لم تكن دبلوماسية الرياضة وليدة اللحظة، بل تضرب بجذورها في أعماق التاريخ؛ إذ تعود بداياتها إلى العصور القديمة، حين اعتادت المدن-الدول اليونانية تعليق نزاعاتها المسلحة للمشاركة في الألعاب الأولمبية، التي كانت تُقام في أجواء يسودها السلام والاحترام المتبادل. وقد استندت الحركة الأولمبية الحديثة، التي أُعيد إطلاقها عام 1896، إلى المبادئ ذاتها، مناديةً بوحدة البشرية من خلال التنافس الرياضي الشريف.
ومع ذلك، لم تكن الرياضة بمنأى عن التوظيف السياسي، إذ استُغلت أحيانًا كأداة دعائية أو وسيلة لتعزيز النفوذ الدولي. ولعل أبرز مثال على ذلك أولمبياد برلين عام 1936، حين سخّرت ألمانيا النازية الألعاب الأولمبية لترويج أفكارها القومية. وفي المقابل، أثبتت الرياضة في مناسبات أخرى قدرتها على لعب دور إيجابي في تهدئة النزاعات السياسية وبناء جسور التواصل. فعلى سبيل المثال، ساهمت ما عُرف بـ"دبلوماسية كرة الطاولة" بين الولايات المتحدة والصين في مطلع السبعينيات من القرن الماضي في تهيئة الأجواء لزيارة الرئيس ريتشارد نيكسون التاريخية إلى بكين عام 1972، والتي شكّلت منعطفًا مهمًا في مسار العلاقات بين البلدين. تسعى هذه الدراسة إلى تحليل مدى فاعلية دبلوماسية الرياضة كأداة من أدوات القوة الناعمة في تخفيف حدة التوترات بين الدول، واستكشاف إمكاناتها في تشكيل بيئات أكثر تعاونًا في عالم يزداد استقطابًا.
تشير دبلوماسية الرياضة إلى توظيف الرياضة والأنشطة المرتبطة بها كأداة لتعزيز العلاقات الدولية، لا سيما بين الدول التي تشهد توترات أو نزاعات سياسية. وتنطلق هذه الدبلوماسية من خصوصية الرياضة بوصفها لغةً عالمية تتجاوز الحواجز اللغوية والثقافية والعرقية، ما يجعلها وسيلة فريدة للتواصل وبناء الجسور بين المجتمعات والدول. وقد باتت الرياضة اليوم، بما تحظى به من حضور جماهيري وإمكانات إعلامية هائلة، أداة فعالة ضمن أدوات القوة الناعمة التي تسعى الدول إلى استثمارها لتوسيع نفوذها وتحسين صورتها الدولية. ولم تعد العلاقات بين الدول تُبنى فقط على أساس اللقاءات الرسمية أو المباحثات الدبلوماسية المغلقة، بل أصبحت البطولات الرياضية الكبرى، مثل كأس العالم والألعاب الأولمبية، منابر جديدة للدبلوماسية العامة والتأثير السياسي غير المباشر.
يعكس التنافس المحموم بين الدول على استضافة هذه البطولات العالمية إدراكًا متزايدًا لأهميتها الاستراتيجية. ومن خلال إشراك الرياضيين، والمدرّبين، والإداريين، والجماهير في هذه الأحداث، يتم خلق مساحة تفاعلية واسعة تسمح بتقريب الشعوب وتبادل الثقافات وبناء قيم إنسانية ورياضية مشتركة، قد تُمهّد في بعض الأحيان لإذابة الجليد بين حكومات متخاصمة. وتتجلى قوة هذه الدبلوماسية في قدرتها على تجاوز الانقسامات القومية والهوياتية، ما يجعلها أحد أكثر أدوات التقارب فاعلية في بيئة دولية تتسم بالتوتر والتنافس.
لقد استُخدمت الرياضة، بوصفها أداة دبلوماسية، في تخفيف حدة التوترات بين الدول من خلال جملة من الآليات الفعالة. أولى هذه الآليات تتمثل في الفعاليات الرياضية الكبرى، التي تسهم في كسر الحواجز النفسية والسياسية بين الدول، وتمنحها إحساسًا بإمكانية التعايش والتقارب، مما يخلق مناخًا ملائمًا لبناء علاقات سلمية على المدى الطويل. وإلى جانب بعدها التنافسي، تشكل هذه الفعاليات منصات ثقافية تعرّف الشعوب ببعضها البعض، وتُبرز الهويات المتعددة، مما يساهم في تضييق فجوات الفهم والاختلاف بين دولٍ قد تكون على خلاف سياسي أو تاريخي.
علاوة على ذلك، تتيح الرياضة للقادة السياسيين، الذين تعيقهم الخلافات السياسية عن عقد لقاءات رسمية، فرصة للقاء غير رسمي على هامش الفعاليات الرياضية، سواء في حفلات الافتتاح أو المباريات الكبرى. وتُعد هذه اللقاءات غير الرسمية مداخل فعالة لبدء حوارات يصعب إجراؤها ضمن القنوات الدبلوماسية التقليدية، إذ توفر مناخًا أقل توتّرًا وأكثر مرونة لفتح قنوات التواصل.
وقد تجلى هذا الدور بوضوح في الحالة الهندية–الباكستانية، لا سيما خلال أزمة كشمير عام 2002، حين بلغت التوترات بين البلدين مستوى خطيرًا. غير أن الجانبين لجآ إلى لعبة الكريكت كوسيلة للتهدئة وإعادة بناء الجسور. ففي عام 2004، نظم البلدان سلسلة من مباريات الكريكت ضمن مسعى دبلوماسي غير مباشر لتخفيف حدة العداء وتحسين سبل التواصل. واستمر توظيف الكريكت كأداة للتقارب، حيث شهد عام 2011 لحظة لافتة حين لبّى رئيس الوزراء الباكستاني آنذاك، يوسف رضا جيلاني، دعوة نظيره الهندي لحضور مباراة نصف النهائي بين منتخبي البلدين في مدينة موهالي، بعد فترة من التوتر عقب هجمات مومباي في 2008. وقد أسهم ذلك اللقاء الرمزي في تخفيف الاحتقان السياسي بين الطرفين، وأعطى دفعة لمساعي الحوار في تلك المرحلة.
ثانيًا، تُعد الرياضة وسيلة فعالة للتخفيف من حدة النزاعات الداخلية في الدول التي تعاني من انقسامات عرقية أو سياسية. إذ يمكن لتشكيل فرق وطنية تضمّ أفرادًا من خلفيات وفصائل مختلفة أن يسهم في بناء الثقة وتعزيز جهود المصالحة الوطنية، خاصة في أعقاب الحروب الأهلية. وقد برزت جنوب أفريقيا كمثال بارز على هذا الدور، عندما استضافت بطولة كأس العالم للرجبي عام 1995. آنذاك، ضمّ الفريق الوطني لاعبين من خلفيات عرقية متعددة، وحظي بدعم مباشر من الرئيس نيلسون مانديلا، الذي رأى في الرياضة وسيلة لتجاوز إرث الفصل العنصري. وقد احتفل الشعب الجنوب أفريقي بأطيافه كافة بذلك الإنجاز، ما أسهم في تخفيف حدة التوترات وتعزيز الوحدة الوطنية في مرحلة ما بعد التفرقة العنصرية.
ثالثًا، تستخدم الدول البطولات الرياضية الكبرى كأداة لإعادة تشكيل صورتها على الساحة الدولية، وإبراز انفتاحها واستعدادها للانخراط في النظام العالمي. وتُعد استضافة قطر لكأس العالم لكرة القدم 2022 مثالًا واضحًا على هذه الاستراتيجية. فبالرغم من أن تكاليف تنظيم البطولة تجاوزت 200 مليار دولار، مقارنة بعائدات مباشرة لا تتجاوز 20 مليار دولار، فإن الهدف لم يكن ماليًا بحتًا، بل سياسيًا واقتصاديًا بعيد المدى. سعت قطر من خلال هذا الحدث إلى تحسين سمعتها الدولية، وتعزيز موقعها كدولة مؤثرة في السياسة الإقليمية والعالمية، فضلًا عن جذب الاستثمارات الأجنبية وزيادة أعداد السياح. وقد منحها هذا الدور، بوصفها دولة مستضيفة ناجحة، فرصة لتعزيز موقعها كوسيط دبلوماسي فاعل. ويُعد دورها في الوساطة بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، والذي أفضى إلى توقيع “اتفاق الدوحة” عام 2020، دليلًا واضحًا على مدى التداخل بين النفوذ الرياضي والقدرة الدبلوماسية.
رابعًا، يمكن للمنافسات الرياضية الدولية أن تُعيد توجيه التوترات القومية من ساحات النزاع المسلح إلى ساحات المنافسة الرياضية السلمية، مما يوفر متنفسًا للشعوب ويُقلّل من احتمالات التصعيد. ويبرز هذا الدور في مشاركة الكوريتين، الشمالية والجنوبية، في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2018 في بيونج تشانج، حيث دخلتا حفل الافتتاح تحت علمٍ موحّد، وشكلتا فريقًا نسائيًا مشتركًا لهوكي الجليد. وقد حملت هذه البادرة، في ظل تصاعد التوترات بشأن البرنامج النووي الكوري الشمالي، رسالة قوية مفادها أن الرياضة يمكن أن تكون جسرًا نحو السلام. وفعليًا، مهّد هذا الانفتاح الرياضي الطريق لعقد لقاءات رسمية بين زعيمي البلدين، بما في ذلك اللقاء التاريخي في المنطقة منزوعة السلاح، الذي شكّل أول عبور لزعيم كوري شمالي إلى الجنوب منذ نهاية الحرب الكورية. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة لم تفضِ إلى تسوية نهائية للنزاع، فإنها برهنت على الإمكانات الرمزية والعملية التي توفرها دبلوماسية الرياضة في فتح قنوات الحوار وتقليص مستويات العداء بين الدول.
رغم ما تحمله دبلوماسية الرياضة من فوائد وإمكانات واعدة في تخفيف التوترات وبناء الجسور بين الدول، فإنها لا تخلو من تحديات تعيق فعاليتها وتُحدّ من قدرتها على تحقيق أهدافها. أول هذه التحديات يتمثل في التأثير المباشر للتوترات السياسية على الفعاليات الرياضية، إذ قد تدفع بعض النزاعات بين الدول أطرافًا معينة إلى الانسحاب أو مقاطعة البطولات، الأمر الذي يُفرغ هذه الفعاليات من مضمونها الدبلوماسي، بل ويعمّق الخلافات القائمة. فعلى سبيل المثال، قادت الولايات المتحدة عام 1980 حملة مقاطعة واسعة لدورة الألعاب الأولمبية الصيفية في موسكو، احتجاجًا على الغزو السوفيتي لأفغانستان عام 1979. وانضم إلى المقاطعة أكثر من 60 دولة، من بينها كندا واليابان وألمانيا الغربية والصين، ما أدى إلى غياب عدد كبير من الرياضيين عن الحدث. وقد شكلت هذه المقاطعة سابقة في تسييس الرياضة بشكل مباشر، محوّلةً الأولمبياد إلى ساحة للصراع الدبلوماسي. وفي خطوة مقابلة، قاطع الاتحاد السوفيتي ودول حلف وارسو دورة الألعاب الأولمبية في لوس أنجلوس عام 1984، مما رسّخ انقسامًا حادًا داخل الساحة الرياضية العالمية.
ثانيًا، تواجه دبلوماسية الرياضة خطر الاستغلال السياسي من قبل الأنظمة السلطوية، التي قد توظف الفعاليات الرياضية الكبرى كأداة لإعادة إنتاج صورتها دوليًا وتجميل سجلّها في مجالات حقوق الإنسان. ويُعد أولمبياد بكين 2008 مثالًا بارزًا على ذلك، حيث سعت الحكومة الصينية إلى استثمار الحدث لتأكيد مكانتها كقوة دولية صاعدة، متجاهلةً في الوقت ذاته الانتقادات الحقوقية الواسعة التي وُجّهت لها، بينما احتكرت وسائل الإعلام الرسمية الخطاب المرتبط بالبطولة.
ثالثًا، يمثل إضفاء الطابع التجاري على الرياضة تحديًا آخر لا يقل أهمية. فمع تنامي التوجه نحو الربحية وتحقيق العائدات المالية، باتت الفعاليات الرياضية عرضة لتحولات تفقدها جوهرها كوسيلة للتقارب والسلام. التركيز المفرط على الجوانب الاقتصادية قد يُضعف الدور القيمي للرياضة، ويحدّ من قدرتها على بناء جسور بين الشعوب والثقافات. ويظهر ذلك جليًا في أولمبياد بكين الشتوي 2022، الذي واجه انتقادات دولية واسعة بسبب سجل الصين في مجال حقوق الإنسان، خاصة ما يتعلق بمعاملة أقلية الإيجور. وردًا على ذلك، قررت دول عديدة، من بينها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، عدم إرسال أي ممثلين رسميين إلى البطولة، في ما اعتُبر “مقاطعة دبلوماسية” للحدث. ورغم أن بكين كانت تتوقع مثل هذا الموقف، فإنها مضت قدمًا في تنظيم الدورة، مع التركيز بشكل خاص على المكاسب الاقتصادية والعوائد الاستثمارية، في دلالة واضحة على أولويات تتجاوز البعد الدبلوماسي أو القيمي للرياضة.
بالإضافة إلى ذلك، تتمتع الدول ذات الموارد المالية الكبيرة بقدرة أكبر على استضافة الفعاليات الرياضية الكبرى، وهو ما يمنحها فرصًا أوسع لتوظيف الرياضة في خدمة أهدافها الدبلوماسية والاستراتيجية. وتؤدي هذه الهيمنة إلى بروز حالة من عدم التكافؤ، إذ لا تحظى الدول النامية والأقل ثراءً بفرص متكافئة لتقديم نفسها على الساحة الدولية من خلال الرياضة. فعلى سبيل المثال، لم تُمنح قارة أفريقيا فرصة استضافة كأس العالم سوى مرة واحدة فقط، بينما استأثرت أوروبا بتنظيم البطولة 11 مرة.
ورغم أن الرياضة غالبًا ما تُسهم في تعزيز العلاقات بين الدول، فإنها قد تكون في بعض الحالات سببًا في تفاقم التوترات. ويبرز مثال “حرب كرة القدم” بين هندوراس والسلفادور، التي اندلعت إثر سلسلة من مباريات تصفيات كأس العالم عام 1969، حين تصاعد التوتر بين جماهير البلدين إلى أعمال عنف، ما ساهم في إشعال فتيل نزاع مسلح لم يكن للرياضة فيه سوى دور محفّز، لكنه بالغ التأثير على مسار الأزمة السياسية القائمة آنذاك.
وختامًا، أثبتت دبلوماسية الرياضة، بوصفها أداة لتعزيز العلاقات الدولية وتخفيف حدة الصراعات، فاعليتها وقدرتها على اختراق الحواجز السياسية والثقافية التي تعجز الوسائل التقليدية أحيانًا عن تجاوزها. ومن خلال ما توفره من مساحات للتواصل غير الرسمي، والتبادل الثقافي، وتوظيف القوة الناعمة، استطاعت الرياضة أن تسهم في فتح قنوات للحوار، وبناء جسور الثقة، وتوسيع نطاق الفهم المتبادل بين الدول والشعوب. ومع الإقرار بوجود تحديات بنيوية وسياسية تقيّد فاعليتها، تبقى دبلوماسية الرياضة ركيزة مرنة في البنية الدبلوماسية العالمية، مرشّحة للاضطلاع بدور متزايد في عالم تتصاعد فيه الأزمات، وتتنامى فيه الحاجة إلى أدوات جديدة لحفظ السلام وتعزيز التعاون الدولي.
Al Marri, A. & Al Ansari, A. (2023). World Cup in Qatar: Human Rights and Normalization, Carnegie Endowment for International Peace, https://carnegieendowment.org/sada/2023/01/world-cup-in-qatar-human-rights-and-normalization?lang=en
Edwards, J. (2024). LA 1984 Olympics Controversies: Cold War Boycott, Iran Tensions, Newsweek, https://www.newsweek.com/olympics-controversies-1984-gymnastics-cold-war-1936871
Luckhurst, T. (2019). Honduras v El Salvador: The football match that kicked off a war, BBC, https://www.bbc.com/news/world-latin-america-48673853
Murray, S. (2013). Moving beyond the ping‑pong table: Sports diplomacy in the modern diplomatic. Public Diplomacy Magazine, 9(1), 11–17. https://research.bond.edu.au/en/publications/moving-beyond-the-ping-pong-table-sports-diplomacy-in-the-modern-
Murray, S. (2024). Understanding Sports Diplomacy with Dr. Stuart Murray, Co-Founder of the Sports Diplomacy Alliance, Georgetown Journal of International Affairs, https://gjia.georgetown.edu/2024/03/29/understanding-sports-diplomacy-with-dr-stuart-murray-co-founder-of-the-sports-diplomacy-alliance/
The Times of India. (2011). Cricket Diplomacy: Manmohan invites Zaradi, Gilani for India vs Pak semifinal in Mohali, The Times of India, https://timesofindia.indiatimes.com/india/cricket-diplomacy-manmohan-invites-zardari-gilani-for-india-vs-pak-semifinal-in-mohali/articleshow/7788364.cms?utm_source=chatgpt.com
تعليقات