بينما يكافح العالم لمواجهة التحديات الاجتماعية والبيئية الآخذة في التعقيد، بدأت بعض النظم والمفاهيم الاجتماعية والاقتصادية البديلة مثل تراجع النمو تستعيد زخمها. ويُعرف الحد من النمو Degrowth بأنه "نظرية اقتصادية وحركة اجتماعية تهدف إلى الحد من التدهور البيئي وعدم المساواة الاجتماعية من خلال تقليل الاستهلاك والإنتاج وخفض معدلات النمو السكاني". وعلى الرغم من أن هذه الحركة تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، إلا أنها وجدت صعوبةً منذ ذلك الحين في أ ن تحظى بالمقبولية على الصعيد السياسي ذلك على الرغم من التنامي المستمر للإنتقادات الموجهة لمستويات النمو الاقتصادي، ومع ذلك، يصر مؤيدو الحركة على حججهم ويواصلون التحذير من مخاطر النمو الاقتصادي غير المحدود. لذا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل ستشهد حركة تراجع النمو رواجًا في المستقبل أم أنها ستظل حركة مهمشة؟ وإذا كانت ستشهد رواجًا، فلماذا يصعب إثبات جدواها؟ وهل يمكن النظر إلى مقترحاتها بوصفها قابلة للتطبيق أم لا؟ وأخيرًا، ما هي الآثار المترتبة على رفضها تمامًا؟
في الوقت الحالي، تهيمن أزمة المناخ على عالم صنع السياسات وهو ما ترتب عليه انتقاد الأنظمة الحالية تاركةً مساحةً صغيرة لمفهوم “تراجع النمو” الذي يقتصر حضوره حتى الآن على اللجان البرلمانية في فرنسا وألمانيا وناقشه عدد ضئيل من القادة في إيطاليا والبرازيل وهولندا وإسبانيا حيث رأت الحكومة الكاتالونية في استقلالها فرصةً لتشكيل نظامها الاقتصادي بطريقةٍ تضمن تحقيق الاستدامة والمرونة. وعلى الرغم من عدم وضع أي مقترحات محددة لنظرية تراجع النمو، أضحى بعض صانعي السياسة الآن أكثر حرصًا على التعرف على الإمكانات العملية لها؛ فعلى سبيل المثال، خصص مجلس البحوث الأوروبي(European Research Council) حوالي 10 مليون دولار لبحث السياسات العملية خلال فترة “ما بعد النمو”، ومن المقرر أيضًا أن يستضيف “البرلمان الأوروبي” مؤتمر “ما بعد النمو” (Beyond Growth) في مايو 2023، حتى أن المصرفيين في وول ستريت(Wall Street) بدأوا النظر في الآثار المترتبة على تراجع النمو الذي يبدو أنه سيحدث على الأرجح في ظل تغير عادات المستهلكين من الأجيال الشابة الواعية بقضايا المناخ.
إذن ما الذي يستلزمه تراجع النمو بالضبط وهل نشهد بالفعل علامات ظهوره في الواقع أم لا؟ في الوقت الحالي، لا توجد مجموعة محددة واضحة من السياسات التي تطبق مفهوم تراجع النمو. ومع أن المفهوم ذاته له تعريفات مختلفة، إلا أنه يمكن فهمه من خلال ثلاثة أُطر على الأقل تتمثل في تراجع النمو مع انخفاض الضغوط البيئية، وتراجع النمو باعتباره تحررًا من بعض الأيديولوجيات “غير المرغوب فيها” مثل الليبرالية الجديدة والنزعة الاستهلاكية، وأخيرًا وليس آخرًا تراجع النمو المثالي الذي يرتكز المجتمع فيه على الاستقلالية والاكتفاء والرعاية. وتشمل بعض الأمثلة على سياسات الحد من النمو تقليص أنشطة القطاعات المدمرة للبيئة مثل الوقود الأحفوري والموضة السريعة (fast fashion) والإعلانات والطيران، وتقليل أوقات العمل من خلال تقصير عمر أسابيع العمل، وتحسين الجودة، وإتاحة الوصول العادل للخدمات العامة. وهذا يحدث بالفعل إلى حدٍّ ما في معظم الدول الأوروبية التي تقدم خدمات الرعاية الصحية مجانًا حيث تفكر بعض البلدان جديا – مثل المملكة المتحدة وأيسلندا – في تطبيق سياسة تقليص أسبوع العمل لمدة 4 أيام، ومع ذلك، على الجانب الآخر هناك مقاومة قوية لحدوث مثل هذا التغيير.
