كتب بواسطة

باتت الزراعة والغذاء من أكثر القضايا التي تثير مشاعر الشعوب في أوروبا. ففي الأونة الاخيرة، حظيت احتجاجات المزارعين التي اندلعت في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي هذا العام بالاهتمام الملحوظ، ولطالما أعرب المزارعون عن استيائهم من سياسات الاتحاد الأوروبي، والآن، في ظل تفاقم أزمة تكلفة المعيشة، ساد الاستياء مع تصاعد المخاوف الاجتماعية والاقتصادية في أوروبا.

 

من جانبها، استغلت الأحزاب الشعبوية واليمينية المتطرفة الفرصة التي أتاحتها سياسات الاتحاد الأوروبي، والتي تتمثل في تفضيل مصالح الشركات وسوء إدارة الأزمات، لجذب المزيد من الناخبين، وقد أثبت هذا الأمر فعاليته وجدواه.

سياسة زراعية مضطربة

تحاول الحكومات الوطنية والمفوضية الأوروبية مواءمة سياساتها لتحقيق أهداف أجندة المناخ الخاصة بالاتحاد الأوروبي، دون التضحية بمستوى المعيشة في أوروبا أو تعريض الأمن الغذائي والطاقة للخطر، إلا أنه بات واضحًا أنه يشكل حد أكبر مما كان متوقعًا في بداية الأمر.

 

وعلى الرغم من كون السياسة الزراعية المشتركة واحدة من أقدم وأهم سياسات الاتحاد الأوروبي، إلا أنها باتت الآن واحدة من أكثر السياسات غير الفعالة. فقد فقدت السياسة الزراعية المشتركة، التي ضمنت لعقود من الزمان جودة عالية وأسعارًا معقولة للغذاء للجميع، الكثير من تماسكها. فبعض أهدافها الرئيسية، وهي زيادة الإنتاجية الزراعية وتحسين دخل المزارعين وتوفير أسعار معقولة للمواد الغذائية والانتقال إلى الممارسات الزراعية المستدامة.كثيرا ما تتعارض مع بعضها البعض، ويواجه المزارعون الأوروبيون مهمة مستحيلة تتمثل في الزراعة بطريقة أكثر استدامة مع الحفاظ على أسعار منتجاتهم منخفضة قدر الإمكان لمنافسة الواردات، كل ذلك في الوقت الذي تنخفض فيه الدخول وتزداد التكاليف. كما أدى دخول الواردات الأوكرانية الرخيصة بشكل خاص إلى إحباط المزارعين.

 

وفي هولندا، شكلت سياسة الحكومة لخفض نسبة النيتروجين- والتي تهدف إلى الحد من الانبعاثات- العقبة الأكبر التي تواجه المزارعين منذ أكثر من 5 سنوات، ورغم استمرار المظاهرات وقطع الطرق منذ عام 2019، وهو نفس العام الذي تأسست فيه حركة المزارعين المواطنين (BBB)، إلا أنها اشتعلت من جديد في فبراير 2023 بعد فشل المفاوضات مع حكومة مارك روته في هولندا. وعلى الرغم من إقرار روته بمعاناة المزارعين،فمن المحتمل أن يكون رئيس الوزراء قد وسّع الهوة معهم أكثر من خلال انتقاده لأساليب احتجاجهم وتركيزه على أهمية السياسة لحماية البيئة والالتزام باللوائح الأوروبية

 

وفي فرنسا، يواجه المزارعون مجموعة من المشكلات الخاصة بهم، بدءًا من انخفاض الدخل والروتين البيروقراطي الصارم إلى المنافسة الشرسة والضغط المستمر للتكيف مع لوائح الاتحاد الأوروبي المتغيرة. كما تسببت المخاوف بشأن تكاليف الوقود، وفرضيات رفاهية الحيوان، واستراتيجية “من المزرعة إلى المائدة” من تنامي حدة التوتر. وعلى الرغم من محاولات تقديم التنازلات، وتوقف المزارعين عن الاحتجاج لمدة أسابيع بعد وعد الحكومة في 1 فبراير 2024 بتنفيذ قانون “إيجاليم” الجديد الذي من شأنه حماية دخولهم، إلا أن الهدوء كان مؤقتًا فقط وعادت الاحتجاجات هذا الأسبوع لتخلق اضطرابا في المعرض الزراعي الدولي في باريس3. إن عدم قدرة الحكومة على اتخاذ موقف واضح بشأن وضع خطة العمل المناخية الخاصة بها وكيفية ملاءمتها لوعودها بحماية حقوق المزارعين، قد أدى إلى زيادة عدم الثقة. وأظهر المزارعون الفرنسيون أنهم لن يقبلوا بأنصاف الحلول.

 

وفي الوقت نفسه، تشهد ألمانيا حالة مماثلة من الجدل حول السياسات، ما يؤجج حالة السخط السائد. حيث خففت الحكومة لاحقًا خطتها للتخلص التدريجي من الإعفاءات الضريبية على وقود الديزل المستخدم في الزراعة اعتبارًا من عام 2024، وذلك بعد احتجاجات واسعة النطاق. وقد أصبح هذا الأمر نقطة محورية لحشد التأييد من قبل حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) اليميني المتطرف، ومرة أخرى، ورغم التنازلات، لا تزال مشاعر الاستياء والمخاوف مرتفعة داخل القطاع الزراعي.

 

ولاتزال قائمة احتجاجات المزارعين في البلدان الأوروبية الأخرى مثل أيرلندا وبلجيكا وأسبانيا مستمرة، مما يزيد من خطر استغلالها من قبل القوى الشعبوية.

طُعم الشعبوية

أرجأ صناع القرار معالجة مخاوف المزارعين إلى حين. وفي تلك الأثناء، كانت الأحزاب الشعبوية تصيغ استراتيجياتها بحيث تستغل هذه المظالم، ورسم صورة لـ “طبقة ريفية منسية” تدير النخبة في الاتحاد الأوروبي ظهرها لها. كما أن أحزابًا مثل حزب “المزارعين المواطنين”، وهو حزب شكل انتصاره غير المسبوق تحولاً جذريًا في السياسة الهولندية، وحزب التجمع الوطني بزعامة لوبان في فرنسا، لا تقدم سوى حلولاً بسيطة تتمحور في أكثر الأحيان حول القومية وحماية الاقتصاد المحلي، إلى جانب وعود بحماية المزارعين من المنافسة الأجنبية والرجوع عن القواعد التنظيمية المرهقة. كما أن موقف حزب “البديل من

 

أجل ألمانيا” المناهض للاتحاد الأوروبي ووعوده بتخفيف القواعد التنظيمية وحماية المزارعين الألمان من المنافسة الأجنبية يجد أيضاً أرضاً خصبة بين أولئك الذين يشعرون بأنهم بين مطرقة السياسات المحلية وسندان سياسات الاتحاد الأوروبي.

 

ويظهر ميل الناخبين والتصنيف الديموغرافي أن المزارعين ليسوا وحدهم الذين سئموا السياسات الزراعية الأوروبية، وباتوا يميلون نحو الخيارات الشعبوية واليمين المتطرف. ففي استطلاع جرى في فبراير 2024، رأى 55% من المشاركين أن السياسة الزراعية المشتركة جلبت عوائق أكثر مما أضافت من مزايا إلى الزراعة الفرنسية. ومن بين المشاركين الذين يعملون بالزراعة والمهن الحرفية، اتفق 56% مع هذا الرأي، ووافقهم في ذلك 45% من الموظفين التنفيذيين، و61% من العمال ذوي الياقات البيضاء من الدرجات الوظيفية العليا.

 

بالإضافة إلى ذلك، لا يقتصر ناخبو حزب “المزارعين المواطنين” في هولندا على المزارعين أو أهالي المقاطعات الريفية أو كبار السن من الناخبين. ويظهر الشكل البياني أدناه أعمار ناخبي الحزب ونسبة الحضريين منهم مقارنة بالناخبين من غير المؤيدين للحزب.

ماذا بعد؟

ورداً على هذا “الغضب على السياسات الخضراء”، يبدو أن صناع السياسة في بروكسل أسرعوا إلى التخلي عن تدابيرهم الخضراء. وفي حين أن هذه الخطوة قد تهدئ من غضب المزارعين بعض الشيء، إلا أن الوقت قد فات لإبطاء الموجة الشعبوية. وعلى الرغم من الانتقادات بأن العلاجات الشعبوية غالبا ما تفتقر إلى الجدوى على المدى الطويل وتتجاهل تعقيدات الأسواق المعولمة والحقائق البيئية، فإنها لا تزال تلقى صدى قويا لدى المزارعين وغيرهم من الفئات ذات الدخل المنخفض الذين يشعرون بالتهميش وعدم وجود صوت مسموع. علاوة على ذلك، إذا كان المسؤولون التنفيذيون الحاليون في الاتحاد الأوروبي لا يأخذون أجنداتهم طويلة الأمد وأهدافهم البيئية على محمل الجد، فما الفرق الذي قد تحدثه تلك الأجندات حقاً؟ وهو سؤال يلح لا شك على عقل أي أوروبي يراقب صناع القرار في بلاده وهم لا يلبثون أن يحشدوا الآراء لصالح سياسات حتى ينحونها جانباً لتحقيق مكاسب سياسية في وقت لاحق.

 

ويُظهر التدافع على السلطة في بروكسل أن الشعبوية لا تتوسع على مستوى الدول فحسب، بل أيضاً بين جماعة المسؤولين التنفيذيين في الاتحاد الأوروبي. فمع اقتراب انتخابات المفوضية الأوروبية في يونيو من هذا العام، تترشح زعيمة اليمين المعتدل أورسولا فون دير لاين، التي لقبها عضو برلماني أيرلندي بـ “أورسولا الكذابة”، لولاية رئاسية ثانية في المفوضية الأوروبية، وقد عملت على تحسين سياسات الاتحاد الأوروبي لمعالجة الصعوبات التي تواجهها وفقاً لذلك. ووفقاً لمصادر من داخل المفوضية الأوروبية، فقد تم تخفيف أو تأخير أو إلغاء مجموعة من ملفات مقترحات السياسات بما فيها الصحة والمناخ والزراعة. وتكشف المصادر أن الأوامر صدرت عن مستويات عليا وتهدف إلى تفادي تزويد اليمين السياسي المتطرف الصاعد بأي ذخيرة انتخابية أخرى.

 

ومع ذلك، فهم ينحنون بذلك فعلياً الشعبوية للبقاء في السلطة، وهي خطوة خطيرة تغامر بتمكين ظهور اتحاد أوروبي يميني متطرف في اتجاه جديد تماماً ربما يكون بمثابة الرياح التي لا يشتهيها الأوروبيون.

المراجع

“What to Know About the Farmer Protests in Europe.” TIME, February 2, 2024. https://time.com/6632372/farmer-protests-europe-france-germany-brussels/

 

Crisp, James. “We Can Topple the PM and Form a Government, Say Leaders of Dutch Farmers Party.” The Telegraph, July 2, 2023. https://www.telegraph.co.uk/world-news/2023/07/02/we-can-topple-mark-rutte-form-government-dutch-farmers/

 

Lecocq, Stephanie, and Manuel Ausloos. “Angry French Farmers Storm into Agriculture Fair in Paris.” Reuters, February 25, 2024. https://www.reuters.com/world/europe/angry-french-farmers-storm-into-agriculture-fair-paris-2024-02-24/

 

Parker, Jessica, and Adam Robinson. “Germany’s Far Right Seek Revolution in Farmers’ Protests.” BBC News, January 15, 2024. https://www.bbc.com/news/world-europe-67976889

 

“Les Français et Les Élections Européennes 2024.” ELABE, February 10, 2024. https://elabe.fr/wp-content/uploads/2024/01/les-francais-et-les-elections-europeennes-2024-1.pdf

 

Koenen, Bart, and Joep Keuzenkamp. “The Rise of the BBB.” Kantar Public, June 2023. https://kantarpublic.com/download/documents/455/The+rise+of+the+BBB+in+the+Netherlands+explained+(part+1).pdf

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *