في عالم تسوده التحوّلات المتسارعة المدفوعة بالتقدم التكنولوجي، يُعاد رسم ملامح المشهد العالمي على وقع الصعود اللافت لتقنيات الذكاء الاصطناعي، تلك التقنية التي باتت تضطلع بدور جوهري في إحداث تحوّلات اقتصادية كبرى، وإطلاق عصر جديد من النمو في الناتج المحلي الإجمالي. وتُعدّ منطقة الشرق الأوسط من بين أكثر المناطق حيويةً في ما يتعلّق بدمج الذكاء الاصطناعي، إذ لا تكتفي بمجرد الرصد أو مواكبة حركة التطور، بل تتبنّى هذا التحوّل بشكل ثوري، حيث تسعى حكومات المنطقة إلى تسخير إمكانات الذكاء الاصطناعي لإعادة تشكيل سياساتها، وتطبيق استراتيجيات وطنية طموحة، واستقطاب استثمارات أكثر ذكاءً، وإعادة بناء مستقبلها على أسس رقمية أكثر تطورًا. وقد بدأت ملامح هذا التحول تؤتي ثمارها، حيث باتت اقتصادات عدّة في المنطقة أكثر مرونةً وديناميكية، وتطورت النظم لتعمل بكفاءة وذكاء أعلى، ما أسهم في توفير خدمات أفضل وأكثر فاعلية لشعوبها.
ورغم التقدّم السريع والنمو المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي داخل الشرق الأوسط، لا تزال المنطقة تواجه جملة من التحديات التي تُعيق المسار التحويلي المنشود، من أبرزها النقص في الكوادر البشرية المؤهّلة بالقدر الكافي، والحاجة المستمرة إلى حلول مبتكرة وأساليب جديدة لسد هذه الفجوة. وفي المقابل، تفتقر معظم دول المنطقة إلى إطار تشريعي متكامل ينظّم استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل عادل وأخلاقي، بما يضمن اتساقه مع المبادئ الإنسانية والمعايير الدولية. كما أن الحاجة المتنامية إلى تطوير بنية تحتية رقمية مستدامة تؤكد أن الطريق لا يزال يتطلّب المزيد من الجهود والعمل المؤسسي. غير أن تجاوز هذه التحديات والعقبات كفيل بإطلاق الإمكانات الكاملة للمنطقة، وتعزيز قدرتها التنافسية، وتمكينها من لعب دور محوري في مشهد الذكاء الاصطناعي العالمي.
يُنتظر من تقنيات الذكاء الاصطناعي أن تُحدث ثورة شاملة وتحوّلات جذرية، لما لها من دور محوري في تعزيز الإنتاجية ودفع عجلة النمو في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وذلك من خلال الاستثمارات الاستراتيجية في التقنيات الناشئة. وبين عامي 2026 و2030، من المتوقع أن يكون تأثير الذكاء الاصطناعي على اقتصادات العالم بالغًا، حيث تشير تقديرات شركة (بي دبليو سي- PwC) إلى إمكانية مساهمة الذكاء الاصطناعي بما يصل إلى 15.7 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030، فيما ترفع مؤسسة (أي دي سي – IDC) هذا الرقم إلى نحو 19.9 تريليون دولار. ويُعزى هذا النمو المرتقب إلى مجموعة من العوامل الرئيسية، أبرزها: المكاسب الناتجة عن تحسين الإنتاجية، وتطوير منتجات وخدمات جديدة، وأتمتة المهام الروتينية، الأمر الذي سيقود إلى اعتماد قرارات استراتيجية أكثر كفاءة ودقة في مختلف القطاعات الاقتصادية.
بحلول عام 2030، من المتوقع أن تستفيد كلٌّ من الصين وأمريكا الشمالية على نحوٍ كبير من النمو الاقتصادي المدفوع بالذكاء الاصطناعي، حيث ستسجل زيادة في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 26% و14.5% على التوالي، بما يعادل نحو 10.7 تريليون دولار من القيمة الاقتصادية، أي ما يقارب 70% من إجمالي مساهمة الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم. وفي ظل هذا التقدّم التكنولوجي المتسارع، تتسابق حكومات وشركات الشرق الأوسط إلى التكيّف مع متطلبات الثورة الصناعية الرابعة التي تجتاح العالم، وتسعى إلى ترسيخ الذكاء الاصطناعي في قلب مساراتها التنموية.
وتولي دول مجلس التعاون الخليجي اهتمامًا خاصًا بالذكاء الاصطناعي باعتباره أحد الأعمدة الرئيسية لأجنداتها الوطنية، لا سيما في ما يتعلّق بتنويع مصادر الدخل والتحوّل نحو اقتصاد قائم على المعرفة. ويظهر ذلك بوضوح في “رؤية السعودية 2030″، التي تمنح الذكاء الاصطناعي دورًا جوهريًا في تقليص الاعتماد على العائدات النفطية، وتعززها “الاستراتيجية الوطنية للبيانات”، التي تنفذ مشروعات ضخمة قائمة على الذكاء الاصطناعي، أبرزها مشروع “نيوم”، المدينة الذكية المدعومة بتقنيات الجيل الجديد. وتسعى المملكة إلى جذب استثمارات بقيمة 20 مليار دولار في مجال البيانات والذكاء الاصطناعي، ودعم أكثر من 300 شركة ناشئة في هذا القطاع من خلال مبادرات مثل برنامج مسرّعة الذكاء الاصطناعي التوليدي بقيمة مليار دولار، ومبادرة “آلات” المدعومة من صندوق الاستثمارات العامة، التي تتعهد بضخ 100 مليار دولار بحلول عام 2030 في مجالي الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات.
في مايو 2025، كشفت المملكة العربية السعودية عن مبادرة رائدة تحمل اسم “هيوماين”HUMAIN-، تهدف إلى إنشاء منظومة متكاملة للذكاء الاصطناعي، تشمل مراكز بيانات متقدمة وتطوير نموذج لغوي ضخم باللغة العربية يُعدّ من بين الأحدث عالميًا. وتتماشى هذه المبادرة مع الأهداف الاستراتيجية لرؤية 2030، إذ تسعى إلى ترسيخ مكانة المملكة كمركز عالمي رائد في مجال ابتكارات الذكاء الاصطناعي بحلول نهاية العقد. وقد نجحت “هيوماين” بالفعل في تأمين شراكات استراتيجية تتجاوز قيمتها 23 مليار دولار مع كبرى شركات التكنولوجيا العالمية، من بينها “إنفيديا-NVIDIA” و”إي إم ديAMD-” و”إيه دابليو إس-AWS” ، إلى جانب خطط طموحة لإطلاق صندوق استثماري بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم. وتهدف مبادرة “هيوماين” إلى إدارة نحو 7% من عبء العمل العالمي في مجال الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الخمس المقبلة.
ويعزّز تسريع وتيرة تبني الذكاء الاصطناعي والابتكار في السعودية التزامات مالية ضخمة، إذ أعلنت المملكة عن استثمار قدره 14.9 مليار دولار خلال مؤتمر LEAP 2025، موجه نحو سلسلة من المبادرات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي تشمل مجالات متعددة، أبرزها البحث والتطوير، وبُنى البيانات التحتية، والخدمات الحكومية، وإصلاحات المنظومة التعليمية.
وبالمثل، تسعى “استراتيجية الإمارات الوطنية للذكاء الاصطناعي”، بقيادة وزارة الذكاء الاصطناعي، إلى ترسيخ مكانة الدولة كقوة عالمية رائدة في تنفيذ وتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2031، وذلك بدعم من صندوق استثماري ضخم تبلغ قيمته 100 مليار دولار. وتعمل الإمارات بفعالية على تعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي من خلال شراكات استراتيجية محورية، حيث تعاونت مع شركة “أوبن إيه آي-OpenAI” لتوفير إمكانية الوصول إلى خدمة “شات جي بي تي بلس-ChatGPT Plus” على مستوى الدولة، ما يعزّز تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي المتقدم في قطاعات متعددة مثل الأعمال والتعليم. وفي هذا السياق، تتعاون شركة “إنفيديا –Nvidia” مع مراكز بيانات “خزنة” لبناء ما يُعرف بـ”مصانع الذكاء الاصطناعي”، وهي بنى تحتية حاسوبية ضخمة تُستخدم في تطوير ونشر النماذج الذكية المتقدمة عبر منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، بما في ذلك مشروع مقترح لإقامة مجمع للذكاء الاصطناعي في أبوظبي بسعة قدرها 5 جيجاوات. ويحمل المجمع اسم “مجمع الذكاء الاصطناعي الإماراتي ـ الأميركي الشامل”.
وفي الوقت ذاته، تسير دول أخرى مثل قطر ومصر على خطى مماثلة، حيث تعمل على دمج تقنيات وحلول الذكاء الاصطناعي ضمن رؤاها وخططها التنموية بعيدة المدى. ويستند هذا الزخم المتواصل إلى نشر بنية تحتية متقدمة تشمل تغطية واسعة بتقنية الجيل الخامس (5G)، وبرمجيات حوسبة سحابية عالية الكفاءة، إلى جانب تأسيس مراكز بيانات محلية قوية. كما تبذل المنطقة جهودًا حثيثة لتنويع وتعزيز قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال إنشاء مؤسسات متخصصة، مثل “جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي” في أبوظبي، والتي تهدف إلى تأهيل الكفاءات الوطنية المتنوعة والموهوبة وتزويدها بالمهارات اللازمة للانخراط في هذا القطاع الحيوي.
من اللافت أن معدلات تبني الذكاء الاصطناعي في دول مجلس التعاون الخليجي قد تجاوزت بالفعل المتوسطات والمعايير العالمية. فقد أظهر استطلاع حديث أجرته شركة “ماكينزي” أن 62% من المؤسسات في دول المجلس تستخدم تطبيقًا واحدًا على الأقل مدعومًا بالذكاء الاصطناعي، متفوقة بذلك على المعدلات المسجّلة في أمريكا الشمالية (59%)، وأوروبا (49%)، ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ (55%). وفي السياق ذاته، تشير دراسة حديثة أصدرتها مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG) إلى أن ما يقارب نصف الشركات في دول مجلس التعاون (47%) تنجح بالفعل في تحقيق قيمة مضافة من الذكاء الاصطناعي عبر دمجه في صميم عملياتها التشغيلية.
وتُسهم هذه الجهود المتسارعة والمتكاملة في وضع منطقة الشرق الأوسط في صدارة السباق العالمي، ما يجعلها فاعلًا رئيسيًا في إعادة تشكيل مشهد الذكاء الاصطناعي على المستوى الدولي.
يقف الشرق الأوسط على أعتاب لحظة مفصلية، حيث يُنتظر من الذكاء الاصطناعي أن يؤدي دورًا بالغ الأهمية في إعادة تشكيل المشهد الاقتصادي للمنطقة. ووفقًا لدراسات حديثة صادرة عن شركة (بي دبليو سي- PwC)، من المتوقع أن تصل مساهمة الذكاء الاصطناعي في الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة إلى نحو 320 مليار دولار بحلول عام 2030، منها ما يقارب 260 مليار دولار كإسهام مباشر من دول الخليج العربي. وفي دول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، لا يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره رفاهية، بل يُعدّ ركيزة أساسية في الرؤى الوطنية التي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل وترسيخ موقع هذه الدول كمراكز عالمية للابتكار التكنولوجي.
وعلى المستوى الوطني، تُعدّ المملكة العربية السعودية المستفيد الأكبر من الذكاء الاصطناعي من حيث المكاسب الاقتصادية المتوقعة، في حين تُسجّل الإمارات العربية المتحدة أعلى تأثير نسبي للذكاء الاصطناعي على اقتصادها. أما باقي دول مجلس التعاون الخليجي، وعلى رأسها البحرين والكويت وسلطنة عُمان وقطر، فهي أيضًا مرشّحة لتحقيق مكاسب اقتصادية ملموسة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي. وعلى الرغم من تفاوت نسب التأثير المتوقع، والتي تتراوح بين 20% و34%، إلا أن منحنى النمو مرشح للاستمرار في التصاعد، مدفوعًا بالريادة المتزايدة لكل من السعودية والإمارات.
معظم الأثر الذي يُحدثه الذكاء الاصطناعي ينبع من قدرته على أتمتة المهام المتكررة، ما يتيح للموظفين أداء أعمالهم بكفاءة أعلى وبشكل أكثر استباقية، ويمنحهم الوقت للتركيز على مهام ذات قيمة استراتيجية مضافة. ويُعدّ مثال شركة “أرامكو” السعودية نموذجًا حيًا على ذلك، إذ اعتمدت أدوات وتقنيات الذكاء الاصطناعي بفعالية منذ عام 2010، ما أسهم في خفض انبعاثات الحرق بنسبة وصلت إلى 50% خلال الخمسة عشر عامًا الماضية. وتشير عدة دراسات إلى أن 70% من المتخصصين في التكنولوجيا بدول الخليج يدركون الأثر الإيجابي الذي أحدثه تبنّي الذكاء الاصطناعي في رفع معدلات الإنتاجية والكفاءة.
ولا يقتصر دور الذكاء الاصطناعي على تحسين سير العمل واتخاذ القرار، بل يمتد إلى إعادة تشكيل عقلية المستهلكين تجاه المنتجات والخدمات، لتصبح أكثر تخصيصًا وتنوّعًا وبأسعار أكثر تنافسية. ويبرز هذا الأثر بوضوح في قطاعات حيوية مثل البيع بالتجزئة والسلع الاستهلاكية، حيث تبنّت 75% من الشركات تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما مكّنها من تقديم تجارب أكثر تخصيصًا للعملاء استنادًا إلى بيانات تم تحليلها وتوقّعها بكفاءة عالية.
وفي قطاع النفط والغاز، حقّقت شركات مثل “أدنوك” و”أرامكو” وفورات كبيرة في التكاليف من خلال الاعتماد على تقنيات الصيانة التنبؤية وإدارة المكامن المدعومة بالذكاء الاصطناعي. أما في القطاع المصرفي، فمن المتوقع أن تفتح تطبيقات الذكاء الاصطناعي، مثل كشف الاحتيال وتقديم المشورة الآلية، آفاقًا استثمارية جديدة قد تصل إلى 15–20 مليار دولار بحلول عام 2030. كما يُتوقع أن يشهد قطاع الرعاية الصحية تحوّلات جذرية، مع إمكانية تحقيق وفورات تتراوح بين 10 و15 مليار دولار، من خلال تحسين التشخيص، ومراقبة المرضى، وتعزيز أتمتة العمليات بشكل عام.
علاوة على ذلك، تُعدّ مشاريع المدن الذكية واسعة النطاق، مثل “نيوم” في المملكة العربية السعودية و”دبي الذكية” في دولة الإمارات العربية المتحدة، من النماذج الرائدة في دمج الذكاء الاصطناعي في صميم البنية التحتية وتصميم الخدمات، حيث تُعيد هذه المشاريع تعريف مفاهيم المدن الذكية على نحو ثوري، مع إمكانات واعدة بتحقيق أكثر من 50 مليار دولار من القيمة الاقتصادية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي خلال العقد المقبل.
ويُتوقع أن تشهد الإمكانات الاقتصادية للمنطقة نموًا إضافيًا مدفوعًة بتطور تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI)، حيث تشير دراسة حديثة صادرة عن شركة “ماكينزي آند كومباني” إلى مساهمة سنوية إضافية تتراوح بين 21 و35 مليار دولار لصالح اقتصادات مجلس التعاون الخليجي، وذلك علاوةً على 150 مليار دولار المتوقعة من الذكاء الاصطناعي التقليدي. وبذلك، يمثل الذكاء الاصطناعي بمختلف أشكاله نسبة تتراوح بين 1.7% و2.8% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي الحالي في المنطقة. ومع ذلك، فإن تحقيق الإمكانات اللامحدودة لهذه التقنيات المستقبلية يتطلب التغلب على سلسلة من التحديات، في مقدمتها العوائق الهيكلية والاستراتيجية التي قد تُقيّد عمق تأثير الذكاء الاصطناعي وانتشاره واستدامته على المدى البعيد.
رغم التقدّم اللافت والرؤية الطموحة التي تتبناها دول المنطقة في مجال تبنّي الذكاء الاصطناعي، لا تزال منطقة الشرق الأوسط تواجه مجموعة من التحديات الجوهرية التي قد تُقيّد الاستفادة الكاملة من التحوّل الرقمي الذي تقوده هذه التكنولوجيا. وقد سلّط تقرير صادر عن شركة “ديلويت”، بالتعاون مع “جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي”، الضوء على هذه التحديات من خلال دراسة شملت 155 شركة في كل من المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وقطر. ويُعدّ التغلّب على هذه العقبات أمرًا بالغ الأهمية لضمان تحقيق تنمية مستدامة وشاملة في مجال الذكاء الاصطناعي على امتداد المنطقة بأكملها.
تُعدّ فجوة المهارات والكفاءات التقنية في سوق العمل من بين أبرز التحديات الملحّة والمعترف بها على نطاق واسع في المنطقة. فعلى الرغم من الاستثمارات المستمرة والمكثفة في إصلاح المنظومة التعليمية، لا يزال هناك نقص ملحوظ في عدد الخبراء المحليين المتخصصين في مجالات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يحدّ من بناء قدرات ذاتية مستدامة على المدى الطويل. وفي الوقت ذاته، فإن نسبة كبيرة من القوى العاملة الحالية في المنطقة ستحتاج إلى برامج تدريب موسّعة بشكل مستمر لتأهيلها وتطوير مهاراتها، بما يتيح لها التكيّف مع التحوّلات السريعة التي تفرضها تقنيات الذكاء الاصطناعي.
ولتوضيح حجم الفجوة، يُقدّر عدد المتخصصين في الذكاء الاصطناعي في كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات بنحو 5,000 خبير فقط في كل دولة، وهي أرقام لا تزال متواضعة، خصوصًا عند مقارنتها بدول مثل ألمانيا التي تضم أكثر من 40,000 متخصص في هذا المجال.
يمثّل تطوير أطر تنظيمية قوية للبيانات وأسس أخلاقية واضحة في مجال الذكاء الاصطناعي مجالًا بالغ الأهمية ويشكّل أحد أبرز مواطن القلق في المنطقة. فعلى الرغم من أن بعض الدول في الشرق الأوسط قد اتخذت خطوات متقدّمة في اعتماد مبادئ وتوجيهات أخلاقية فعّالة، إلا أن القوانين الملزمة بشأن خصوصية البيانات، والشفافية، والمساءلة لا تزال محدودة أو مجزأة، ما يخلق فجوة تنظيمية قد تُسهم في تقويض ثقة الجمهور، وتمكين إساءة استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وخلق حالة من عدم اليقين القانوني أمام الشركات العاملة في مختلف القطاعات. إن سنّ أطر قانونية ملزمة تراعي القيم الاجتماعية يُعدّ شرطًا أساسيًا لضمان تطبيق عادل ومسؤول لتقنيات الذكاء الاصطناعي. فعلى سبيل المثال، ورغم التقدّم الذي أحرزته دبي في تطوير بنية تحتية لحوكمة البيانات، فإن النضج المؤسسي على مستوى المنطقة في هذا المجال لا يزال دون المعايير العالمية المثلى المتبعة في حوكمة البيانات لدى كبرى الاقتصادات.
علاوة على ذلك، تُشكّل جاهزية البنية التحتية وقضايا البيانات عقبات جوهرية أمام التقدّم الفعّال في تطبيقات الذكاء الاصطناعي. فرغم تنامي اعتماد المؤسسات في المنطقة على الحوسبة السحابية واتساع نطاق استخدامها، لا تزال العديد من الجهات تُفضّل اعتماد أنظمة هجينة أو داخلية، نتيجة لمخاوف تتعلق بسيادة البيانات ومتطلبات الامتثال التنظيمي. كما أن ضعف أطر حوكمة البيانات لا يزال يُقوّض قدرة المؤسسات على توسيع نطاق حلول الذكاء الاصطناعي بكفاءة وفعالية.
وتُظهر التقديرات أن نسبة كبيرة من صنّاع القرار في المنطقة لا يمتلكون فهمًا معمّقًا لتقنيات الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يؤدي إلى اتخاذ قرارات استثمارية غير مدروسة أو محدودة التأثير، ما يُفوّت على المؤسسات فرصًا استراتيجية محورية. ونتيجة لضعف الثقافة المؤسسية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، فإن العديد من المشاريع التي ترتكز على هذه التقنيات تظلّ عالقة في مراحل تجريبية أولية، دون أن تصل إلى مراحل التنفيذ الكامل أو التوسّع الفعلي. وتُفاقم التحديات المؤسسية الأخرى من تعقيد هذا المشهد، مثل غياب التنسيق بين الفرق، واعتماد الجهود الفردية، وتعقيدات اللوائح، ومخاطر الأمن السيبراني، ما يجعل التقدّم في هذا المسار أكثر صعوبة ويحدّ من قدرة المؤسسات على تبنّي التقنيات الذكية بشكل فعّال ومستدام.
أخيرًا، لا تزال حالة عدم الاستقرار الجيوسياسي المستمرة، والتي تؤثر بشكل كبير على أجزاء من منطقة الشرق الأوسط، تُشكّل تحديًا بالغ الأثر أمام عملية تبنّي وتطوير الذكاء الاصطناعي بشكل مستدام. فالصراعات الإقليمية والتوترات المستمرة، وعلى رأسها الحرب الإسرائيلية المتواصل على قطاع غزة، تُحدث اضطرابات متكرّرة في سلاسل الإمداد الخاصة بالمكوّنات والتجهيزات الحيوية اللازمة لبناء منظومات فعّالة للذكاء الاصطناعي، ما يدفع العديد من الحكومات إلى إعادة تخصيص مواردها المالية والبشرية—المُخصصة أصلًا لتطوير الذكاء الاصطناعي—نحو التعامل مع تهديدات أمنية طارئة وأزمات إنسانية متفاقمة.
وتُسهم العقوبات المفروضة على بعض الدول أو الكيانات في زيادة تعقيد المشهد، إذ تعيق وصولها إلى التقنيات المتقدمة في مجال الذكاء الاصطناعي، وتحرمها من الكفاءات والخبرات المتخصصة التي تُعد عنصرًا محوريًا في بناء الشراكات الدولية اللازمة لدفع عجلة التطوير. ونتيجة لذلك، تُشكّل هذه العوامل مجتمعة بيئة تشغيلية غير مستقرة ومتقلبة، تؤثر باستمرار على فعالية تنفيذ السياسات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، وتُقيّد إمكانات التخطيط الاستراتيجي طويل المدى للتقدّم التكنولوجي في المنطقة.
في الختام، وعلى الرغم من التحديات المستمرة التي تواجهها المنطقة، لا يزال الذكاء الاصطناعي يحمل إمكانات هائلة تتيح للشرق الأوسط تسريع وتيرة التنمية الاقتصادية وتنويع مصادر الدخل، وتعزيز الإنتاجية، وإحداث تحوّل جذري في مستوى الخدمات العامة وجودتها. وبينما أظهرت مختلف دول المنطقة التزامًا واضحًا بتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي من خلال استراتيجياتها الوطنية ورؤاها الطموحة واستثماراتها المتزايدة، فإن نجاح هذا المسار على المدى الطويل يظل مشروطًا بمدى القدرة على مواجهة هذه التحديات المتعددة ومعالجتها وتجاوزها. فقط من خلال تذليل هذه العقبات، يمكن للشرق الأوسط أن يستثمر فعليًا مكاسب الذكاء الاصطناعي، ليس بصفته أداة لتعزيز النمو الاقتصادي فحسب، بل كقوة محركة شاملة لتحقيق نمو مستدام على جميع المستويات، وبما يضع المنطقة في موقع متقدّم ضمن المشهد التكنولوجي العالمي.
Arab News. “AI adoption to add $150 billion to GCC economies by 2035.” Last modified October 3, 2024. https://www.arabnews.com/node/2589574/business-economy
Boston Consulting Group. “The GCC AI Pulse: Mapping the Region’s Readiness for an AI-Driven Future.” BCG. Accessed July 17, 2025. https://www.bcg.com/publications/2025/the-gcc-ai-pulse-mapping-the-regions-readiness-for-an-ai-driven-future
Deloitte. “State of AI in the Middle East.” Deloitte Middle East. Accessed July 12, 2025. https://www.deloitte.com/middle-east/en/services/consulting/perspectives/state-of-ai-in-the-middle-east.html
Digital Dubai. “Dubai State of AI Report.” Accessed July 10, 2025. https://www.digitaldubai.ae/docs/default-source/publications/dubai-state-of-ai-report.pdf?sfvrsn=a486e23f_5
Fast Company Middle East. “AI adoption will add $150 billion to GCC economies.” Accessed July 10 2025. https://fastcompanyme.com/news/ai-adoption-will-add-150-billion-to-gcc-economies/
Khaleej Times. “AI expected to contribute $260B to the GCC economy.” Last modified October 3, 2024. https://www.khaleejtimes.com/business/ai-expected-to-contribute-260b-to-the-gcc-economy?_refresh=true
PwC. “Sizing the prize: What’s the real value of AI for your business and how can you capitalise?” PwC Global. Accessed July 10, 2025. https://www.pwc.com/gx/en/issues/analytics/assets/pwc-ai-analysis-sizing-the-prize-report.pdf
PwC. “The potential impact of Artificial Intelligence in the Middle East.” PwC Middle East. Accessed July 13, 2025. https://www.pwc.com/m1/en/publications/potential-impact-artificial-intelligence-middle-east.html
PYMNTS. “Saudi Arabia And UAE Vie For Middle East AI Supremacy.” Last modified October 21, 2025. https://www.pymnts.com/artificial-intelligence-2/2025/saudi-arabia-and-uae-vie-for-middle-east-ai-supremacy/
The Arab Weekly. “Saudi Arabia to invest $20 billion in artificial intelligence projects.” Last modified January 21, 2024. https://thearabweekly.com/saudi-arabia-invest-20-billion-artificial-intelligence-projects
UAE Embassy in Washington, DC. “UAE, US Presidents Attend Unveiling of Phase 1 of New 5GW AI Campus in Abu Dhabi.” Last modified December 12, 2023. https://www.uae-embassy.org/news/uae-us-presidents-attend-unveiling-phase-1-new-5gw-ai-campus-abu-dhabi
تعليقات