على الرغم من استضافة أنقرة لحوالي أربعة ملايين لاجئ سوري، لم تعد العاصمة التركية تتمتع بسمعتها السابقة كمضيف ودود ومُرحِب، فقد أشارت سلسلة من الأحداث إلى ظهور اتجاه آخذ في التصاعد يمكن وصفه بـ "معاداة العرب"Anti-Arabism ، في الوقت الذي تراجعت فيه اتجاهات العداء التاريخية حيال اليهود، ويبدو أن الاتجاه الأول قد يكون له تأثير على الاتجاه الثاني، ونظرًا للتدفق الكبير للمهاجرين وتردي الأوضاع الاقتصادية، يبدو أن اللاجئين من أصوول عربية باتوا كبش فداء، متجاوزين بذلك مكانة اليهود كهدف رئيسي لخطاب الكراهية والعداء في البلاد، ربما يكون هذان الاتجاهان متداخلين، وللوقوف على فهم أسبابهما الجذرية وتطور هذه الظاهرة ثمة حاجة ماسة إلى دراسة متأنية.

أيها الأخوة، لم يعد مرحبًا بكم!

تركيا، التي كانت تُعرف سابقًا بالدولة الأكثر ترحيبًا باللاجئين السوريين، والذين أشاد بهم الرئيس أردوغان سابقًا بوصفهم “إخوة وأخوات”، لم تعد كسابق عهدها، إذ وجد السوريون أنفسهم في موقف لا يُحسدون عليه، وباتوا يتعرضون لهجمات واتهامات بأنهم مصدر الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، ووقعت سلسلة من الحوادث المعادية للعرب، كان أبرزها تلك الحادثة التي وقعت في عام 2021 عندما اقتحمت حشود تركية محلات سورية في أنقرة في أعقاب مشاجرة في الشارع أدت إلى مقتل رجل سوري طعنًا حتى الموت، وانتشرت حالة من “الزينوفوبيا” أو ما يعرف بكراهية الأجانب مع رصد حالات قتل عديدة وتصاعد حالات العنف، ما يسلط الضوء على مستوى غير مسبوق من التوتر والغليان، ونجمت مشاعر معاداة المهاجرين بين الشعب التركي بشكل رئيسي من رحم الأزمة الاقتصادية وأججتها خطابات قومية أدلى بها الساسة مستغلين حالة الغضب والخوف بين صفوف الجماهير.

 

وقبل عقد من الزمان، عندما رحب الأتراك باللاجئين السوريين في البداية، كان المشهد الاقتصادي مختلفًا بشكل ملحوظ عن الوضع الحالي، ففي عام 2011، بلغ معدل التضخم 6.47٪، بينما ارتفع في عام 2022 إلى مستوى قياسي بلغ 72.31٪. وتفاقم الوضع بسبب خطاب مرشحين المعارضة التركية خلال الانتخابات الرئاسية في مايو 2023. على سبيل المثال، تعهد زعيم المعارضة “كيليتشدار أوغلو”، في حملته الرئاسية، بترحيل أكثر من 4 ملايين لاجئ من تركيا، قائلًا: “أعلن أنني سأعيد جميع اللاجئين إلى بلادهم بمجرد تولي السلطة”، وخلال الجولة الثانية من الانتخابات، استخدم “سنان أوغان”، المرشح الذي يُعتبر صانع الملوك في الانتخابات، قضية اللاجئين كشرط أساسي لدعم أي من المرشحين، متبنيًا ومؤيًدا للسياسات المتشددة تجاه اللاجئين.

 

وعلى الرغم من أن تركيا باتت في الآونة الأخيرة آخر دولة أوروبية تواجه موجة من المشاعر المعادية للمهاجرين، إلا أن الوضع هناك فريد من نوعه بسبب انتشار خطاب الكراهية ومعادة المهاجرين بشكل مستمر، والذي بلغ مرحلة التمييز، إلى حد ما، بين المهاجرين حسب موطنهم وأصولهم. على سبيل المثال، يبدو أن المهاجرين من دول البلقان يحظون باحترام وتقدير أكبر من العرب. وهنا، فإن فهم سبب استهداف العرب على وجه التحديد يتطلب إجراء تحقيق وتمحيص في الروايات التاريخية. فمعاداة العرب ليست مفهومًا جديدًا بين الأتراك؛ ويمكن أن تعود جذورها إلى العهد العثماني، وكذلك إلى تركيا الكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك، أول رئيس للجمهورية التركية “1923 – 1938”) في الثلاثينيات، والتي قامت عقيدتها على فكرة اقتران العرب بالتأخر والتخلف، الأمر الذي دفع الجمهوريين الأتراك إلى إبعاد أمتهم الوليدة عن أي شيء ولو كان ذا صلة بعيدة بالثقافة العربية والتوافق بدلاً من ذلك مع الحضارة الأوروبية. وفي المقابل، عند اندلاع الحرب الأهلية السورية في عام 2011، استقبل الأتراك اللاجئين السوريين بحفاوة، وساعدوهم على الاندماج في المجتمع، وتعاملوا معهم بلطف وإيثار. ويمكن أن يُعزى هذا التحول إلى شعبية رئيس الوزراء (آنذاك) أردوغان وحزبه العدالة والتنمية، اللذان كانا في ذروة “العصر الذهبي” لهما خلال اندلاع الحرب الأهلية في دمشق والموجة الأولى من الهجرة. وقد واجهت سياسة الباب المفتوح التي ينتهجها أردوغان مقاومة ضئيلة من الشعب التركي في ذلك الوقت، وذلك بشكل أساسي بسبب شعبيته الجارفة وأدائه الاقتصادي القوي، ما جعل قبول اللاجئين أكثر سهولة. ولكن، مع تدهور هذه الظروف، خاصة منذ عام 2018 عندما دخلت تركيا في فترة ركود اقتصادي، تغير الوضع.

 

بات اللاجئون السوريون في تركيا كبش فداء لتفاقم الظروف في البلاد وتم إلقاء اللوم عليهم وتحميلهم مسؤولية تدهور الأوضاع في أنقرة. ومن المثير للاهتمام أن هذا الوضع لم يؤد فقط إلى إثارة العداء ضد اللاجئين السوريين، بل شمل أيضًا جميع العرب، بما في ذلك الفلسطينيين الفارين من وطأة الصراع في وطنهم والسياح من الخليج العربي. ولم تؤد هذه العملية إلى إثارة العنف ضد العرب على الأراضي التركية فحسب، بل وعلى نحو متناقض، أثارت أيضاً التعاطف في تركيا مع اليهود والإسرائيليين، الذين كان يُنظر إليهم على أنهم أعداء للعالم العربي.

تلاشي العداء

وبينما يتأجج العداء ضد العرب، ثمة ظاهرة أخرى آخذة في الصعود، إذ يبدو أن المشاعر المعادية للعرب في تركيا تعد بمثابة مقدمة لتقارب متزايد مع إسرائيل. وأضحى العداء تجاه العرب في تركيا يستهدف السوريين بالدرجة الأولى، لكنه يشمل في تداعياته كل العرب، بمن فيهم الفلسطينيون. إن أولئك الذين يكنون مشاعر معادية للعرب يجدون أنفسهم حتمًا متحالفين مع إسرائيل عندما تنشأ الصراعات بين الطرفين، رغم أن اليهود كانوا لفترة طويلة الهدف الرئيسي لخطاب الكراهية في وسائل الإعلام التركية. وعلى الرغم من أن التعاطف مع الإسرائيليين لم يكن ظاهرة ملحوظة بشكل معتاد في تركيا، إلا أن العداء المتزايد تجاه العرب دفع المواطنين الأتراك عن غير قصد إلى دعم أولئك الذين يعارضون المصالح العربية. وتزامن الاستياء، الذي حفزه وجود اللاجئين على الأراضي التركية، مع تراجع الكراهية تجاه اليهود، وبات هذا التحول أكثر وضوحًا بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية في عام 2018، بالتزامن مع تصاعد المشاعر المعادية للاجئين.

 

ويوضح الرسم البياني التالي تغييرًا ملحوظًا حيث لم يعد خطاب الكراهية الموجه ضد اليهود سائدا. وبينما لا يزال اليهود يظهرون بين الأهداف الأربعة الأولى، إلا أنهم تراجعوا في عام واحد فقط، ما أفسح المجال أمام ظهور مجموعات أخرى. وفي عام 2019، احتل السوريون المركز الأول، ما أدى إلى إزاحة اليهود الذين احتلوا هذا المكانة لفترة طويلة.

 

 
ويمكن أن يعزي التسامح المتزايد تجاه اليهود إلى مجموعة من العوامل التي تدعم بعضها البعض. فعلى الصعيد السياسي والدبلوماسي، أعيد التطبيع التركي الإسرائيلي في أغسطس 2022، مدفوعًا في المقام الأول باعتبارات سياسية، إذ لم يركز اهتمام أنقرة بالتطبيع على تل أبيب في حد ذاتها، بل كان يهدف في المقام الأول إلى تعزيز مكانة تركيا في الكابيتول هيل (الكونجرس)، لا سيما فيما يتعلق ببيع الطائرات المقاتلة من طراز F-16 ، كما لعبت أيضًا التطورات في منطقة جنوب القوقاز دورًا في علاقة البلدين، إذ أن لتركيا وإسرائيل مصالح متميزة في المنطقة، وتسعى تركيا جاهدة إلى توسيع نفوذها من خلال الوسائل الاقتصادية واللوجستية والعسكرية والطاقة، في حين أن مصالح إسرائيل أقل استراتيجية وتركز في المقام الأول على مبيعات الأسلحة، وأسواق الطاقة، وإلى حد ما، مخاوفها من إيران، وتعد أذربيجان بمثابة نقطة التقاء بين الدولتين، حيث لا بأس من وجود منافسة، إلا أن التعاون يبدو الخيار الأكثر احتمالا، وهناك عامل آخر، رغم أنه يبدو بعيدًا، إلا أنه لا يزال ذا أهمية وهو اتفاقات التطبيع الأخيرة بين بعض الدول العربية وإسرائيل. ورغم ذلك، لا يمكن للسياسة العليا أن تظل حبيسة داخل مكاتب السياسيين؛ بل تمتد أصداؤها إلى الشارع وتؤثر بشكل عميق على مواقف الشعب ومعتقداته.

 

وبناءً على ذلك، وبينما كان لليهود نصيبهم العادل من العداء في المجتمع التركي لسنوات، فإن التحول نحو استبدال اليهود بالعرب كان أمرًا آخذًا في التنامي منذ عدة سنوات حتى الآن. وتتراوح الأسباب بين الأوضاع الاقتصادية الصعبة وتدهور النزعة الأردوغانية داخل المجال السياسي التركي. وأصبحت الأسئلة حول ما إذا كان الاتجاهان يدعمان بعضهما البعض، أسئلة مشروعة والإجابة عنها تساعد في فهم الديناميكيات داخل المجتمع التركي والتي قد تؤدي إلى تغييرات أكبر في السياسة العليا لتركيا.

المراجع

Cook, Steven A. “How Israel and Turkey Benefit from Restoring Relations.” Council on Foreign Relations, 2022. https://www.cfr.org/in-brief/how-israel-and-turkey-benefit-restoring-relations.

 

Michaelson, Ruth, and Deniz   Barış Narlı. “Turkish Opposition Stirs up Anti-Immigrant Feeling in Attempt to Win Presidency.” The Guardian, May 28, 2023. https://www.theguardian.com/world/2023/may/28/turkey-election-candidates-eye-surge-of-nationalism-before-runoff-vote

 

Qiblawi, Tamara. “Turkey’s Opposition Faces an Uphill Battle in Runoff with Erdogan.” CNN, May 16, 2023. https://edition.cnn.com/2023/05/15/europe/turkey-election-opposition-intl/index.html.

 

Solomon, Esther. “Palestinians Were Spared Turkey’s Rising Anti-Arab Hate. until Now.” Haaretz.com, July 16, 2019. https://www.haaretz.com/world-news/2019-07-16/ty-article/.premium/palestinians-were-spared-turkeys-rising-anti-arab-hate-until-now/0000017f-f76a-ddde-abff-ff6ff4ed0000?lts=1696852720852.

 

Staff, The New Arab. “Kuwaiti Tourist Assaulted in Turkey amid Anti-Arab Racism.” The New Arab, 2023. https://www.newarab.com/news/kuwaiti-tourist-assaulted-turkey-amid-anti-arab-racism.

 

Tokmajyan, Armenak. “Middle Eastern Linkages Are Shaping the South Caucasus – Carnegie …” Carnegie Middle East Center, 2023. https://carnegie-mec.org/diwan/89881.

 

Trends, Macro. “Turkey Inflation Rate 1960-2023.” MacroTrends, 2022. https://www.macrotrends.net/countries/TUR/turkey/inflation-rate-cpi.

 

Vakfı, Hrant Dink. “Hate Speech and Discriminatory Discourse in Media 2019 Report.” Anasayfa – Hrant Dink Vakfı, 2019. https://hrantdink.org/en/asulis/publications/75-media-watch-on-hate-speech-reports/2727-hate-speech-and-discriminatory-discourse-in-media-2019-report.

 

Vakfı, Hrant Dink. “Medyada Nefret Söyleminin İzlenmesi.” Anasayfa – Hrant Dink Vakfı, 2018. https://hrantdink.org/tr/asulis/faaliyetler/projeler/medyada-nefret-soylemi.

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *