مع اقتراب موعد الانتخابات التركية، يواجه الرئيس التركي وحزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه أحد أخطر التحديات التي واجهتهم منذ توليهم السلطة، إذ تخطى معدل التضخم 80 في المائة فى سبتمبر 2022 وانخفض سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي بمعدلاتٍ غير مسبوقة فضلًا عن تفاقم الصعوبات الاقتصادية، مما يشي بحتمية حدوث تغييرات سياسية. وأظهرت استطلاعات الرأي التي أُجريت مؤخرًا أن أردوغان يواجه مشكلةً حقيقية خاصةً في ظل حصول حزب العدالة والتنمية على 29.5% في المائة من الأصوات فقط . لذلك، لجأ أردوغان وحلفاؤه فيها إلى نهج الخطاب القومي بوصفه ورقة محورية في جذب أصوات المواطنين الأتراك نظرًا لأن القومية التركية تغذيها الانتفاضات الكردية والإيمان بـ "إحياء" الإمبراطورية العثمانية، وفي ظل الانتخابات العامة المقرر إجراؤها في مايو المقبل في خضم تلك الأجواء التي تهدد إرث أردوغان، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل سينجح أردوغان مرةً أخرى في استخدام ذات التكتيك الذي استخدمه في عام 2018، أم أن هذا التكتيك أصبح ورقة محترقة ولم يعد مفيدًا بعد الآن؟

صناعة العدو .. تكتيك الخطاب القومي

خلال انتخابات عام 2018، أظهر الخطاب القومي مدى تأثيره ونفوذه داخل المجتمع التركي حيث حصلت الأحزاب القومية المتمثلة في حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية وحزب الخير على النصيب الأكبر من عدد الأصوات. وعلى الرغم من أن الاقتصاد التركي كان يواجه صعوبات ضخمة في ذلك الوقت تتضمن ارتفاع معدلات التضخم والبطالة وفقدان العملة التركية أكثر من 20 في المائة من قيمتها، فقد اختار الأتراك التصويت لأردوغان وحزبه بما يكشف عن أن الهوية القومية تُعد عاملًا محوريًا في مسار السياسة التركية. وبدءًا من عام 2015، تبنى الرئيس التركي خطابًا شعبويًا تراوح بين مهاجمة النخب العلمانية في البلاد والأعداء الإرهابيين، الحقيقيين والمتخيلين، إلى استدعاء ماضي الأمة الذي لا يمكن لغيره استعادته. فبالنسبة لأردوغان، شكلت القومية طريقًا رئيسيًا للحفاظ على قبضته على السلطة، فضلًا عن أن حزب العدالة والتنمية لم ينجح في الانتخابات البرلمانية إلا بعد التحالف مع حزب الحركة القومية اليميني المتشدد على الرغم من انضمام جزء من مؤيديه إلى صفوف المعارضة. ولطالما كان أردوغان ماهرًا في استخدام الوازع القومي لإذكاء الخوف لدى الأتراك من القوى الأجنبية المصمِّمة على تدمير أمتهم؛ ففي الفترة التي سبقت انتخابات عام 2018، بدا أردوغان وحزبه أكثر حرصًا من أي وقتٍ مضى على إلقاء اللوم على الأعداء الأجانب في كل المشكلات والصعوبات التي تواجهها تركيا، وتضمنت الروايات القومية إلقاء اللوم في انخفاض قيمة الليرة على العدو المتخيل. كما زعم وزير الخارجية (Mevlüt Çavuşoğlu) آنذاك أن “حملة منظمة” مدبرة في دول أجنبية هي المسئولة عن تراجع العملة التركية، مضيفًا “إنهم يحاولون هدم تركيا من خلال إضعاف اقتصادها بعد فشل محاولة الانقلاب في يوليو 2016، وقد تمكنا من صد هذه الهجمات بأقل قدر من الضرر والخسائر من خلال اتخاذ عدد من الإجراءات الاحتياطية”.

 

في تركيا، لا يترتب على الصعوبات الاقتصادية إلقاء اللوم على المؤامرات التي يُحاك لها في الخارج فقطـ، بل أشار الرئيس التركي وأعضاء حزب العدالة والتنمية بأصابع الاتهام إلى اللوبي الأمريكي والأوروبي واليهودي بصفتهم المشتبه بهم الرئيسيين في تلك الصعوبات. ولطالما استُخدِمت هذه الحيلة كاستراتيجيةٍ انتخابية لوقف كل من يتحدث عن المشكلات الاقتصادية من خلال إثارة المشاعر القومية لدى الرأي العام التركي لتحويل انتباهه عن القضايا الرئيسية المتمثلة في اضمحلال الديمقراطية والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان. ومع ذلك، هذا ليس تكتيكا جديدًا لحزب العدالة والتنمية، حيث أُلقي باللوم أيضًا بشأن محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو على رجل دين تركي مقيم في الولايات المتحدة وزعم أردوغان أنه على علاقةٍ بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وذهب الرئيس التركي وحزبه إلى أبعد من ذلك وخاطروا بمواجهة حلفائهم من خلال نقد الرئيس الفرنسي لسماحه لمجلةٍ فرنسية بوصف الرئيس التركي بـ “الديكتاتور”. كما اعتُبِر هجوم الرئيس التركي على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لنقل السفارة الأمريكية إلى تل أبيب محاولةً لكسب تعاطف الناخبين الأتراك من خلال اتخاذ تركيا لموقف حاد تجاه هذا القرار مقارنةً بالدول الأخرى التي كانت أكثر تحفظًا في انتقاد القرار الأمريكي. ويقول العديد من الباحثين والمحللين إن الأمر في السياسة التركية يبدو أحيانًا كما لو أن حزب العدالة والتنمية يدير انتخابات ضد الغرب وليس المعارضين المحليين، إذ يبدو أن الخطاب القومي ظاهرة متنامية في السياسة التركية

استراتيجية مستمرة

في أواخر عام 2022، وقع حدثان مثّلا فرصة كبيرة لأردوغان للاستمرار في الإستراتيجية التي يتبعها منذ عام 2015. وهذان الحدثان هما اشتعال التوترات مع اليونان حول مياه بحر إيجه ومحاولة السويد الانضمام إلى حلف الناتو، حيث انتهز الرئيس التركي هذا الوضع لخدمة أهدافه السياسية مرةً أخرى واستمر في اتباع الإستراتيجية القومية التي أثبتت نجاحها في السابق. وقبل أشهرٍ من توجه الأتراك إلى صناديق الاقتراع، بدأ أردوغان في استهداف الغرب من خلال تصريحاته حول “الإمبرياليين الذين لا يحترمون الاستقلال السياسي والاقتصادي لتركيا” والتي ادعى من خلالها أن الغرب يستخدم اليونان لإيذاء بلاده. وقد ازدادت حدة التوترات مع اليونان وسط نزاعات مصطنعة حول التنقيب عن الغاز وقبرص و “عسكرة” الجزر اليونانية في بحر إيجه. وعلى الرغم من اضطراب العلاقات بين تركيا واليونان منذ عقودٍ طويلة حول عددٍ من القضايا المتنازع عليها ومنها الحدود البحرية والنزاع القبرصي طويل الأمد فضلًا عن مزاعم متداخلة أخرى، صعّدت أنقرة من خطابها ضد أثينا في الأشهر الأخيرة، بل إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ذهب إلى أبعد من ذلك وحذر من أن صاروخًا يمكن أن يضرب العاصمة اليونانية ما لم “يظل اليونانيون هادئين”. وقد مثّل تجدد الخلاف مع اليونان فرصةً للرئيس التركي ومؤيديه لاستخدام ورقة الخطاب القومي – التي ثبت أنها كانت في صالحهم في انتخابات عام 2018 – مرةً أخرى على أملٍ أن يكن لها ذات الأثر في انتخابات عام 2023.

 

تمثلت الفرصة الأخرى لأردوغان في محاولة السويد للانضمام إلى حلف الناتو، حيث تقف تركيا حائط سد أمام محاولات السويد لإقامة علاقات مع الأحزاب الكردية التي تعتبرها الدولة التركية أحزابًا إرهابية حيث يُشار دائما إلى الجماعات الكردية وحزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب التي سعى أعضاؤها إلى اللجوء للحكومة السويدية على أنهم إرهابيون وأعداء للأمة. وعندما يصر الرئيس التركي على “وجود إرهابيين في برلمانات دول معينة” لتبرير اعتراض دولته على انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، فإنه يحاول بذلك استثارة مشاعر القومية بالغة الحساسية لدى المجتمع التركي. وعلى هذا النسق، يستخدم المسؤولون الأتراك السويد كوسيلة ضغط في حملةٍ سياسية أوسع يريد فيها أردوغان أن يزيد من قاعدته المحلية، وعلى الجانب الآخر، وقعت حادثة أخرى حفزت من خطاب أردوغان القومي وهي حرق القرآن الكريم أمام السفارة التركية في ستوكهولم، وهو العمل الذي يبدو أن له تداعيات دينية غير القومية. ونظرًا لأن إيديولوجية أردوغان القومية تتعلق بعصر الإمبراطورية الإسلامية العثمانية، فإن الإسلاموية والقومية يتساويان ويمثلان ذات الشيء عنده، مما يعني أن حرق الكتاب المقدس الإسلامي يمثل فرصةً أخرى للرئيس التركي لتوظيفها. بالإضافة إلى ذلك، يخاطر أردوغان بردود فعل عكسية من الغرب بعد أن أرسل دبابات إلى سوريا لطرد الجماعات الكردية المتحالفة مع الغرب معتبرًا ذلك بمثابة تعزيز لسمعته المحلية.

 

وقد أثبت هذا التكتيك فائدته لأردوغان وحزبه في عام 2018 عندما استغلوا الخطاب القومي وربط الائتلافات بالأحزاب القومية لكسب أصوات مؤيديهم. ومع بداية عام 2023، اتضح أن ذات التكتيك يُستخدم منذ شهور لشنّ هجوم ضد الأكراد وأنصارهم والغرب بشكلٍ عام، إذ لا تزال فكرة خلق عدو خارجي تلعب دورًا محوريًا في المشهد السياسي التركي. ومثلما حدث في عام 2018، يدخل حزب العدالة والتنمية الانتخابات في ائتلافٍ مع عددٍ من الأحزاب القومية مثل حزب الحركة القومية وتحالف الأمة المعارض المكون من حزب الشعب الجمهوري وحزب الخير والحزب الديمقراطي وحزب السعادة. ومع ذلك، يبقى السؤال المطروح الآن: هل ستعود أداة الخطاب القومي بالنفع مرةً أخرى على الرئيس التركي كما حدث في 2018

 

، أم أنها لن تعد صالحة خاصةً إذا نجحت المعارضة في التوحد؟
وأخيرًا، لا يلزم بالضرورة أن تؤدي ذات الاستراتيجيات التي استخدمها نفس الفاعلين في ذات البلد إلى ذات النتائج؛ فأردوغان وحزبه ظلوا في السلطة لفترةٍ طويلة وكانوا وما زالوا يستخدمون ذات الإستراتيجية المتمثلة في استغلال المخاطر التي تواجههم لصالحهم منذ أن أثبتت فعاليتها حتى الانتخابات الأخيرة، ومع أن إستراتيجية أردوغان تمر بمهمةٍ صعبة للغاية في ظل تزايد الصعوبات التي تواجهها الدولة التركية، إلا أنه يواصل استخدام أي صدام مع الغرب كوسيلة ضغط في حملته الانتخابية، حيث أثبتت التوترات مع اليونان وكذلك محاولة السويد للانضمام إلى حلف الناتو أنها بطاقات ذهبية بالنسبة له لاستغلالها في وصفهم كأعداء خارجيين يهددون الأمة في تلك الأوقات العصيبة، وستكشف الأشهر القليلة المقبلة ما إذا كان الزعيم التركي سيتمكن من الاستمرار في منصبه باستخدام ذات التكتيك الذي أتقنه منذ عدة سنوات أم أن المعارضة سيكون لها رأي آخر؟!!

References

Akman, Beril. “Turkey’s Inflation Tops 80% and Nears Peak with More Angst Ahead.” Bloomberg.com. Bloomberg, September 4, 2022. https://www.bloomberg.com/news/articles/2022-09-04/turkish-inflation-is-set-to-peak-above-80-with-more-angst-ahead

Minute, Turkish. “Polls Show Turkey’s Opposition Bloc Ahead of Ruling Party Alliance, AKP Votes in Decline.” Turkish Minute, February 28, 2023. https://www.turkishminute.com/2023/02/28/polls-show-turkey-opposition-bloc-ahead-ruling-party-alliance-akp-votes-in-decline/

Staff, BBC. “BBC Monitoring – Essential Media Insight.” BBC News. BBC, 2019. https://monitoring.bbc.co.uk/

Dettmer, Jamie. “Turkey’s Erdogan Ramps up Nationalist Rhetoric.” VOA. Voice of America (VOA News), May 31, 2018. https://www.voanews.com/a/turkey-erdogan-ramps-up-nationalist-rhetoric/4417654.html

Tharoor, Ishaan. “Analysis | What the World’s Nationalists Can Learn from Turkey and Erdogan.” The Washington Post. WP Company, December 1, 2021. https://www.washingtonpost.com/news/worldviews/wp/2018/06/26/what-the-worlds-nationalists-can-learn-from-turkey-and-erdogan/

Savvidis, Panagiotis, Athens Bureau, and Gct. “ErdoGan’s Extreme Nationalist Rhetoric against Greece and the West Is Paying off in the Polls.” Greek City Times, October 25, 2022. https://greekcitytimes.com/2022/10/25/erdogan-paying-off-in-the-polls/

Dagres, Holly. “It’s Been over a Decade since Ankara and Damascus Talked. What Changed? .” Atlantic Council, January 23, 2023. https://www.atlanticcouncil.org/blogs/menasource/its-been-over-a-decade-since-ankara-and-damascus-talked-what-changed/

Taylor, Paul. “Erdogan Plots War and Crackdown to Save Himself.” RealClearWorld. Politico EU, January 3, 2023. https://www.realclearworld.com/2023/01/03/erdogan_plots_war_and_crackdown_to_save_himself_873556.html.

Supporters attend a congress to launch the “Labour and Freedom Alliance”, a six party coalition led by the HDP, 2023 Agence France-Presse | AFP | Apr 18, and 2023 Maher al-Mounes | AFP | Apr 18. “Third Alliance Enters the Fray Ahead of Turkish Elections .” Al, 2022. https://www.al-monitor.com/originals/2022/09/third-alliance-enters-fray-ahead-turkish-elections

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *