كتب بواسطة

تتواصل الحرب التجارية الدائرة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية منذ عدة سنوات، وقد حظيت باهتمام جماهيري متزايد، وذلك إلى حد كبير بفضل تأثير منصات التواصل الاجتماعي. ومع تزايد الوعي بهذا النزاع، لم تَعد وسائل التواصل الاجتماعي تكتفي بنقل المعلومات، بل أصبحت تؤثر في سلوك المستهلِكين، وغالبًا ما تدفع الأفراد إلى التوجُّه نحو أسواق بديلة. وفي بعض الحالات، تُدرك الحكومات هذا التأثير وتستخدمه بشكل استراتيجي، من خلال الاستعانة بمؤثري وسائل التواصل الاجتماعي لتوجيه الرأي العام والقرارات الاقتصادية. وهذا ما يحدث بالفعل في السيناريو القائم بين الصين والولايات المتحدة.

الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة

تصاعدت المواجهة التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية وتطوَّرت على مدى السنوات الماضية، وازدادت حدّتها بشكل ملحوظ في عام 2018، عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض سلسلة من الرسوم الجمركية والحواجز التجارية على السلع الصينية. وقد هدفت هذه الإجراءات إلى الضغط على الصين لمعالجة ما وصفته الولايات المتحدة بالممارسات التجارية غير العادلة وسرقة الملكية الفكرية، وهي من العوامل التي ساهمت في تفاقم العجز التجاري الكبير بين البلدين. وفي ذلك العام، فرضت واشنطن ثلاث جولات من الرسوم الجمركية، تلتها جولة رابعة في سبتمبر 2019، شملت فرض رسوم بنسبة 15% على مجموعة متنوعة من الواردات الصينية، بدءًا من اللحوم ووصولًا إلى الآلات الموسيقية. وردًا على ذلك، فرضت بكين رسومًا جمركية تراوحت بين 5% و25% على طيف واسع من السلع الأمريكية. واستمر العملاقان الاقتصاديان في تبادل فرض الرسوم المرتفعة، ما أدى إلى اضطراب كبير في حركة التجارة الثنائية بينهما. وقد كانت لهذا الصراع المتصاعد انعكاسات عالمية واسعة، نظرًا لاعتماد العديد من الدول بشكل كبير على الروابط الاقتصادية مع كل من الصين والولايات المتحدة.

 

في عام 2025، وخلال ولايته الثانية في البيت الأبيض، صعّد الرئيس دونالد ترامب الصراع التجاري بإعلانه “يوم التحرير”؛ وهو تصعيد كبير في الحرب الجمركية. ففي الثاني من أبريل، أعلن ترامب فرض رسوم جمركية شاملة تهدف إلى تعزيز الاقتصاد الأمريكي، ومعالجة اختلال الميزان التجاري، وحماية فرص العمل. وقد دخلت حيز التنفيذ في الخامس من أبريل رسوم بنسبة 10% على معظم الواردات الأجنبية، مع وجود بعض الاستثناءات. ورغم أن الرسوم تُفرض على المستوردين، فإن تكاليفها قد تُحمَّل في نهاية المطاف على المستهلِكين. ومن بين الدول التي لم تتجاوز الرسوم المفروضة عليها النسبة الأساسية: المملكة المتحدة، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وأستراليا. وعلى الرغم من تلك الأوامر التنفيذية، فرضت الولايات المتحدة في التاسع من أبريل رسومًا جمركية بنسبة 145% على البضائع الصينية، إلى جانب رسوم إضافية طالت شركاء تجاريين عالميين آخرين. وردًا على ذلك، فرضت الصين رسومًا بنسبة 84% على الواردات الأمريكية، اعتبارًا من العاشر من أبريل. وقد أدّت هذه الرسوم المرتفعة على نحو استثنائي إلى تجميد شبه كامل للعلاقات التجارية بين البلدين، في ما يشبه فعليًا حصارًا تجاريًا غير معلن؛ وهو إجراء عادة ما يُرتبط بظروف الحرب. ومن المتوقع أن تكون التداعيات الاقتصادية على كلا البلدين كبيرة، مع آثار محتملة تتردد أصداؤها عبر الاقتصاد العالمي بأسره.

 

أشار الخبير الاقتصادي تشيوي تشانغ إلى أن هذه المرحلة من التصعيد تمثّل على الأرجح نهاية موجة رفع الرسوم الجمركية، إذ بات كلا الجانبين يُدرك أن أية زيادات إضافية ستكون عديمة الجدوى. وبينما يُتوقَّع أن تتركز المرحلة التالية على تقييم الأضرار الاقتصادية، لا تبدو هناك مفاوضات جديدة مرتقبة في الأفق. وعلى خلاف الجولات السابقة، امتنعت الصين هذه المرة عن توسيع ضوابط التصدير أو استهداف المزيد من الشركات الأمريكية. وقد أشعل هذا النزاع نقاشًا واسعًا على منصات التواصل الاجتماعي، حيث ناقش المستخدمون بشكل مكثَّف تأثيره المحتمل على أسعار السلع وتكاليف المعيشة على مستوى العالم؛ وكان لتطبيق “تيك توك” على وجه الخصوص دور بارز في هذه النقاشات.

 

لا يُعَد “تيك توك”، المملوك لشركة “بايت دانس” الصينية، مجرد تطبيق للتواصل الاجتماعي؛ بل هو قوة ثقافية ضخمة، وآلة تسويقية فعَّالة، ونقطة توتر جيوسياسية، كما يوضحه الشكل (1):

 

 

يُظهر الرسم البياني أن عدد مُستخدمي “تيك توك” عالميًا قد بلغ 1.925 مليار مُستخدم، من بينهم 170 مليون مُستخدم نشط شهريًا في الولايات المتحدة. كما تضاعف متوسط الوقت اليومي الذي يقضيه المستخدمون على التطبيق، من 27 دقيقة في عام 2019 إلى 58 دقيقة في عام 2024. وقد حوَّلت هذه الهيمنة، لا سيّما بين الأجيال الشابة، التطبيق إلى منصة محورية في تشكيل الآراء، ونشر النشاط السياسي والاجتماعي، والتأثير في سلوك المستهلِكين.

"تيك توك": قوة ثقافية ونقطة توتر سياسية

برز “تيك توك” كمنصة قوية تُضخّم الأصوات السياسية وتغذّي النشاط الاجتماعي، بدءًا من حركات مثل “حياة السود مهمة” والاحتجاجات المؤيدة لفلسطين، إلى الدعوات المناخية. وقد وفَّر للمجتمعات المهمَّشة مساحة للتعبير عن آرائها والظهور أمام جمهور عالمي. إلى جانب ذلك، بلغ إجمالي حجم المبيعات على “متجر تيك توك” حتى الآن نحو 45 مليون عملية بيع. وقد وصلت القيمة الإجمالية للبضائع المتداولة عالميًا إلى 33.2 مليار دولار، أي أكثر من ضِعْف ما كانت عليه في العام السابق، مع تحقيق 9 مليارات دولار في الولايات المتحدة وحدها؛ وهو ما يمثّل ارتفاعًا بنسبة 650% بعد 16 شهرًا فقط من إطلاق الخدمة في سبتمبر 2023. وبعيدًا عن تأثيره الاجتماعي، يُعَد تطبيق “تيك توك” مركزًا مزدهرًا للتسويق والتجارة الإلكترونية، حيث تستفيد العلامات التجارية من انتشاره الكبير لإطلاق المنتجات، وبناء المجتمعات، وتعزيز المبيعات من خلال اتجاهات مثل “جعلني تيك توك أشتريها”. وبفضل ميزة “متجر تيك توك” التي تشهد نموًا متسارعًا، بات التطبيق يُنافس عمالقة مثل “أمازون” و”إنستغرام”، بفضل معدلاته السنوية العالية، كما يُظهر الشكل (2).

 

 

يُظهر الرسم البياني كيف قفزت إيرادات “تيك توك” من 0.15 مليار دولار في عام 2018 إلى 23 مليار دولار في عام 2024، ما يعكس توسعًا عالميًا سريعًا وتحقيقًا ناجحًا للدخل. وقد شهدت المنصة نموًا حادًا بشكل خاص بين عامي 2020 و2024، مدفوعًا بزيادة الإعلانات، وتوسيع ميزات التجارة الإلكترونية، وارتفاع تفاعل المستخدِمين. ويُبرز هذا الارتفاع الهائل تطوُّر “تيك توك” من مجرد تطبيق للتواصل الاجتماعي إلى قوة اقتصادية كبرى، رغم أن تباطؤ معدل النمو بحلول عام 2024 يشير إلى دخول المنصة مرحلة أكثر نضجًا في دورتها الاقتصادية.

 

من الناحية السياسية، استُخدمت المنصة لحشد الحركات، وتشكيل الخطاب العام، بل وحتى تعطيل بعض الفعاليات، كما حدث في تجمُّع ترامب الانتخابي في مدينة تولسا عام 2020. وبالنظر إلى ملكيتها الصينية وخوارزمياتها القوية في توجيه المحتوى، تنظر الحكومة الأمريكية إلى “تيك توك” على أنه أداة محتملة للتأثير الأجنبي، وهو ما دفع ترامب إلى الدفع نحو بيع التطبيق لشركة أمريكية.

 

وفي الوقت ذاته، وافق ترامب على صفقة كانت ستجعل من شركة “أوراكل” مُساهمًا أقلّيًا في “تيك توك”، إلى جانب شركة “وول مارت”، بحيث تمتلك الشركتان معًا ما يصل إلى 20% من أسهم الشركة. وكان من المقرر أن تبقى الحصة الأكبر بيد شركة “بايت دانس” الصينية، المالكة الأم لتطبيق “تيك توك”. ومع ذلك، لم تُستكمل الاتفاقية بسبب مشكلات دبلوماسية وقانونية حالت دون تنفيذها.

 

في الثالث من فبراير 2025، أعاد ترامب إحياء الجهود الرامية إلى الاستحواذ على التطبيق من خلال توقيعه أمرًا تنفيذيًا يقضي بإنشاء صندوق ثروة سيادي يهدف إلى شراء “تيك توك”. وتملك أكثر من 100 دولة، إلى جانب 20 ولاية أمريكية من بينها ألاسكا، صناديق ثروة سيادية. وقد أعاد ترامب طرح الفكرة، مقترحًا أن يتم تمويل الصندوق من عائدات الرسوم الجمركية، مع إمكانية استخدامه للاستحواذ على “تيك توك”. وقد أثار هذا المخطط جدلًا واسعًا، خصوصًا فيما يتعلق بمخاوف النفوذ الأجنبي. أما موقف الكونغرس فلا يزال غير محسوم، رغم أن مسؤولين في إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن سبق أن درسوا استراتيجيات مشابهة.

 

وعلى الرغم من أن الصندوق لم يُفعَّل بَعد ويحتاج إلى موافقة الكونغرس، فإنه سيكون كيانًا مستقلًا عن كل من مجلس الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة. وحتى أبريل 2025، لا يزال مستقبل المنصة غير محسوم، في ظل استمرار المفاوضات الجارية بشأن احتمالات شرائها أو تصفيتها.

 

تتجلى إحدى أبرز نقاط القوة في “تيك توك” كمنصة داعمة للحركات الاجتماعية في الصعود العضوي للمحتوى المؤيد لفلسطين عقب هجوم السابع من أكتوبر. فبينما تراجعت المنشورات المؤيدة لإسرائيل بشكل حاد مع مرور الوقت، واصل المحتوى المؤيد لفلسطين نموه بثبات، إلى أن بلغ ذروته ثم بدأ بالتراجع تدريجيًا؛ وهو نمط يُلاحَظ غالبًا في النشاط الشعبي القاعدي. وبحسب الباحثة لورا إديلسون من جامعة “نورث إيسترن”، التي قامت بتحليل أكثر من 280 ألف منشور على “تيك توك” مصدرها الولايات المتحدة باستخدام واجهة البحث الرسمية للمنصة، فقد برزت وسوم مثل “انقذوا فلسطين” و”غزة” بشكل ملحوظ، بطريقة تعكس أنماط التعبئة التي تحدث في الواقع الميداني. وهذا يُبرز قدرة “تيك توك”، ليس فقط كمنصة للتعبير، بل كأداة فعَّالة في الحفاظ على الزخم الرقمي حول القضايا السياسية.

اشترِ الآن، وتجاوز الرسوم الجمركية: خط "تيك توك" المباشر إلى الصين

بعيدًا عن الاعتبارات السياسية، بات “تيك توك” أداة لزعزعة الاستقرار الاقتصادي. ففي أعقاب الرسوم الجمركية الجديدة التي فرضها ترامب، بدأ المؤثّرون الصينيون باستخدام “تيك توك” للترويج للمبيعات المباشرة من المصانع الصينية إلى المستهلِكين الأمريكيين. وغالبًا ما يشارك هؤلاء المؤثّرون محتوى يُوحي بأن المستهلِكين يمكنهم تجاوز هوامش الربح المرتفعة لدى تجار التجزئة من خلال الشراء المباشر من المصانع الصينية، مما يتيح الحصول على منتجات تحمل علامات تجارية بأسعار أقل بكثير.

 

تكشف العديد من مقاطع الفيديو على “تيك توك” عن المصانع التي تزوّد علامات تجارية أمريكية كبرى مثل “لولوليمون” و”نايكي”، وتُرفَق بمعلومات اتصال تتيح إجراء الطلبات المباشرة. ومن بين هذه المقاطع، يبرز فيديو شهير حقَّق ما يقرب من 10 ملايين مشاهدة، يزعم أن سروال اليوغا من “لولوليمون”، الذي يُباع في الولايات المتحدة بأكثر من 100 دولار، لا تتجاوز تكلفة تصنيعه في الصين 5 إلى 6 دولارات فقط. كما تُوجِّه هذه الفيديوهات انتقادات للسياسات التجارية الأمريكية، فيما يدعو بعض صُنَّاع المحتوى إلى إصلاحات اجتماعية أوسع نطاقًا.

 

في عام 2024، شهد “متجر تيك توك” توسعًا سريعًا، حيث برزت الولايات المتحدة كسوقه الأولى من حيث قيمة المبيعات، متجاوزةً بذلك جميع دول جنوب شرق آسيا.


 

يُظهر الرسم البياني النمو الحاد والسريع في مبيعات “تيك توك”. فبحلول منتصف عام 2024، تجاوزت المبيعات الشهرية في الولايات المتحدة حاجز المليار دولار بشكل منتظم، مدفوعة بشكل أساسي بالمشترين المتكررين، ما يشير إلى مستوى عالٍ من رضا العملاء وولائهم. ويواصل تأثير “تيك توك” في التجارة الاجتماعية نموّه خلال عام 2025، مع توقُّعات بأن يقترب معدل نمو المبيعات في السوق الأمريكية من 200%، رغم الضغوط التنظيمية والمناقشات الجارية بشأن احتمال حظر التطبيق. وعلى الصعيد العالمي، يستهدف “متجر تيك توك” تحقيق نمو يقارب 100%، من خلال التوسُّع في أسواق جديدة مثل إيطاليا، وألمانيا، والبرازيل. أما في الولايات المتحدة، فتأتي 40% من القيمة الإجمالية للبضائع المتداولة عالميًا من مقاطع الفيديو القصيرة، و30% من المتجر نفسه، و10% من البث المباشر؛ ما يُظهر تباينًا واضحًا مقارنةً بنموذج “دوين” في الصين، الذي يُركّز بشكل أكبر على المبيعات عبر البث المباشر.

اضطراب التجارة: كيف تُعيد المبيعات المباشرة تشكيل التجارة العالمية

يُمثّل صعود نموذج البيع المباشر من المصنع إلى المستهلك تحوُّلًا جوهريًا في التجارة العالمية، وهو تحوُّل لم يكن ممكنًا خلال النزاعات التجارية السابقة. ففي السابق، كانت الرسوم الجمركية تستهدف مسارات الاستيراد الرسمية، إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي تتيح اليوم للمصنّعين الصينيين تجاوز الوسطاء وبيع منتجاتهم مباشرة للمستهلِكين الأمريكيين. وهذا الوصول المباشر يصعّب من عملية فرض الرسوم، إذ من الأصعب بكثير تتبُّع ومراقبة عدد لا يُحصى من الطرود الصغيرة مقارنةً بالشحنات الضخمة التي تُرسل عبر مستوردين معروفين. وما يزيد من تعقيد الأمر أن المستهلِك الأمريكي، بغضّ النظر عن مدى ارتفاع السعر النهائي، لا يبدو على استعداد لتحمُّل الخسارة المرتبطة بالشراء من السوق المحلية، طالما أن السعر المباشر من المصنع يظل أقل من السعر الأصلي. إلى جانب ذلك، يتزامن ازدهار المحتوى الترويجي للمبيعات المباشرة من المصانع مع إلغاء وشيك لقاعدة “الحد الأدنى”، والمقرّر تطبيقه في 2 مايو، وهي قاعدة كانت تسمح بدخول الشُحنات التي تقل قيمتها عن 800 دولار إلى الولايات المتحدة دون دفع رسوم جمركية. هذا ما يشير إلى أن المصنّعين يسارعون لبناء علاقات مباشرة مع المستهلِكين الأمريكيين قبل أن تُغلق هذه الثغرة التنظيمية.

 

لقد مكَّن الانتشار السريع لمقاطع الفيديو التي تُروِّج للمبيعات المباشرة من المصانع المستهلِكين الأمريكيين من كشف التكلفة الحقيقية للسلع، وفضح الهوامش الربحية العالية التي يفرضها الوسطاء وتجار التجزئة في السوق الأمريكية. وبالنسبة للعديد من المشاهدين، شكَّلت هذه المقاطع لحظة وعي صادمة كشفت مدى تضخُّم أسعار المنتجات اليومية. وقد أتاح هذا القدر من الشفافية للمستهلِكين اتخاذ قرارات شرائية أكثر وعيًا، بل والتواصل المباشر مع المصنّعين في الخارج، ما يتيح لهم توفير مبالغ مالية كبيرة. ورغم أن المشترين لا يزالون مُطالَبين بالإفصاح عن السلع ودفع الرسوم الجمركية على المشتريات التي تتجاوز قيمتها 800 دولار، تبقى فكرة تجاوز قنوات البيع التقليدية جذابة، خصوصًا عندما يدعو المصنّعون الأمريكيين إلى زيارة منشآتهم والتعرُّف على سير العمل بأنفسهم. وتُعَد من أبرز مزايا ما تُعرَف بظاهرة “الدايغو العكسي” (أي قيام المستهلِكين الأمريكيين بشراء المنتجات مباشرةً من المصانع الصينية عبر الإنترنت) تزايد الوعي بأن العديد من المنتجات عالية الجودة والميسورة السعر مصدرها الصين. ويعكس هذا التحوُّل في الإدراك وعيًا متناميًا لدى المستهلِكين، كما يضع فعالية السياسات التجارية الأمريكية- التي تهدف إلى حماية الصناعات المحلية- موضع تساؤل. فبدلًا من إلحاق الضرر بالمبيعات الصينية، غالبًا ما تؤدي هذه السياسات إلى خلق عوائق إضافية غير ضرورية، تزيد من تكلفة المنتجات على المستهلِك الأمريكي، من دون أن تحقّق مكاسب حقيقية للمُصنّعين المحليين. وتُبرز هذه الظاهرة قدرة الأسواق العالمية على التكيُّف والازدهار على الرغم من الحواجز التجارية، ما يشير إلى أن الانفتاح وإتاحة الخيارات أمام المستهلِكين قد يقدّمان قيمة اقتصادية أكبر من الإجراءات الحمائية الصارمة.

 

على الرغم من أن نموذج البيع المباشر إلى المستهلِك الذي تتبعه المصانع الصينية قد يوفّر وسيلة لتجاوز الرسوم الجمركية الأمريكية والتخفيف من آثارها، فإن هذا المسار لا يخلو من التحديات. أولًا وقبل كل شيء، يُعَد من الأصعب على المصنّعين إدارة عمليات البيع، والتسويق، والخدمات اللوجستية بأنفسهم، خاصةً بعد سنوات طويلة من الاعتماد على تجار الجُملة أو تجار التجزئة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الدخول في هذا النموذج يتطلب تجاوز حواجز أعلى، إذ يحتاج في كثير من الأحيان إلى استثمارات أولية كبيرة لتأسيس بنية تحتية قادرة على دعم هذا التحوُّل المباشر في سلسلة الإمداد والتوزيع.

أُفول قوة الرسوم الجمركية الأمريكية في عصر "تيك توك"

في عام 2025، قد تُثبت الرسوم الجمركية الأمريكية المفروضة على البضائع الصينية أنها أقل فاعلية مقارنةً بما كانت عليه خلال حرب الرسوم الجمركية في عام 2018. ففي تلك الفترة، وجَّهت هذه الرسوم ضربة قاسية للقطاعات الصينية المعتمدة على التصدير مثل الإلكترونيات، والمنسوجات، والألعاب، والأثاث، ما أدى إلى فقدان ما يقرب من 1.9 مليون وظيفة في قطاع التصنيع، وكانت الشركات الصغيرة والمتوسطة الأكثر تضررًا. كما تباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين إلى أدنى مستوياته خلال ما يقرب من ثلاثة عقود، إذ بلغ 6.0% في عام 2019، مقارنة بـ6.7% في عام 2018. وإضافة إلى ذلك، أظهرت الدراسات أن 22% من الشركات كانت تخطّط لتقليص استثماراتها في الصين، مع اتجاه الغالبية العظمى منها لنقل استثماراتها إلى دول ذات تكاليف منخفضة مثل فيتنام وتايلاند، بل وحتى المكسيك. وسارعت الشركات الصينية إلى التكيُّف مع هذه التغيُّرات عبر تجريب نماذج مثل الشحن المباشر والأسواق الإلكترونية، إلا أن تركيزها ظل منصبًا بدرجة كبيرة على تحويل صادراتها إلى أسواق عالمية جديدة، بدلًا من البيع المباشر إلى المستهلِكين الأمريكيين.

 

أما اليوم، فقد تغيَّر المشهد بشكل جذري؛ إذ أصبحت المصانع الصينية، وخصوصًا في مراكز التصنيع الكبرى مثل غوانغدونغ وتشجيانغ، تَستخدم منصات التواصل الاجتماعي بنشاط، مثل “تيك توك” و”ريد نوت”، للتواصل المباشر مع المشترين الأمريكيين. وتُتيح مقاطع الفيديو المنتشرة على نطاق واسع، والبث المباشر، والمحتوى المخصَّص للمستهلِكين، للمصنّعين تجاوز سلاسل الإمداد التقليدية والوصول إلى الزبائن دون وسطاء. ويجعل هذا النموذج القائم على البيع المباشر إلى المستهلِك من الصعب على السلطات الأمريكية فرض الرسوم الجمركية، إذ إن تتبُّع ملايين الطرود الصغيرة أصعب بكثير من مراقبة شُحنات الحاويات الضخمة. وفي الوقت ذاته، فإن ضَعْف العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة ودول أخرى قد يدفع ببعض من حلفائها التقليديين- مثل كندا، والمكسيك، بل وحتى بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي- إلى الاقتراب أكثر من الصين، مما يزيد من تقويض فعالية الإجراءات الحمائية الأمريكية. ولم تَعد المنصات مثل “تيك توك” مجرّد أدوات ترفيهية؛ بل باتت تمثّل أدوات ذات نفوذ اقتصادي متنامٍ، قادرة على إعادة تشكيل أنماط التجارة، وتقويض السياسات الحكومية.

 

في الختام، لم يَعد “تيك توك” مجرد منصة ترفيهية بسيطة، بل تطوَّر إلى قوة جيوسياسية واقتصادية بارزة، لا سيّما في سياق الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. وبينما هدفت الرسوم الجمركية إلى كبح النفوذ الاقتصادي الصيني، فقد تقوّض جزء كبير من تأثيرها بفعل صعود مبيعات المصنع المباشرة إلى المستهلِك، المدفوعة بالانتشار الكبير لـ”تيك توك” ونموذج التجارة القائم على المؤثّرين. لقد مكَّن التطبيق المصانع الصينية من الوصول المباشر إلى المستهلِكين الأمريكيين، متجاوزًا سلاسل الإمداد التقليدية وآليات تطبيق الرسوم الجمركية. وهذا لا يُعَد تحديًا لفعالية السياسة التجارية الأمريكية فحسب، بل يُعيد أيضًا تشكيل التجارة العالمية من خلال تعزيز الشفافية في التسعير وكشف هوامش الأرباح المبالغ فيها. ومع اقتراب إلغاء قاعدة “الحد الأدنى” والنمو الهائل لـ”متجر تيك توك” في السوق الأمريكية، يبدو أن المنصة تُسرّع تحولًا في السلوك الاستهلاكي الأمريكي نحو تفضيل المنتجات الصينية، على الرغم من التوترات الجيوسياسية. وفي هذا السياق، أصبح “تيك توك” أداة اقتصادية قوية وغير تقليدية ضمن استراتيجية الصين الاقتصادية؛ أداة تمزج بين التجارة، والثقافة، والاستراتيجية الدولية في آنٍ واحد.

المراجع

A Plan for Establishing a United States Sovereign Wealth Fund, February 3, 2025, https://www.whitehouse.gov/presidential-actions/2025/02/a-plan-for-establishing-a-united-states-sovereign-wealth-fund/

 

A quick guide to the US-China trade war, January 16, 2020, BBC news, https://www.bbc.com/news/business-45899310

 

Arendse Huld, “Trump Raises Tariffs on China to 104% – Overview and Trade Implications,” China briefing, April 9, 2025 https://www.china-briefing.com/news/trump-raises-tariffs-on-china-to-54-overview-and-trade-implications/

 

Arendse Huld, “Trump Raises Tariffs on China to 145% – Overview and Trade Implications,” China briefing, https://www.china-briefing.com/news/trump-raises-tariffs-on-china-to-125-overview-and-trade-implications/

 

China strikes back with 125% tariffs on U.S. goods as trade war intensifies, CNBC, Apr 11 2025, https://www.cnbc.com/2025/04/11/china-strikes-back-with-125percent-tariffs-on-us-goods-starting-april-12.html

 

Chinese TikTok influencers challenge US tariffs with direct sales, techinasia, April 15, 2025, https://www.techinasia.com/news/chinese-tiktok-influencers-challenge-tariffs-direct-sales

 

Cyrus Moulton,” Pro-Palestinian posts significantly outnumbered pro-Israeli posts on TikTok, new Northeastern research shows,” Northeastern Global News, https://news.northeastern.edu/2024/05/10/israel-hamas-tiktok-research/

 

D2C: Direct to Success / Benefits and Challenges, Univio, June 27, 2023, https://www.univio.com/blog/d2c-direct-to-success-benefits-and-challenges/#:~:text=Competition%20with%20distributors,to%20sell%20a%20manufacturer’s%20products

 

Dorcas Wong and Alexander Chipman Koty, “The US-China Trade War: A Timeline,” China briefing, August 25, 2020, https://www.china-briefing.com/news/the-us-china-trade-war-a-timeline/

 

GDP growth (annual %) -China, World Bank Data, https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.MKTP.KD.ZG?end=2023&locations=CN&start=2012

 

How many users on TikTok? Statistics & Facts (2025), SEO.AI, Jan 23, 2025, https://seo.ai/blog/how-many-users-on-tiktok#:~:text=TikTok%20Key%20Statistics,to%2058%20minutes%20in%202024

 

Iris Zhao and Bang Xiao, “Chinese factories appeal directly to US consumers on TikTok as tariffs bite,” ABC News, April 16, 2025, https://www.abc.net.au/news/2025-04-16/chinese-factories-turn-to-tiktok-bypass-tariffs-american-market/105184576

 

Mansoor Iqbal, “TikTok Revenue and Usage Statistics,” business of apps, https://www.businessofapps.com/data/tik-tok-statistics/

 

Nadica Naceva, Top 13 TikTok Shop Stats for 2024, influencer marketing hub, March 28th, 2025, https://influencermarketinghub.com/tiktok-shop-stats/?

 

Richard Hall, “Chinese manufacturers flood TikTok with videos urging Americans to buy direct after Trump’s tariffs,” Yahoo News, https://www.yahoo.com/news/chinese-factories-flood-tiktok-videos-204209131.html

 

Steven Overly,” Trump approves Oracle’s proposed deal with TikTok,” politico, https://www.politico.com/news/2020/09/19/trump-gives-blessing-tiktok-deal-418528?

 

Tessa Wong and Kayla Epstein, “At a glance: Trump’s tariffs on China, EU and rest of the world,” BBC news, https://www.bbc.com/news/articles/c1jxrnl9xe2o

 

The Mid-Sized Manufacturers’ Guide to Chinese Tariffs, supplyone, August 23, 2019, https://www.supplyone.com/news/mid-sized-manufacturers-guide-chinese-tariffs/

 

Trump signs order to create sovereign wealth fund that could buy TikTok, the guardian, February 3, 2025, https://www.theguardian.com/us-news/2025/feb/03/trump-sovereign-wealth-fund-tiktok

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *