كتب بواسطة

تُعتبر علاقة الولايات المُتحدة والاتحاد الأوروبي نموذجًا من حيث الشراكة التجارية والاستثمارية والاندماج الاقتصادي بين طرفين غير إقليميين، ويُعتبر الطرفين لبعضهما الشريك التُجاري العام الأكبر عند النظر للعلاقات التجارية السلعية والخدمية– أصبحت الصين الشريك التجاري السلعي الأكبر لأوروبا في ٢٠٢٠- حيث بلغت التجارة السلعية بينهما في ٢٠٢٢ ما يزيد عن ٩٠٠ مليار دولار فيما يزيد حجم تجارة الخدمات عن ٥٠٠ مليارًا.

 

لا تخلو  هذه العلاقة -على الرغم من قوتها- من نزاعات تُجارية مصدرها الأساسي تعاظم التجارة بين الجانبين، ورغبة كُلًا منهما في تحقيق مزيدًا من الفائض عبر اختراق أسواق الآخر، حتى أن هذه النزاعات تصل في بعض الأحيان إلى الجهات القضائية التابعة لمُنظمة التجارة العالمية، والتي كان أخرها في عام ٢٠١٨ عندما فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية بنسبة ٢٥٪ و١٠٪ على واردات الصلب والألمنيوم من الاتحاد الأوروبي لأسباب تتعلق بالأمن القومي، وهو ما رد الاتحاد الأوروبي عليها بالمثل.

 

لكن أشد الصراعات على الإطلاق بين الطرفين كان نزاع العملاقين بوينج الأمريكية وإيرباص الأوروبية، اللتان تصارعتا على ريادة صناعة الطيران المدني في العالم، والذي امتد لنحو ١٧ عامًا، حيث حاول كلا الطرفين تقديم المعونات الحكومية لشركته في مواجهة الأخرى، ثم توسع الصراع في النهاية ليفرض كلا الجانبين على بعضًا من واردات الآخر رسومًا انتقامية بلغت ١١٫٥ مليار دولار بحلول عام ٢٠٢١، ثم انتهى النزاع بتوقيع الطرفين هُدنة في ظل نزاعهما مع الصين.

 

 يحبس العالم أنفاسه مع كُل صراع بين الشريكين بسبب تأثيرهما الشديد في الاقتصاد العالمي، وما يفرضه الصراع من تبدل في سلاسل الإمداد، وما قد يجره على العالم من تباطئ، وهو الوضع الذي بات يخشاه العالم مُنذ نجح الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال أغسطس ٢٠٢٢ في تمرير قانونه لتخفيض التضخم Inflation Reduction Act of 2022، الذي يُنذر بحرب طويلة الأمد على ضفتي الأطلنطي، في ظل عالم تسوده أصلًا النزاعات التجارية والعسكرية بين الشرق والغرب.

 

يهدف هذا المقال لتحليل قانون تخفيض التضخم الأمريكي، ثم يتوقع انعكاساته على الاقتصاد العالمي في ظل المشهد الاقتصادي المُضطرب الذي يُسيطر على العالم.

قانون تخفيض التضخم لعام ٢٠٢٢

واجهت الولايات المُتحدة في عام ٢٠٢٢ واحدة من أسوء موجات التضخم خلال ٤٠ عامًا على إثر المُساعدات التي قدمتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب للمواطنين كحوافز في ظل جائحة كورونا، وتضافر معها عُنصري الدورة الفائقة للسلع، والحرب الروسية الأوكرانية، التي أسفرت عن قفزات سريعة في أسعار الطاقة والمواد الغذائية، مما دفع مُستويات التضخم لقُرب ال ٩٪ وهو المُعدل الأعلى مُنذ ثمانينيات القرن الماضي، الأمر الذي دفع بإدارة بايدن للتدخل لمُساندة جهود البنك الفيدرالي الأمريكي للسيطرة على الموجة التضخمية العاتية، وذلك بإقرارها القانون الماثل، كما يوضح الشكل التالي:

 

 

إذ يهدف القانون للسيطرة على التضخم في المدي المتوسط أساسًا عبر خفض تأثير أسعار الطاقة الأحفورية المُتذبذبة على الاقتصاد الأمريكي، والتي تُعتبر السبب الرئيس للتضخم، وذلك بخفض استخدامها وتحفيز استخدام الطاقة المُتجددة التي تُنتج محليًا، ولا تتأثر بأسعار المُنتجات الأحفورية بشكل مُباشر، سواء برفع المُنتج منها، أو تسهيل استخدامها في المنازل أو السيارات، الأمر الذي لن يحدث إلا في حالة انخفضت تكلفة إنتاج هذه الطاقات سواء من الشمس أو الرياح، وهو ما استدعى دعمًا فيدراليًا كثيفًا بلغ ٣٨٦ مليار دولار لمجالي الطاقة والمُناخ من إجمالي ٧٧٧ مليار دولار قدمها القانون لمُكافحة التضخم، يوضح الجدول التالي، مُخصصات دعم الطاقة والمناخ:

 

 

يوضح الجدول ما يشمله القانون من حوافز وإعفاءات للشركات التي تستخدم الطاقة النظيفة أو تُصنع مُنتجات تستخدمها وخصوصًا السيارات الكهربية، ومحطات تموينها، وذلك حتى عام ٢٠٣١، لكن القانون قصر هذا الدعم على المُنتجات التي تُصنع في الداخل الأمريكي، وبالتالي وسواء بقصد أو عدمه بات القانون يُهدد صناعات الطاقة الأوروبية على مُستويين:

 

  • أولهما رفع تنافسية المُنتجات الأمريكية في مواجهة نظيرتها الأوروبية في السوقين معًا، أو حتى في الأسواق الخارجية، حيث ستحصل الشركات الأمريكية على دعم سخي، وإعفاءات ضريبية واسعة تُصب في النهاية في خفض ثمن المُنتج الأمريكي، وبالتالي سترتفع أرباح الشركات الأمريكية على حساب نظيرتها الأوروبية .

 

  • وثانيهما أن الشركات الأوروبية ذاتها ستود الاستفادة من هذا الدعم السخي والإعفاءات الضخمة، بما سيجعل بعضًا منها ينقل مصانعه أو جُزء منها إلى الولايات المُتحدة، تاركًا خلفه الأراضي الأوروبية، وفرص العمل التي يخلقها، والقيمة المُضافة التي يستفيد منها الاقتصاد الأوروبي.

 

ما سيُحفز التأثيرين السابقين أن المُنتجات الأوروبية تواجه في الوقت الحالي ضغوطًا جمة منبعها الأساسي ارتفاع فاتورة الغاز، بعد إحلال الغاز المُسال الأمريكي باهظ الثمن محل نظيره الروسي الرخيص، مما رفع تكلفة وحدة الطاقة الواحدة بنحو أربعة أمثالها، وبالتالي فإن المُنتج الأوروبي يخرج في الوقت مُرتفعًا عن نظيره الأمريكي، الذي يستخدم غاز أرخص، لم تدخل عليه عمليات تسييل أو نقل ترفع ثمنه.

الرد الأوروبي

كان القادة الأوروبيين قد أعربوا عن استيائهم الشديد من سياسات تسعير الطاقة الأمريكية حتى قبل صدور قانون مُكافحة التضخم، وذلك بسبب ارتفاع أسعار الغاز المُسال الذي تبيعه الولايات المُتحدة لأوروبا مُستغلة الشقاق الروسي الأوروبي، ومُحاولات الأوروبيين التعويض عن الفاقد الروسي من جميع المُنتجين وخصوصًا الولايات المُتحدة الأمريكية، يُقارن الشكل التالي بين أسعار الغاز في الولايات المُتحدة وأوروبا:

 

 

ثم جاء إقرار القانون الجديد ليُمثل صدمة أوروبية من التوقيت قبل السياسات ذاتها، حيث بدأ الأوروبيين يعربون عن أن الولايات المُتحدة إنما تستغل وضع الضعف الأوروبي بسبب حالة الصراع لتقضي على صناعة السيارات الأوروبية، وتمنع تطورها وجاءت تعليقات القادة الأوروبيين على القانون غاية في الصراحة في هذا الصدد، خصوصًا الرئيس الفرنسي ماكرون الذي زار الولايات المُتحدة الأمريكية ليُعن عن استيائه من القانون، ولكن دون جدوى، ومن قبله جاءت تصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية في مُنتدى دافوس لتشجب ممارسة التميز والدعم الأمريكي غير العادلة والتي لم تلقى استجابة تُذكر على الجانب الآخر، بل وعلى العكس أصر المسئولين الأمريكيين وعلى رأسهم الرئيس بأن القانون من الصعوبة بمكان تعديله، خصوصًا بعد المُفاوضات الماراثونية التي جرت بين الحزبين لإقراره ابتداءً، كما أن الرئيس الأمريكي لا ينوي مُطلقًا تهديد أهم إنجازات فترته الرئاسية ليُرضي الأوروبيين في الوقت الحالي.

 

لم يجد الأوروبيين ردًا حيال التعنت الأمريكي إلا أن يعودوا لمراكزهم القديمة في حرب الطيران المدنية، عندما ردوا على الأمريكيين الإجراء بالإجراء، وبالتالي أعلنت المفوضية الأوروبية في يوم ١ فبراير ٢٠٢٣ عما أسمته The Green Deal Industrial Plan  والتي تُقدم مُساعدات وحوافز بنحو ٣٧٢ مليار يورو حتى ٢٠٣٠، أي تقريبًا بنفس قيمة الدعم الأمريكي، في إجراء مبدئي للرد على القانون الأمريكي، ليكي تطمئن الشركات الأوروبية وتمنعها من وضع أية استراتيجيات للتحرك للولايات المُتحدة، يأتي ذلك بالإضافة إلى ٤٠ مليار يورو أخرى ستُخصصها المفوضية لصندوق الابتكار والإبداع للمُساهمة في دعم الصناعة القائمة.

الانعكاسات على الاقتصاد العالمي

الحرب على ضفتي الأطلنطي لن تقف عند الخطوات التي اتخذت، إذ تُعتبر الإجراءات السابقة هي أول طلقة في حرب طويلة الأمد قد تمتد لسنوات، سيدخل فيها أطراف أخرى مُتضررة من الإجراءات التي اتخذت من الطرفين، وستطال الحرب باقي الاقتصاد العالمي، ومن هنا يُمكن تقسيم الانعكاسات كالتالي:

 

مزيد من التوترات التجارية بين الطرفين:

مع الدعم الحكومي من الطرفين سيميل كلاهما إلى فرض تعريفات جمركية حمائية وعقابية على البضائع المُستوردة عند دخول البضائع المدعومة أسواقه، بهدف توفير حماية للصناعة المحلية، مما سيُقلل التبادل التجاري بينهما في خصوص السلع المُصنعة تحت تأثير الدعم، وبالتالي سيضغط الطرفين على الأخر بزيادة الرسوم أو زيادة الدعم أو كلاهما، وهو ما سيدفع بالطرفين للجوء إلى مُنظمة التجارة العالمية، التي تُعاني بدورها في الوقت الحالي بسبب غياب أعلى هيئاتها القضائية والتي في الغالب تنتهي لديها النزاعات التجارية، مما سيمد أمد النزاع للمدى الطويل.

 

جر مزيد من الأطراف للنزاع:

البضائع المُصنعة التي استفادت من الدعم الحكومي لن يقتصر تصديرها على أسواق الطرفين، بل ستدخل أسواق دول قادرة هي الأخرى على تقديم الدعم الحكومي السخي، خصوصًا الصين، اليابان، كوريا الجنوبية، وبريطانيا، مما سيدفع بهذه الأطراف كذلك إلى تقديم دعم مُشابه وفرض تعريفات جمركية على بضائع الطرفين والأطراف الأخرى.

 

تباطؤ التجارة العالمية:

أشارنا سابقًا إلى حجم التجارة بين الولايات المُتحدة وأوروبا، وهي في الحقيقة أكبر حجمها بين الولايات المُتحدة والصين، وكانت الحرب التجارية بين الطرفين الأخيرين قد أدت انخفاض الصادرات الأمريكية إلى الصين بنسبة ٢٦٫٣٪بينما زادت الصادرات إلى بقية العالم بشكل متواضع بنسبة ٢٫٢٪، وانخفضت صادرات الصين إلى الولايات المتحدة بنسبة ٨٫٥٪، وارتفعت صادراتها إلى بقية العالم بنسبة ٥٫٥٪، وبالتالي فإنه حتى في حال اقتصرت الحرب التجارية على الطرفين فإن تأثيرها قد يتجاوز عشرات المليارات قياسًا على تأثير النزاع بين الصين والولايات المُتحدة الأمريكية.

 

خلاصة القول إذن أننا أمام مُقدمة حرب تجارية بين أهم شريكين تجاريين في العالم، وأن هذه الحرب سيُجر إليها بقية الأطراف الأساسيين في نظام التجارة العالمي، وأن هذا النزاع -إن لم يجر احتوائه مُبكرًا- سيكون طويل الأمد، خصوصًا أن التكنولوجيا الخضراء، سواء في صناعات توليد الطاقة المُتجددة أو في السيارات الكهربائية هي صناعات ناشئة، مازالت في بداياتها، وبالتالي فإن هذه الدول تُدرك أن من سيسبق سيجني عشرات ورُبما مئات التريليونات على مدى العقود الثلاث القادمة -على أقل تقدير -قبل أن تبرز تكنولوجيات جديدة، حيث ستُشكل التكنولوجيات التي ستبزغ خلال العقد القادم أساسات الاقتصاد العالمي على الأقل حتى عام ٢٠٥٠.

المراجع

Carriages preview | Legislative Train Schedule [Internet]. [cited 2023 Feb 16]. Available from: https://www.europarl.europa.eu/legislative-train/theme-a-stronger-europe-in-the-world/file-eu-us-trade-talks

 

Boeing-Airbus trade row set to end after 17 years – BBC News [Internet]. [cited 2023 Feb 16]. Available from: https://www.bbc.com/news/business-57484209

 

What the Inflation Reduction Act could mean for the economy [Internet]. [cited 2023 Feb 17]. Available from: https://www.jpmorgan.com/wealth-management/wealth-partners/insights/what-the-inflation-reduction-act-could-mean-for-the-economy

 

What’s in the Inflation Reduction Act (IRA) of 2022 | McKinsey [Internet]. [cited 2023 Feb 17]. Available from: https://www.mckinsey.com/industries/public-and-social-sector/our-insights/the-inflation-reduction-act-heres-whats-in-it

 

Why cheap US gas costs a fortune in Europe – POLITICO [Internet]. [cited 2023 Feb 17]. Available from: https://www.politico.eu/article/cheap-us-gas-cost-fortune-europe-russia-ukraine-energy/

 

Europe’s not happy with Biden’s Inflation Reduction Act – The Washington Post [Internet]. [cited 2023 Feb 17]. Available from: https://www.washingtonpost.com/politics/2023/01/17/europe-not-happy-with-bidens-inflation-reduction-act/

 

Biden keeps ignoring Europe. It’s time EU leaders got the message – POLITICO [Internet]. [cited 2023 Feb 17]. Available from: https://www.politico.eu/article/joe-biden-ira-inflation-reduction-us-ignores-eu/

 

The Green Deal Industrial Plan: putting Europe’s net-zero industry in the lead [Internet]. [cited 2023 Feb 17]. Available from: https://cyprus.representation.ec.europa.eu/news/green-deal-industrial-plan-putting-europes-net-zero-industry-lead-2023-02-01_en

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *