يقصد بأمننة قضية اللاجئين (Securitization of Migration) ما ببساطة، تصنيف قضية ما على أنها بالغة الخطورة ليتم التعامل معها بشكل عاجل، وتنص نظرية الأمننة على أن سياسات الأمن القومي لا تُطرح بشكل مباشر ولكن تُصاغ بشكل رئيسي عبر أفواه صانعي السياسات، وبناءً على ذلك، تصور الخطابات التي يصدرها صانعو السياسات القضايا على أنها إما تهديد أمني، أو مجرد تحدٍ أو حتى فرصة . فيمكن أن يذكر نفس المسؤول السياسي نفس القضية مرة على أنها تهديد أمني يجب على الدولة تخفيفه في بعض الأحيان ويمكن أن يشير إليها باعتبارها ميزة ذات قيمة في أحيان أخرى. وتعد الهجرة إحدى القضايا التي إما أن تضفي عليها الحكومات طابع الأمننة أو تنزعه عنها ، ويفند التحليل الراهن الحُجة القائلة بأن "المصالح الوطنية" الناتجة عن الظروف الاقتصادية والسياسية هي العوامل الرئيسية المحددة لهذا القرار.

عندما يتحدث المال

في ألمانيا، تصاعدت بصورة هائلة موجات الهجرة من سوريا وليبيا عام 2013 بعد اندلاع الحرب الأهلية ، وفي عام 2015 بلغ عدد عابري الحدود للوصول إلى الأراضي الألمانية 1.8 مليون مهاجر، كان المهاجرون يستهدفون ألمانيا أكثر من جيرانها، مثل المجر واليونان ودول البلقان، بسبب الاعتقاد بوجود فرص في الاقتصادات الكبرى مثل الاقتصاد الألماني. وعلى عكس الحكومات الأوروبية الأخرى التي أغلقت حدودها في وجه المهاجرين مثل المجر التي أقامت سياجًا على طول حدودها الجنوبية مع صربيا خوفًا من تدفق المهاجرين القادمين بشكل أساسي من سوريا، تخلت الحكومة الألمانية عن خيار أمننة هذه القضية، وانعكست السياسات الألمانية المرنة في حديث المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل وجملتها الشهيرة “فير شافن داس” أي: “يمكننا القيام بذلك” . وبالنظر إلى تلك الكلمات من خلال عدسة نظرية الأمننة، فإنها تكشف عن نية لعرض الموقف على أنه تحت السيطرة، وأن المهاجرين لا يعتبرون تهديدًا أمنيًا للدولة، واستمر الخطاب الترحيبي مع الإدارة الألمانية الجديدة، ففي نوفمبر عام 2022 أعلن وزير الاقتصاد روبرت هابيك (Robert Habeck) في رسالة باللغة الإنجليزية للعمال الأجانب عن كلمة الترحيب بهم بقوله “نحن بحاجة إليكم”.

 

ويمكن الإشارة هنا إلى أن الخطاب قد تطور من مجرد لغة ترحيب إلى خطاب يعكس الحاجة إلى المهاجرين وليس قبولهم فقط. وعلى الرغم من كونه عبئًا، يمكن للألمان استيعاب التدفق الجديد للمهاجرين كما يتضح من كلمات ميركل. وذهب المستشار الألماني الحالي، أولاف شولتز ، إلى أبعد من ذلك بقوله إن”أولئك الذين يعيشون ويعملون هنا بشكل دائم يجب أن تكون لهم القدرة أيضًا على التصويت والترشح، ويجب أن يكونوا جزءًا من بلدنا”. ويعكس الخطاب الشائع والغالب آنذاك في ألمانيا إلغاء أمننة الهجرة باعتبارها قضية لاقت قبولًا في البداية وحتى أنها أصبحت ضرورية في الوقت الحالي. وتجاوز إلغاء الأمننة في ألمانيا حد المطالبات الشفهية ووصل إلى السياسات الحكومية، ففي عام 2015 قررت ميركل تعليق العمل بمعاهدة دبلن التي تنص على أن الدولة التي تستقبل طالبي اللجوء أولاً هي التي تتولي المسؤولية عنهم. وبتعليق العمل بالمعاهدة المذكورة أعلاه، صنفت ألمانيا نفسها على أنها مسؤولة عن إعادة توطين المهاجرين القادمين من بلدان العبور (الترانزيت) مثل اليونان وإيطاليا. ويعكس قانون هجرة العمالة المتخصصة الذي دخل حيز التنفيذ في عام 2020 أيضًا تطور السياسات الألمانية، وهو قانون يهدف إلى زيادة عدد الفرص المتاحة للمهنيين للعمل في ألمانيا، ووفقًا للقانون، يمكن للعمال المهرة الانتقال إلى ألمانيا والعمل في ظل ظروف أكثر سهولة.

 

وجاء موقف اليونان على النقيض من الموقف الألماني الذي أبدى رفضا ومقاومة لتدفق اللاجئين دولة معادية للاجئين، فقد عمل رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس (المقابل بالإنجليزي) دائمًا على أمننة هذه القضية في خطاباته وكلماته التي ألقاها في المؤتمرات الصحفية، مشيرًا إلى موجة الهجرة التي بدأت في عام 2013 باسم “أزمة اللاجئين”. وذهب ميتسوتاكيس إلى أبعد من ذلك عندما تعرضت سياساته الحكومية تجاه الهجرة لانتقادات متكررة بقوله “لدينا سياسة صارمة ولكنها عادلة في مجال الهجرة”. ولم يتردد رئيس الوزراء أبدًا في إظهار أن بلاده في وضع ضعيف بسبب التهديد القادم من أولئك الذين يعبرون الحدود اليونانية حيث قال “لا أريد أن أرى المهاجرين أو طالبي اللجوء يتم استخدامهم كبيادق في كل هذا، ولكن تحتاج الدول إلى حماية وإدارة حدودها والحد من الهجرة غير الشرعية”. وعليه، فإن الخطاب العام من أعلى شخصية في الدولة يمثل موقفًا حازمًا حيال أمننة ما أصبح يعرف بـ “الأزمة”.

 

ووفقًا لما تم ذكره في موضع سابق، فإن الألمان لم يسعوا لأمننة القضية من أجل احتياجاتهم الاقتصادية، كما أن الدولة الألمانية تعاني من نقص حاد في العمالة الماهرة خاصة في مجالات مثل التكنولوجيا والحرف الماهرة واللوجستيات والتعليم والفندقة والتمريض. وأشارت بعض المؤسسات إلى أن النقص يؤدي إلى تباطؤ الدورة الاقتصادية، ومن ناحية أخرى، يرى الاقتصاد اليوناني المتأزم في المهاجرين تهديدًا للموارد الشحيحة بالفعل وفرص العمل المحدودة. وأصبح مناخ الأزمة هو “الوضع الطبيعي الجديد “في اليونان من عام 2008 إلى عام 2015، من الأزمة الاقتصادية إلى أزمة الهجرة، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع معدلات البطالة السنوية وانخفاض الدخل الحقيقي المتاح للإنفاق خلال الفترة الزمنية الواقعة بين الأزمتين. وتعاني اليونان من تلك الظروف الاقتصادية السيئة منذ عام ما جعلها غير قادرة على استقبال أي مهاجرين يشكلون عبئًا وبالتالي تهديدًا للأمن القومي. على الجانب الآخر، تحول الاحتياجات الاقتصادية قضية اللاجئين التي يراها اليونان أزمة إلى منحة في ألمانيا، وهو ما يعني أن التعاطي مع قضية اللاجئين بوصفها تهديد أمني من عدمه يحدده أيضا الإقتصاديون وليس فقط السياسيون

الأجندة السياسية

ثمة عامل آخر يحدد الإطار الحاكم للتعاطي مع اللاجئين هو الأجندة السياسية للحاكم، وهذا هو الحال على وجه التحديد في الدول غير الديمقراطية و الديمقراطيات الناشئة (Non-consolidated Democracies) لأنه في هذه الحالة، تغير الأجندة السياسية للحاكم الاتجاهات السياسية للدولة ككل، وتعد الحالة التركية مثالاً واضحًا على هذه الحُجة. ففي بداية الأزمة السورية، تم تصوير اللاجئين في الخطاب التركي على أنهم ضيوف و “إخوة في الدين”، وخدم هذا الخطاب تركيا في أهدافها الإقليمية لأنه في ذلك الوقت كان الرئيس التركي أردوغان يحاول لعب دور “المهيمن الإقليمي” في محاولة لإحياء مجد الإمبراطورية العثمانية ، وتصاعد هذا الإتجاه بشكل خاص عقب اندلاع ثورات الربيع العربي في عام 2011 وصعود الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، وقد تجلى ذلك في زيادة النفوذ التركي على السياسات الداخلية والخارجية لتلك الدول والتي كانت مدفوعة بشكل أساسي بالتوصيات التركية. على سبيل المثال ، في عام 2013 قبل الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين، أعلن الرئيس المصري آنداك قطع العلاقات الدبلوماسية مع نظام الأسد في سوريا في خطوة اعتبرها المحللون في ذلك الوقت متأثرة بشدة بالتوجيهات التركية بسبب الموقف التركي المعلن ضد نظام الأسد. ولكن، بحلول عام 2013، كان الإسلام السياسي قد سقط بالفعل في العالم العربي . وترك تحليل التكلفة والفائدة لتركيا خيارًا واحدًا فقط، وهو اتباع مسار الأمننة الأوروبي باعتباره سياسة بديلة، حيث أدرك أردوغان في ذلك الوقت أن إعادة التوجه نحو جيرانه من الدول الأوروبية أمر لا مفر منه.

 

هذا يعني أن تركيا كانت دائمًا الفائز من حيث تحقيق أولويات أجندتها السياسية، في البداية، كان دورًا إقليميًا قويًا ثم عضوية الاتحاد الأوروبي، حتى إنه غالبا ما يقال إن أمننة الهجرة شكلت لتركيا “فرصة للحصول على العديد من المكتسبات”، على سبيل المثال: انعكاسًا لسياسات الأمننة التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي، استفادت تركيا من صفقتها مع الاتحاد الأوروبي في عام 2015-2016 والتي شكلت إلى حد كبير سياساتها بشأن الهجرة بصفتها “حارس بوابة أوروبا”. وفي البداية، عززت هذه الصفقة الموقف التفاوضي للحكومة التركية وجعلت من السهل استخدام ملف أمننة اللاجئين للحصول على المزيد من الفوائد. ومكنت الاتفاقية زيادة مساحة أردوغان من المناورة من خلال منح تركيا “وضعًا مختلطًا”، بمعنى أن تركيا ليست داخل المجال السياسي الأوروبي بشكل كبير ولا خارجه. وادعى الرئيس التركي أن بقاء أوروبا يعتمد إلى حد كبير على تعاونه الخاص مع الاتحاد الأوروبي في وقت يتسم بالخوف من زيادة الهجرة غير النظامية. من ناحية، تلح الإدارة التركية في التأكيد على صعود الشعبوية وكذلك اليمين المتطرف في جميع أنحاء أوروبا لاكتساب فرص ضخمة لتعزيز أمننة الإتحاد الأوروبي لقضايا اللاجئيين ، وبالإضافة إلى ذلك، تمكنت الحكومة التركية أيضًا تحقيق العديد من الفوائدالمرتبطة بتحرير التأشيرات لمواطنيها.

 

خلاصة القول، إن أمننة قضية اللاجئين ما هي إلا “استراتيجية مرنة” يستخدمها صانعو السياسات وفقا لمقتضيات الحاجة والمصلحة، وتٌظهر الملفات الألمانية واليونانية والتركية أن حسابات المصالح ، سواء كانت ظروفًا اقتصادية أو حسابات سياسية يقوم بها القادة، هي ما يشكل النظر لتدفق اللاجئين بوصفه تهديدا أمنيا من عدمه، وعادة ما تتغير تلك الخطابات أيضا حسب تغير القيادات والسياسات وأولويات المرحلة التي يواجهها القادة السياسيون، ففي بعض الحالات، تكون الظروف الاقتصادية هي التي تملي المصلحة الوطنية، وفي أحيان أخرى تكون الحسابات السياسية للحكام هي التي تحدد ذلك، ويظل التعاطي مع اللاجئين رهنا لهذه الحسابات.

المراجع

Eroukhmanoff, Clara. “Securitisation Theory: An Introduction.” E, May 7, 2020. https://www.e-ir.info/2018/01/14/securitisation-theory-an-introduction/.

 

Ayoub, Maysa. “Understanding Germany’s Response to the 2015 Refugee Crisis.” Review of Economics and Political Science, 2019. https://www.emerald.com/insight/content/doi/10.1108/REPS-03-2019-0024/full/html.

 

Grunau, Andrea, and Ben Knight. “Germany and Immigration: Plans for Refom – DW – 11/29/2022.” dw.com. Deutsche Welle, December 5, 2022. https://www.dw.com/en/germany-and-immigration-plans-for-refom/a-63925044.

 

of education, Ministry. “Profi-Filter.” Anerkennung in Deutschland – Skilled Immigration Act, May 17, 2021. https://www.anerkennung-in-deutschland.de/html/en/pro/skilled-immigration-act.php#.

 

Nikas, Sotiris. “Greece’s Prime Minister Mitsotakis Snaps about Refugees at Presser on Samos Camp.” Bloomberg.com. Bloomberg, November 9, 2021. https://www.bloomberg.com/news/articles/2021-11-09/greek-prime-minister-snaps-about-refugees-at-a-news-conference.

 

Visvizi, Anna. “Greece, the Greeks, and the Crisis: Reaching beyond ‘That’s How It Goes.’” Carnegie Council for Ethics in International Affairs. Carnegie Council for Ethics in International Affairs, September 7, 2016. https://www.carnegiecouncil.org/media/article/greece-the-greeks-and-the-crisis-reaching-beyond-thats-how-it-goes.

 

OECD. “What’s the Issue? – OECD,” 2016. https://www.oecd.org/greece/greece-addressing-migration-challenges-beyond-the-current-humanitarian-crisis.pdf.

 

Champion, Marc. “Erdogan’s Ottoman Dreams Lie Broken in Syria.” Bloomberg.com. Bloomberg, March 6, 2020. https://www.bloomberg.com/news/articles/2020-03-06/erdogan-s-ottoman-dreams-lie-broken-in-syria.
Monier, Elizabeth, and Annette Ranko. “The Failure of the Muslim Brotherhood: Implications for Egypt’s Regional Status.” SpringerLink. Palgrave Macmillan US, January 1, 2014. https://link.springer.com/chapter/10.1057/9781137484758_4.

 

Parliament, European. “Legislative Train Schedule.” European Parliament, 2023. https://www.europarl.europa.eu/legislative-train/.

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *