في ظلّ تصاعد موجة الحماس إزاء الذكاء الاصطناعي (AI) يوماً بعد آخر، تتنامى في الوقت نفسه الهواجس المرتبطة بتداعياته المحتملة على أسواق العمل واستقرار المجتمعات. وتشير دراسات متعددة إلى أن الأتمتة الكاملة قد تفضي إلى خلخلة البنى الاقتصادية وإرباك المنظومات السياسية. ورغم وجاهة هذه المخاوف وأهميتها، فإن من الأجدر التذكير بأن الذكاء الاصطناعي، كغيره من التحولات التكنولوجية الكبرى، يُجسّد مجالاً مزدوج الأبعاد: فهو يثير القلق من مخاطره بقدر ما يفتح آفاقاً رحبة لفرصه.
إن استدامة المجتمعات المستقرة مرهونة بفاعلية قوة العمل فيها؛ فإلغاؤها كلياً يتناقض مع أبسط مبادئ الاقتصاد مثل العرض والطلب، ويقوّض أسس الاستقرار السياسي التي تقوم على صلابة الطبقة الوسطى وتماسكها. وتُبرز هذه الحقائق البنيوية أن الذكاء الاصطناعي لن يفضي إلى اندثار العمل البشري بصورة مطلقة، بل سيُدمج، سواء عبر مسارات تلقائية أو من خلال سياسات واعية، في أنماط من شأنها الحفاظ على التوازن الاجتماعي والاقتصادي. ومن هذا المنظور، يغدو المستقبل الذي يرسمه الذكاء الاصطناعي أقل قتامة بكثير مما يتوجس منه البعض.
لا يزال مدى التأثير الذي قد تمارسه تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، ولا سيما أدوات وأنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي، على أسواق العمل موضع نقاش لم يُحسم بعد. فالسيناريوهات المطروحة تتدرج بين إحلال بعض الوظائف بشكل مباشر، أو الارتقاء بالعمل البشري عبر تمكين الموظفين من التركيز على المهام الأعلى قيمة، وصولاً إلى استحداث أنماط جديدة كلياً من فرص التوظيف.
وبالنظر إلى أن إدماج تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدم يجري في المقام الأول عبر التطبيقات المؤسسية، فمن المرجح أن تكون الشركات الكبرى في طليعة الجهات المتبنية له، بما ينعكس على شريحة واسعة من قوة العمل. وتشير تقديرات مؤسسة Goldman Sachs إلى أن ما يقارب ثلثي الوظائف القائمة حالياً معرّضة بدرجات متفاوتة لأتمتة يقودها الذكاء الاصطناعي، مع احتمال أن يستبدل الذكاء الاصطناعي التوليدي بما يصل إلى ربع حجم العمل القائم. وبالمثل، يتوقع معهد McKinsey Global أن تمثل الأتمتة ما نسبته نحو 29.5% من إجمالي ساعات العمل بحلول عام 2030.
وعلى المدى الأبعد، يُنتظر أن يتجاوز الذكاء الاصطناعي العام (AGI) القدرات البشرية في معظم المهن المكتبية، وهو ما قد يسهم في تسريع معدلات النمو الاقتصادي بوتيرة غير مسبوقة، مع إمكانية رفع الناتج المحلي الإجمالي العالمي السنوي بنسبة تتراوح بين 20–30% أو أكثر. بل إن أكثر التقديرات طموحاً تشير إلى أنه مع تطور قدرات الذكاء الاصطناعي العام، قد يصبح جزء كبير من الناتج الاقتصادي العالمي قابلاً للأتمتة الكاملة.
ويتنبأ مشروع مستقبل الذكاء الاصطناعي (AI Futures Project) بأنه بحلول أواخر عام 2027 ستتمكن المختبرات شبه المؤتمتة بالكامل من إجراء أبحاث علمية مستقلة، في نقلة نوعية غير مسبوقة على صعيد إنتاج المعرفة. وبالمثل، صرّح سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، بأن أنظمة الذكاء الاصطناعي قد تبدأ في توليد “رؤى معرفية جديدة” في وقت مبكر من العام المقبل. وإن صحّت هذه التوقعات، فإن اقترانها بأتمتة كاملة واستبدال اليد العاملة البشرية بآلات يُعتقد أنها أشد ذكاءً، قد يدفع شريحة واسعة من السكان إلى أوضاع بالغة الهشاشة والخطر.
لقد أضحت التداعيات الاقتصادية الكبرى للذكاء الاصطناعي محوراً رئيسياً في النقاشات السياسية والبحثية على السواء. فوفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، يُتوقع أن يُحدث الذكاء الاصطناعي تحولاً عميقاً في هيكل الاقتصاد العالمي، إذ يُعرّض نحو 33% من الوظائف في الاقتصادات المتقدمة، و24% في الأسواق الناشئة، و18% في الدول منخفضة الدخل لمخاطر حقيقية. ومع ذلك، فإن هذه التحديات تقترن بآفاق رحبة، حيث يتيح الذكاء الاصطناعي إمكانات معتبرة لتعزيز إنتاجية الوظائف القائمة عبر اضطلاعه بدور أداة مساندة، فضلاً عن إسهامه في خلق أنماط جديدة من فرص العمل، بل وفي الدفع باتجاه نشوء صناعات جديدة كلياً.
لا ينبغي التعامل مع التشاؤم المفرط باعتباره مسلَّمة عند تقييم مستقبل الذكاء الاصطناعي وانعكاساته على البشرية، وبوجه خاص على الاستقرارين الاقتصادي والسياسي. إن الدعوة إلى الحذر من الانغماس في التصورات القاتمة تستند إلى مرتكزين أساسيين. أولاً، إن قانون العرض والطلب في علم الاقتصاد يفرض وجود مستهلكين يشترون السلع والخدمات؛ إذ إن غيابهم يجعل وفرة الإنتاج بلا معنى.
ثانياً، إن وجود طبقة وسطى متماسكة يُعد شرطاً جوهرياً لتحقيق الاستقرار السياسي والحفاظ على التوازن الاجتماعي والسياسي معاً.
وفي جوهر الأمر، لا يمكن للاقتصادات أن تعمل في غياب عنصر الندرة؛ فإذا ما ألغى الذكاء الاصطناعي العمل البشري كلياً، فلن يقتصر الأمر على خفض التكاليف، بل سيمتد ليقوّض الغاية والفاعلية الإنسانية ذاتها. فما الذي سيحدث حين لا يعود البشر ضروريين في عملية إنتاج القيمة؟ وكيف يمكن صون معنى الوجود حين لا تعود المعرفة أو الذكاء سلعة نادرة؟ إن البنية الاقتصادية تقوم على وجود مستهلكين ومنتجين في آن واحد. لكن إذا انتفت الحاجة إلى العمل، فمن الذي سيعمل، ويجني الأجور، ويستهلك في نهاية المطاف؟ وإذا ما انحصر الاستهلاك في نطاق نخبة محدودة تمتلك رأس المال، فإن الآليات الجوهرية التي تقوم عليها الحركة الاقتصادية ستجد نفسها مهددة بالانهيار.
في سيناريو تحل فيه الوكلاء الذكية محل جزء كبير من العمل البشري، سيكون لزاماً على الاقتصاد أن يعمل وفق آليات لا تقتصر على إنتاج السلع والخدمات، بل تمتد أيضاً إلى خلق فرص عمل جديدة للفئات الأقل حظاً. وفي الواقع، قد يقود توظيف الذكاء الاصطناعي في بعض الحالات إلى توليد وظائف مستحدثة. وتشير أبحاث حديثة إلى أن الشركات التي تستثمر في الذكاء الاصطناعي تميل إلى إعادة تشكيل قواها العاملة نحو مستويات أعلى من التأهيل، مع تركيز متزايد على خريجي تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM).
وعلاوة على تعزيز الطلب على المهارات العلمية والتقنية، يُتوقع أن يسهم إدماج الذكاء الاصطناعي كذلك في رفع الطلب على المهارات الشخصية، ولا سيما في المهن التي تتطلب قدراً مرتفعاً من الذكاء العاطفي. ويمكن الاستدلال على ذلك بأنماط إنفاق الأثرياء في الوقت الراهن، حيث يوجّهون استثماراتهم نحو خدمات عصية على الأتمتة، بدءاً من المطاعم الراقية وصولاً إلى رعاية الأطفال. وتظل مثل هذه الوظائف قادرة على فرض أجور مرتفعة تحديداً لأنها غير قابلة للاستبدال.
وبهذا المعنى، فإن “اليد الخفية” التي طالما نظّمت الأسواق التنافسية ستواصل أداء دورها في تعزيز نشوء قاعدة جديدة من المستهلكين. وفي هذا السياق، سيعمل الاقتصاد على إنتاج طبقة اجتماعية يُنتظر منها الاستهلاك للحفاظ على دوران عجلة النشاط الاقتصادي. غير أن الاستهلاك يقتضي أجوراً، والأجور لا تتحقق إلا بالعمل، ما يعني أن الحاجة إلى العمال ستبقى قائمة لضمان استمرار التوازن الاقتصادي والاجتماعي على حد سواء.
وعلاوة على ذلك، ولحسن الحظ، فإن الاقتصاد ليس اللاعب الوحيد في الميدان؛ إذ تؤدي السياسة دوراً حاسماً لا يقل أهمية. فحتى في حال عجز الاقتصاد عن إنتاج طبقة وسطى جديدة قادرة على استهلاك فائض السلع والخدمات التي يولّدها الذكاء الاصطناعي، ستجد النخب نفسها مضطرة إلى استحداثها. ذلك أن النخب السياسية ستدرك ـ بل يتعيّن عليها أن تدرك ـ أن التوازن السياسي لا يمكن أن يستمر في ظل مظالم اقتصادية عميقة تنشأ عن الأتمتة الكاملة للعمل. ومن ثمّ، سيُصار إلى تشكيل طبقة وسطى جديدة عبر سياسات متعمدة، لتستهلك المنتجات وتضمن استقرار المجتمع.
هذه الطبقة لن تمتلك من الثروة ما يتيح لها منافسة مالكي رأس المال، غير أنها ستظل في موقع آمن يمنعها من تهديد استقرار النظام السياسي الذي تفرضه المعادلة الاقتصادية الجديدة. وباختصار، فإن بروز هذه الطبقة وإدارتها سيكونان نتاجاً لإرغامات مزدوجة: اقتصادية وسياسية في آن واحد.
ومن الأهمية بمكان النظر في بُعد آخر يتمثل في الحدود الجوهرية لقدرات الذكاء الاصطناعي على إحلال الإنسان إحلالاً تاماً. فهل بوسع هذه التكنولوجيا أن تبلغ فعلاً مستوى الذكاء الاصطناعي الفائق (ASI) المطلوب لإحداث مثل هذا التحول الجذري؟ على سبيل المثال، تعرّض GPT-5 لانتقادات بسبب عجزه عن أداء مهام بسيطة، كعدّ عدد حروف “B” في كلمة blueberry. ورغم أن سام ألتمان وصفه بأنه “خبير بدرجة دكتوراه في جيبك”، فإن الأدلة تشير إلى أن وتيرة التقدم قد بدأت بالفعل في التباطؤ، مع تراجع في المكاسب المحققة، واحتمال اتساع الفواصل الزمنية بين الطفرات النوعية الحقيقية.
ففي عام 2024، كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي قادرة على تنفيذ التعليمات المحددة، مثل تحويل النقاط الموجزة إلى رسائل بريد إلكتروني مكتملة الصياغة، أو تحويل الأوامر البسيطة إلى شيفرات برمجية قابلة للتنفيذ. أما بحلول عام 2025، فقد تطورت هذه الأنظمة لتعمل على نحو أقرب إلى الموظفين الفعليين؛ إذ باتت أنظمة الذكاء الاصطناعي الموجَّهة للبرمجة أشبه بوكلاء مستقلين أكثر منها مساعدين سلبيين، تتلقى التعليمات عبر منصات مثل Slack أو Teams، وتقوم بتنفيذ تغييرات برمجية واسعة النطاق بشكل مستقل، بما يوفر في كثير من الأحيان ساعات أو حتى أياماً من العمل.
وبالمثل، أصبح بإمكان الوكلاء البحثيين قضاء فترات ممتدة ـ تصل إلى نصف ساعة ـ في تصفح الإنترنت لتقديم إجابات عن أسئلة معقدة. ورغم أن هذه القدرات تبدو لافتة من الناحية النظرية أو في أمثلة منتقاة بعناية، فإنها ما زالت تعاني قدراً كبيراً من عدم الموثوقية عند التطبيق العملي. ولا تخلو منصات التواصل الاجتماعي من قصص طريفة عن مهام أُنجزت على نحو هزلي أو خاطئ. وإلى جانب ذلك، فإن أكثر هذه الوكلاء تقدماً ما تزال تكلفتها مرتفعة بشكل ملحوظ.
وعند مناقشة كلفة تقنيات الذكاء الاصطناعي وإمكانية الوصول إليها، من المهم الإقرار بأن تبنيها قد يواجه عقبات ناجمة عن ندرة الموارد، وعلى رأسها الطاقة. فالذكاء الاصطناعي يعتمد اعتماداً كثيفاً على الكهرباء لتشغيل مراكز البيانات التي تمكِّن عملياته من الاستمرار، وهو ما يثير تساؤلات جوهرية حول استدامته في ظل القيود المتزايدة على الموارد.
إن هذا الطلب المتزايد يفرض ضغوطاً هائلة على شبكات الطاقة العالمية. فبحسب تقديرات منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، استهلكت مراكز البيانات حول العالم ما يصل إلى 500 تيراواط/ساعة من الكهرباء في عام 2023، أي ما يزيد على ضعفي المعدلات السنوية المسجَّلة بين عامي 2015 و2019. وتتوقع المنظمة أن يتضاعف هذا الرقم ثلاث مرات ليبلغ نحو 1,500 تيراواط/ساعة بحلول عام 2030. وعند بلوغ هذا المستوى، سيصبح استهلاك الكهرباء من قبل مراكز البيانات وحدها، والذي يوازي بالفعل حجم استهلاك دول صناعية كبرى مثل ألمانيا أو فرنسا، منافساً لمستويات استهلاك الهند، التي تُعد في الوقت الراهن ثالث أكبر مستهلك للكهرباء في العالم.
ومع ذلك، فإن الضجة المثارة حول الذكاء الاصطناعي وتأثيراته الواسعة ليست بلا أساس. فمن المنطقي تماماً التعامل معه بقدر من الحذر، مع الاعتراف في الوقت ذاته بكونه تكنولوجيا تحويلية تحمل تداعيات بعيدة المدى على البنى الاقتصادية والسياسية. غير أن الأهم يتمثل في تجنّب الافتراض بأن أسوأ السيناريوهات حتمية الوقوع؛ إذ تكمن أهمية الذكاء الاصطناعي في قدرته على إعادة تشكيل طرائق عمل النظم الاقتصادية والسياسية القائمة. وهذا التحول لا يعني بالضرورة بلوغ الأتمتة الكاملة، أو اندثار العمالة البشرية، أو تآكل الطبقة الوسطى، بل يُرجَّح أن يكون أعمق وأكثر تأثيراً، بحيث يمسّ الأسس الجوهرية لهذه البنى. وإن مثل هذا التحول سيتطلب إما تكيفاً طبيعياً للاقتصاد يسمح له بتنظيم ذاته، أو تدخلاً واعياً من جانب النخب لضمان الحفاظ على الاستقرارين السياسي والاجتماعي.
“AI 2027.” Accessed April 3, 2025. AI 2027. https://ai-2027.com/.
“Artificial General Intelligence (AGI) to Lift Annual GDP by 20–30 Percent.” The Economist, July 24, 2025. https://www.economist.com/briefing/2025/07/24/what-if-ai-made-the-worlds-economic-growth-explode
“Mapping the World’s Readiness for Artificial Intelligence Shows Prospects Diverge.” IMF Blog, June 25, 2024. International Monetary Fund. https://www.imf.org/en/Blogs/Articles/2024/06/25/mapping-the-worlds-readiness-for-artificial-intelligence-shows-prospects-diverge.
“AI Needs More Abundant Power Supplies to Keep Driving Economic Growth.” IMF Blog, May 13, 2025. International Monetary Fund. https://www.imf.org/en/Blogs/Articles/2025/05/13/ai-needs-more-abundant-power-supplies-to-keep-driving-economic-growth.
“AI Will Transform the Global Economy. Let’s Make Sure It Benefits Humanity.” IMF Blog, January 14, 2024. International Monetary Fund. https://www.imf.org/en/Blogs/Articles/2024/01/14/ai-will-transform-the-global-economy-lets-make-sure-it-benefits-humanity.
“The Economics of Superintelligence.” The Economist, July 24, 2025. https://www.economist.com/leaders/2025/07/24/the-economics-of-superintelligence
Khattar, Rose. “Will AI Benefit or Harm Workers?” Center for American Progress, August 24, 2023. https://www.americanprogress.org/article/will-ai-benefit-or-harm-workers/#:~:text=Conclusion,Emily%20Gee%20for%20their%20assistance.
تعليقات