ربما كانت جائحة “كوفيد-19 “ واحدةً من أكبر العلامات التي تشير إلى أن تراجع النمو قد يصبح السمة الرئيسية للأجيال القادمة، ويُستدَل على هذا بأن الآثار والعواقب المترتبة على الوباء والمتمثلة في تعطيل الاقتصادات العالمية وتباطؤ النمو الاقتصادي لمعظم البلدان قد كشفت عن “نقاط الضعف الخفية” في النظام الاقتصادي العالمي وأظهرت ضرورة توفير سلاسل توريد أكثر مرونة ووضع سياسات تعطي الأولوية للرفاه الاجتماعي على حساب النمو الاقتصادي وزيادة الأسواق التي يمكن أن تتكيف مع تلك السياسات. وفي حين أن استجابة الحكومات للوباء لم تكن متوافقة مع مبادئ تراجع النمو لأنها كانت مصممة بشكلٍ أساسي على إعادة الاقتصاد إلى مساره السابق نحو النمو، فإن العديد من الإجراءات التي اتخذتها الحكومات أثناء الوباء تشبه بعض السمات الأساسية لمفهوم تراجع النمو والتي تتضمن على سبيل المثال لا الحصر هيكلة الموارد لتخصيص الجزء الأكبر منها لتحسين مجالات الصحة والعدالة الاجتماعية مثل تطبيق مزايا العمل قصيرة الأجل وإعطاء الأولوية لإجراءات التطعيم للسكان الأكثر احتياجًا. ومع ذلك، تفاقمت أوجه عدم المساواة القائمة بالفعل في المجتمعات وكان الأشخاص المهمشون والأكثر احتياجًا هم الأكثر تضررًا من تلك الجائحة نظرًا لضخامة حجم الوباء والقدرة المحدودة للحكومات على التعامل مع مثل هذه العواقب غير المسبوقة.
من ناحيةٍ أخرى، أدت الفجوة بين مستوى استجابة الحكومات واحتياجات الناس إلى حدوث تحول كبير في السلوك على مستوى المجتمعات حيث تجمع الناس لإنشاء المؤسسات والجمعيات المحلية غير الرسمية التي تسعى لتقديم الرعاية والمساعدة لأفراد مجتمعاتهم، وهذه سمة أساسية أخرى من سمات تراجع النمو التي تؤكد على ضرورة تحقيق التعاون بين أفراد المجتمع، كما توصلت بعض الأبحاث أيضًا إلى حدوث تغييرات جذرية في سلوكيات المستهلكين أثناء الوباء شملت زيادة الوعي بعادات الإنفاق خاصةً فيما يتعلق بمدى مراعاة العلامات التجارية لمعايير الاستدامة والجودة، وإعادة ترتيب أولويات القيمة والولاء للعلامات التجارية، وزيادة الرغبة في دعم الشركات التي تسهم في اقتصاد الرعاية، فضلًا عن ظهور اقتصاد “العمل من المنزل” (Homebody economy)أو مفهوم “افعلها بنفسك”(DIY).
على الرغم من أن الوباء أظهر أن تراجع النمو قد يحدث في يومٍ من الأيام وأن الظروف قد تمهد الطريق للسياسات التي تعطي الأولوية للصحة والرفاهية، فإن “الوضع الطبيعي الجديد” (New normal)بعد الوباء لم يشهد سوى تغير طفيف جدًا في هذا الصدد وظل دعاة تراجع النمو أقلية. علاوةً على ذلك، رفض العديد من النقاد المنطق العام وراء تراجع النمو معللين ذلك بأنه على الرغم من وجود الكثير من الأدلة العلمية القاطعة التي تثبت أن النمو الاقتصادي يؤدي في الواقع إلى التدهور البيئي وأن “التنمية المستدامة” و “النمو الأخضر” و “البدائل” الأخرى لا تفعل شيئًا يذكر لعكس أو إبطاء تغير المناخ بل وحتى لا تعالج قضايا عدم المساواة الاجتماعية، فإن تراجع النمو لا يزال يُعتبر حلًا غير واقعي، كما أن أولئك الذين يؤمنون بإمكانات تراجع النمو يفهمون مدى افتقاره إلى الجاذبية السياسية مع الأخذ في الاعتبار مدى صعوبة تخيل الشكل الذي سيبدو عليه عند ممارسته فعليًا.
يبدو أنه يكفي لتراجع النمو إظهار العلاقة بين النمو الاقتصادي وتغير المناخ، ومع ذلك يواجه هذا الموقف انتقادات عديدة تستشهد بأنه تم التغلب على القضايا البيئية في الماضي من خلال تطوير التقنيات والتخطيط البيئي، لذا، يحتاج مفهوم تراجع النمو إلى وضع إستراتيجية أوضح بشأن ما قد يعنيه بالنسبة للعمال والتكنولوجيا التي أصبحت عنصرًا حاسمًا في وضع الحلول الحديثة للعديد من القضايا المعاصرة بما فيها تغير المناخ. كما جادل البعض أيضًا بأن انتقادات النمو قد يكون لها تأثير أكبر على المستوى السياسي من خلال الجمع بشكلٍ أكثر فعالية بين قضايا عدم المساواة وإعادة التوزيع في خطاباتهم بدلًا من التركيز فقط على قضايا البيئة أو تحسين جودة الحياة.
هناك العديد من العوائق التي تحول دون وصول حركة تراجع النمو إلى مستوى السياسة، ولكن من بين هذه الحواجز أحد مبادئ الحركة ذاتها القائل بأن تراجع النمو يجب أن يبدأ من أسفل إلى أعلى وأنه لا يمكن تطبيقه بصرامة من أعلى إلى أسفل، وهذا يعني أن الافتقار إلى الديمقراطية أو الوصول إلى صنع القرار السياسي هو عائق آخر أمام تقدم الحركة وهذا هو الواقع بالفعل في كثيرٍ من البلدان حول العالم.
في حين أن هناك بالتأكيد العديد من الانتقادات الصحيحة لمفهوم تراجع النمو، فإن البعض الآخر قائم بشكلٍ كبير على فكرة أن النمو الاقتصادي هو النموذج الوحيد لخلق فرص العمل، وبالتالي هو الطريقة الوحيدة التي يمكن للناس أن يعيشوا بها. وعلى طريقة أن التوجهات السياسية الصحيحة تضيع بين الحقائق والخطب الرنانة، فإن مثل هذه الانتقادات غالبًا ما تنحي جانبًا ما قد يكون مفاهيم أو أيديولوجيات مفيدة للمجتمع من خلال وصفها بأنها “راديكالية” و “غير واقعية”. وقد حدث ذلك بالفعل على مدار عقودٍ من الزمان مع قضية تغير المناخ التي تطلبت جهدًا هائلًا من العلماء وخبراء البيئة لإقناع صانعي القرار بأخذها على محمل الجد، ومع ذلك لا يزال السياسيون حتى يومنا هذا يميلون إلى التعامل السطحي معها مما يؤدي إلى وضع سياسات تعالج الأعراض فقط وليس الأسباب الجذرية.
ختامًا، ينبغي أن نستمر في دراسة أسباب وعواقب تراجع النمو لأن خطر رفضه قد يكون ضخمًا وسيكون لتغير المناخ آثار أكثر ضررًا من الوباء، ناهيك عن أنه من المحتمل جدًا أن يؤدي إلى انتشار المزيد من الأمراض والأوبئة. وعلى الرغم من أن العديد من الشركات والحكومات والمجتمعات تمكنت من التكيف مع الوضع الحالي، يمكننا أن نتساءل عن كيف سيكون الوضع إذا كان نظامنا لا يعتمد على السعي فقط لتحقيق نمو اقتصادي لا نهاية له؟ وماذا لو تمكنا من الازدهار في ظل تراجع النمو؟
Turiel, A. (2017, October 10). What happened when degrowth was discussed in the Catalan Parliament? Retrieved March 1, 2023, from https://www.resilience.org/stories/2017-10-10/when-degrowth-was-discussed-in-the-catalan-parliament/
Demaria, F. (2017, November 17). When degrowth enters the Parliament. Retrieved February 28, 2023, from https://theecologist.org/2017/jan/16/when-degrowth-enters-parliament
Beyond Growth 2023 Conference 15-17 May 2023. EU Beyond Growth 2023 Conference. (n.d.). Retrieved February 28, 2023, from https://www.beyond-growth-2023.eu/
Fitzpatrick, N. et al. (2022, June 19). Exploring degrowth policy proposals: A systematic mapping with thematic synthesis. Retrieved February 25, 2023, from https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0959652622023629?via%3Dihub
Hickel, J., et al. (2022, December 12). Degrowth can work – here’s how science can help. Retrieved March 1, 2023, from https://www.nature.com/articles/d41586-022-04412-x
Barlow, N. et al. (2020, June 17). A degrowth perspective on the coronavirus crisis. Retrieved March 1, 2023, from https://www.ojs.unito.it/index.php/visions/article/view/5280
Schmelzer, M. et al. (2022, September 14). The Case for Degrowth. Retrieved February 28, 2023, from https://www.versobooks.com/blogs/5417-the-case-for-degrowth
Dartnell, L., & Kish, K. (2021, May 25). Do responses to the COVID-19 pandemic anticipate a long-lasting shift towards peer-to-peer production or degrowth? Retrieved February 27, 2023, from https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S2352550921001652
IPBES. (2022, December 12). Ipbes values assessment – decisions based on narrow set of market values of nature underpin the Global Biodiversity Crisis. Retrieved February 28, 2023, from https://www.ipbes.net/media_release/Values_Assessment_Published
Horowitz, J. (2022, November 15). Degrowth: A dangerous idea or the answer to the world’s biggest crisis? | CNN business. Retrieved January 29, 2023, from https://edition.cnn.com/2022/11/13/economy/degrowth-climate-cop27/index.html
Elvander, J. (2023, January 08). Degrowth is not the answer to climate change. Retrieved February 25, 2023, from https://jacobin.com/2023/01/against-degrowth-eco-modernism-socialist-planning-green-economy
Rivera, M. (2017, September 28). Growth in Parliament: Some notes on the persistence of a dogma. Retrieved February 26, 2023, from https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0016328717301842
تعليقات