قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في رده على تساؤل حول احتمالات إرسال قوات إلى أوكرانيا إنه: "لا شيء مستبعد." ربما كان ماكرون يهدف بحديثه عن المشاركة في الحرب إلى تبديد نكتة قديمة عن استسلام الفرنسيين طوال الوقت. ومع ذلك، فقد رفض زعماء فرنسا وحلف شمال الأطلسي علنًا فكرة إرسال قوات أوروبية أو قوات تابعة للحلف إلى أوكرانيا، وأكدت شخصيات بارزة مثل الرئيس الأمريكي جو بايدن، والمستشار الألماني أولاف شولتز، ورئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي ستولتنبرغ، وآخرون أن مثل هذا الإجراء غير مطروح للنقاش، وتشير المعارضة المحلية والإقليمية واسعة النطاق إلى أنه حتى لو كان ماكرون يفكر حقاً في مثل هذه الخطوة، فإنه لن يحصل على الدعم اللازم لاتخاذها.

رهان خاسر

وعلى الرغم من إدراك ماكرون على الأرجح لعدم جدوى نشر قوات في أوكرانيا والتداعيات المحتملة لمثل هذا القرار، فإن تصرفاته تهدف إلى إرسال رسالة محددة، وخاصة إلى الجمهور الفرنسي والأوروبي. وتأتي هذه الخطوة في أعقاب اتهامات بتقاربه الواضح من الروس، خاصة في ضوء مناشدته السابقة للغرب تجنب “إهانة روسيا” بعد استمرار غزوها لأوكرانيا.

 

وهذا التصريح الأخير ليس إلا مثال على محاولة الرئيس الفرنسي اكتساب ميزة جيوسياسية، ويتجلى هذا بشكل خاص مع اقتراب الانتخابات الأوروبية، حيث يسعى ماكرون إلى تأمين الأصوات لصالح حزبه. ويبدو أن الحزب يخسر شعبيته أمام اليمين المتطرف، وهو اتجاه ظهر جلياً في التصويت البرلماني على قانون الهجرة الفرنسي الجديد في ديسمبر الماضي، والذي أشادت به مارين لوبان صراحة باعتباره انتصارًا لليمين المتطرف.

 

وفي أعقاب تقرير صادر عن جهاز أمني أوروبي، سعى ماكرون إلى التفوق على اليمين المتطرف، مدفوعًا بالمخاوف التي أثيرت في صحيفة واشنطن بوست. وبحسب التقرير، فإن روسيا تكثف محاولاتها لتقويض الدعم الفرنسي لكييف. وأشارت الأدلة إلى وجود حملة دعائية سرية تعمل في أوروبا الغربية، كما هو موضح في وثائق الكرملين وأكدته مقابلات مع مسؤولين أمنيين أوروبيين وأعضاء من اليمين المتطرف الفرنسي.

 

ومع ذلك، يبدو أن مناورات ماكرون الاستراتيجية متأثرة بتضاؤل الدعم الشعبي لأوكرانيا بين الشعب الفرنسي. وتشير بيانات استطلاعات الرأي الأخيرة إلى تعاطف فاتر وسريع التراجع تجاه أوكرانيا في فرنسا. وعلى الرغم من أن 58% من المواطنين الفرنسيين لديهم وجهة نظر إيجابية تجاه أوكرانيا، فإن هذا يعكس انخفاضًا كبيرًا بمقدار 24 نقطة منذ بداية الصراع. بالإضافة إلى ذلك، يؤيد 50% فقط فكرة تقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا، وهو ما يمثل انخفاضًا بمقدار 15 نقطة عن المراحل الأولى للصراع في عام 2022. والجدير بالذكر أن هذا الاتجاه من تناقص الدعم لا يقتصر على فرنسا ولكنه يمتد عبر القارة.

 

ويمكن أن يعزى هذا التراجع في الدعم إلى عوامل مختلفة، منها تراجع الاعتقاد بإمكانية الانتصار على بوتين، إذ يعتقد 10% فقط من الأوروبيين أن كييف ستنتصر وفقًا لاستطلاع للرأي أجراه مركز أبحاث المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR) في 12 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى قضايا داخلية مثل الظروف الاقتصادية واستياء المزارعين ما دفع أحدهم إلى المجادلة بأن أوكرانيا “ليست دولة أوروبية” وأنها “لا علاقة لها بتاريخنا”.

 

ويبرز نهج ماكرون غير العقلاني — في ظاهره — بين الساسة الفرنسيين، الذين يدركون تمام الإدراك أن مثل هذا الخطاب لا يمنح ماكرون المكانة المطلوبة. كما أن قوى المعارضة، التي تبدأ من اليمين المتطرف عند لوبان، إلى أقصى اليسار مع جان لوك ميلينشون الذي قال إنه من الجنون أن تضع “قوة نووية في مواجهة قوة نووية أخرى”، بالإضافة إلى القوى الأكثر شعبية مثل الحزب الاشتراكي والجمهوريين، أدانت جميعها ذلك الموقف الحازم والمثير للجدل للرئيس الفرنسي، وشكلت جبهة موحدة ضد ما وصفوه باستعراض العضلات.

ما وراء باريس

لم يتوقف تردد صدى كلمات ماكرون عند حدود الأراضي الفرنسية، بل تخطاها ليصل إلى جميع أنحاء القارة الأوروبية. وقوبل إعلانه باشتباكات مع نظرائه الأوروبيين وخاصة برلين التي بدأت تتهم باريس بعدم بذل ما يكفي من جهد لدعم أوكرانيا.

 

لقد حافظ زعماء حلف شمال الأطلسي على موقف ثابت ضد إرسال قوات إلى أوكرانيا منذ بداية الصراع، وهو الموقف الذي ظل قائماً حتى قبل الغزو الروسي الشامل. وكانت السياسة الشاملة ثابتة لا تتزعزع ألا وهي الالتزام بدعم جهود أوكرانيا في الدفاع عن نفسها مع الرفض الصارم لأي تدخل عسكري مباشر. على سبيل المثال، برر المستشار الألماني أولاف شولتز رفضه المستمر لإرسال صواريخ كروز الألمانية طويلة المدى من طراز توروس إلى أوكرانيا من خلال الإشارة إلى مخاوف من أن نشرها قد يستلزم وجود القوات الألمانية في أوكرانيا لأغراض تشغيلية. ووفقا لشولز، فإن مثل هذه المشاركة من شأنها أن تجر ألمانيا بشكل فعال إلى المشاركة النشطة في الصراع المستمر.

 

تبادلت برلين وباريس الاتهامات، فزعمت ألمانيا أن المساعدة العسكرية الفرنسية لأوكرانيا محدودة نسبيًا، خاصة إذا قورنت بمساهمة ألمانيا الكبيرة. وتعهدت ألمانيا بتقديم 17.7 مليار يورو في هيئة مساعدات عسكرية مباشرة على مدى العامين الماضيين. وعلى الرغم من ذلك، تؤكد باريس الأهمية العسكرية لمساهماتها، مثل توفير الصواريخ بعيدة المدى التي رفضت برلين تزويد كييف بها.

 

وتكشف البيانات عن فجوة كبيرة بين الدعم الفرنسي لأوكرانيا مقارنة بدعم ألمانيا. في الواقع، لا تتفوق برلين على باريس في الدعم فحسب، بل إن المملكة المتحدة ودول الشمال تتقدم أيضًا على فرنسا في هذا الصدد. وهذا يعزز التأكيد الذي صدر في وقت سابق بأن إعلان ماكرون كان يهدف في المقام الأول إلى تعزيز صورته، سواء على المستوى الوطني أو الأوروبي، بدلا من عكس الدعم الحقيقي لأوكرانيا.

 

ودفع ذلك العديد من المعلقين، الذين وصفوا الرئيس الفرنسي بـ “نابليون الصغير”، إلى اتهامه بمحاولة خلق صورة لنفسه داخل المجتمعين الأوروبي والدولي دون اتخاذ إجراءات جوهرية لدعم أوكرانيا.

 

ولم ترفض العواصم الأوروبية الكبرى فكرة إرسال قوات إلى أوكرانيا فحسب، بل كان ذلك الرفض واضحًا أيضًا بين دول الجناح الشرقي المجاورة لروسيا وأوكرانيا التي ستشعر بمزيد من الخطر في حالة تورط الناتو المباشر في الحرب مع موسكو. وأعرب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان عن مخاوف بلاده بالتأكيد على أن حكومة المجر تشعر بالقلق إزاء وصول إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا وتخشى أن ترسل بعض دول الاتحاد الأوروبي قواتها إلى هناك. وفي مناسبات لاحقة، كررت بولندا وجمهورية التشيك موقفهما المعارض لنشر قوات في أوكرانيا.

 

 

والبلدان الواقعة على الجانب الشرقي من أوروبا، وخاصة سكان جنوب شرق أوروبا مثل سلوفاكيا والمجر ورومانيا وبلغاريا، تعبر باستمرار عن ميل نحو المشاعر المؤيدة لروسيا. وهم يميلون إلى أن يكونوا أكثر حذراً بشأن تأييد السياسات التي تتحدى حكومة بوتين بشكل مباشر، وهو ما يعكس عزوفاً شعبياً واسع النطاق عن الانخراط في صراع مباشر مع موسكو.

 

وفي الوقت نفسه، سارع بوتين إلى التهديد بشن حرب نووية رداً على احتمال نشر قوات أوروبية في أوكرانيا، في واحد من أكثر تحذيراته النووية المباشرة ضد الغرب حتى الآن. ومع ذلك، يبدو أن الروس ما زالوا يجدون تسلية في النكات حول استسلام فرنسا ولا يميلون إلى أخذ مثل هذه التصريحات على محمل الجد.. ويبدوا ذلك واضحًا عندما سئل وزير الخارجية الروسي عن تصريحات الرئيس الفرنسي بشأن أوكرانيا في منتدى أنطاليا الدبلوماسي، رد سيرجي لافروف بالضحك.

 

وأخيراً، أثارت تعليقات ماكرون بشأن القوات البرية في أوكرانيا نقاشاً مبرراً، وألقت بظلال من الشك حول الحكمة الاستراتيجية لتلك التصريحات. وقد يؤدي هذا التأكيد إلى تقويض مصداقيته بين الشعب الفرنسي، وأوروبا، والمجتمع العالمي. كما أن اقتراح تعبئة قوات حلف شمال الأطلسي للمشاركة المباشرة في حرب مع روسيا ينطوي على احتمال تصعيد خطير للأعمال العدائية. ولا يهدد مثل هذا التصعيد بتوسيع نطاق الصراع فحسب، بل يفرض أيضًا خطر إشعال مواجهة نووية، مما يؤدي في النهاية إلى التدمير المتبادل المؤكد .

المراجع

Agency, Russian. “Hungary Afraid That Some EU Countries May Send Its Troops to Ukraine — PM.” TASS RUSSIAN NEWS AGENCY, 2024. https://tass.com/world/1582249

 

Angelos, James, and Joshua Posaner. “Scholz and Macron Feud over Arms for Ukraine.” POLITICO, February 28, 2024. https://www.politico.eu/article/olaf-scholz-and-emmanuel-macron-feud-over-ukraine-aid/?utm_source=LinkedIn&utm_medium=social

 

Belton, Catherine. “Russia Works to Subvert French Support for Ukraine, Documents Show …” The Washington Post, December 30, 2023. https://www.washingtonpost.com/world/2023/12/30/france-russia-interference-far-right/

 

Caulcutt, Clea. “Macron Wants to Lead Europe on Ukraine. France May Not Let Him.” POLITICO, February 28, 2024. https://www.politico.eu/article/macron-wants-to-lead-on-ukraine-but-france-might-not-let-him/?utm_medium=social&utm_source=LinkedIn

 

Leven, Denis. “Putin Threatens NATO with Nuclear Strike If It Sends Troops to Ukraine.” POLITICO, February 29, 2024. https://www.politico.eu/article/vladimir-putin-new-speech-ukraine-war-transnistria-nato/?utm_source=LinkedIn&utm_medium=social

 

Medien, Ifw. “Government Support to Ukraine: Type of Assistance, € Billion.” Create, find and reuse interactive data visualizations – 23°, February 15, 2024. https://app.23degrees.io/view/tAuBi41LxvWwKZex-bar-stacked-horizontal-figure-2_csv_final

 

Rinke, Andreas, and Mathias Williams. “Germany’s Scholz Rules out Western Ground Troops for Ukraine | Reuters.” Reuters, February 28, 2024. https://www.reuters.com/world/europe/germanys-scholz-rules-out-western-ground-troops-ukraine-2024-02-27/

 

Tharoor, Ishaan. “Foreign Troops in Ukraine? They’re Already There. – the Washington …” The Washington Post, February 28, 2024. https://www.washingtonpost.com/world/2024/02/28/foreign-troops-ukraine-theyre-already-there/

 

World, TRT. “TRT World on Instagram: ‘“Hahahah” Russian Minister of Foreign Affairs Sergey Lavrov Laughed off a Question Regarding the French President’s Remarks on Ukraine during the Antalya Diplomacy Forum.’” Instagram, February 29, 2024. https://www.instagram.com/reel/C3-VrxzoW9Q/?igsh=dHZqZnVyZzc3MXQw

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *