاء الفوري إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في مدينة غزة وعموم القطاع، حيث يجد السكان أنفسهم أمام خيارين بالغَي القسوة: إما البقاء في مدينة محاصرة تحت قصف مكثف، أو النزوح جنوباً إلى مناطق مكتظة تعاني أصلاً من شحّ المأوى والأمن والغذاء. ويأتي ذلك رغم التحذيرات المتكررة الصادرة عن الأمم المتحدة بأن أي منطقة في غزة لا يمكن اعتبارها آمنة، في ظل تواصل الغارات الإسرائيلية التي استهدفت مراراً كلّاً من “المناطق الإنسانية” المعلنة ومراكز التجمعات السكانية في الجنوب.

 

وعلاوة على ذلك، فإن المنشآت الطبية تقف في صميم هذه الأزمة، إذ تستعد المستشفيات الرئيسية الوحيدة العاملة في غزة ـ الشفاء والأهلي ـ للإخلاء وفقاً للتقارير. ويعني إغلاق هذه المرافق أو تدميرها تعريض القطاع لخطر فقدان الرعاية الصحية بالكامل. ولزيادة خطورة الوضع الراهن، كانت منظمة الصحة العالمية وهيئات إنسانية قد حذّرت بالفعل من ظروف أشبه بالمجاعة ومن تفشّي الأمراض؛ ومن شأن مزيد من تعطيل الخدمات الطبية أن يدفع بالنظام الصحي إلى حافة الانهيار.

 

ميدانيًا، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه بات يسيطر على 40% من مدينة غزة، ويستعد لتنفيذ اجتياح شامل لبقية المناطق، في خطوة يُتوقع أن تفضي إلى معارك حضرية ضارية مع حركة حماس التي يُرجَّح أن تبدي مقاومة قوية، مما يجعل ارتفاع حصيلة الضحايا المدنيين أمراً شبه محتوم. ويُنظر إلى أمر الإخلاء باعتباره محاولة تكتيكية لدرء الانتقادات عبر الادعاء بأن إسرائيل قدّمت “إنذاراً مسبقاً” قبل تصعيد القتال، غير أن المراقبين الدوليين يعبرون عن شكوك عميقة في ظل انعدام مسارات هروب آمنة أو مناطق قابلة للعيش.

 

دبلوماسياً، يهدد أمر الإخلاء بنسف مفاوضات وقف إطلاق النار الهشة، إذ كان الوسطاء يأملون في التوصل إلى هدنة مرتبطة بعمليات تبادل الأسرى، غير أن الوضعية العسكرية الإسرائيلية تعكس تفضيلاً للتصعيد على حساب التسوية. وفي المقابل، أعلنت حركة حماس أنها لن تقبل بنزع سلاحها أو إطلاق سراح الأسرى المتبقين من دون إنهاء دائم للحرب والاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو ما يجعل أي اختراق قصير المدى أمراً مستبعداً. ومع ذلك، باتت احتمالات استئناف مفاوضات وقف إطلاق النار غير واضحة في ضوء القصف الإسرائيلي للعاصمة القطرية التي استضافت تلك المفاوضات.

 

وعلى الساحة الدولية، يتعقّد هذا المسار بفعل إعلان عدد من الدول الأوروبية عزمها الاعتراف رسمياً بالدولة الفلسطينية خلال الجمعية العامة المقبلة للأمم المتحدة، وهو تطور يسلط الضوء على مخاطر تزايد عزلة إسرائيل دبلوماسياً في حال استمرار استراتيجيتها العسكرية الحالية دون ضوابط أو مراجعة.

التداعيات بعيدة المدى

إن قرار إسرائيل بالإخلاء القسري لمدينة غزة يتجاوز في أبعاده ساحة القتال المباشرة، إذ إن تدمير أكبر المراكز الحضرية في القطاع يهدد بإحداث تغيير دائم في بنيته الديموغرافية والسياسية على حد سواء.

 

الهدف المعلن يتمثل في القضاء على حركة حماس ونزع السلاح من قطاع غزة، غير أن تجارب مكافحة التمرد في البيئات الحضرية توضح أن الاحتلال العسكري الكامل لا يكفي لاجتثاث الشبكات المتغلغلة بعمق. ومن ثم، فإن بقاء قوات الجيش الإسرائيلي لفترة طويلة سيعرّضها لحرب عصابات، ويستنزف مواردها، ويزيد حدة الانقسامات السياسية في الداخل. أما التحدي المتمثل في إدارة مدينة مدمرة، وتوفير الخدمات الأساسية، وفرض الأمن، وقيادة جهود إعادة الإعمار، فسيُثبت على الأرجح أنه غير قابل للاستدامة من دون مشاركة دولية فاعلة.

 

كما يحمل هذا المشهد تداعيات عميقة على الإرث السياسي لبنيامين نتنياهو؛ فإذا عجزت إسرائيل عن تحقيق نصر حاسم على حركة حماس، فإن الخراب الذي لحق بغزة وأهلها سيُخلّد مسيرته بوصفه مثالاً على الإفراط في التقدير الاستراتيجي، ولزعيم تمسّك بالسلطة والموقع من دون أن يتحمل تبعات ما بعد الحرب.

 

علاوة على ذلك، قد تسرّع سياسات نتنياهو وتيرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وإذا ما دُمّرت مدينة غزة وتعرض سكانها لتهجير دائم، فإن إسرائيل ستواجه اتهامات متصاعدة بارتكاب جرائم حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية، إلى جانب تزايد حدة الإدانات داخل منظومة الأمم المتحدة.

 

أما بالنسبة للفلسطينيين، فقد يشكل الإخلاء لحظة فاصلة، إذ إن التهجير القسري لما يقارب مليون إنسان يهدد بمحو مدينة غزة كقلب ثقافي وسياسي للحياة الفلسطينية، الأمر الذي من شأنه أن يزيد المجتمع تفككاً ويعقّد آفاق إقامة الدولة. كما أن النزوح نحو منطقة المواصي أو إلى الخارج قد يرسّخ أوضاع اللجوء طويلة الأمد، بما يقوّض آمال العودة والسيادة، ويضعف إمكانية قيام دولة فلسطينية في المستقبل.

 

إقليمياً، قد يسهم أمر الإخلاء في إعادة تشكيل ميزان القوى، إذ تجد الدول المجاورة نفسها أمام احتمال تدفق موجات نزوح جديدة وما يرافقها من ضغوط متزايدة من الحركات المتضامنة مع الفلسطينيين. وفي الوقت ذاته، قد تسعى إيران وحلفاؤها إلى استثمار الموقف في الدفع نحو مواجهة أوسع مع إسرائيل، بما يضاعف مخاطر انزلاق المنطقة نحو تصعيد إقليمي أشمل.

 

“تحذير استراتيجي” هو سلسلة من المقالات المختصرة وسريعة التفاعل، تهدف إلى رصد تطورات أو اتجاهات بارزة من خلال تحليل استشرافي. تجمع هذه السلسلة بين الرؤية التحليلية السريعة والخيال التحليلي، لتسليط الضوء على السيناريوهات المستقبلية المحتملة وتقدير انعكاساتها.

الكلمات الدالة

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *