كتب بواسطة

مثلت قدرة البشرية على إنشاء هياكل دائمة جزءًا أساسيًا من الحضارة على مدى آلاف السنين، كما كانت ضرورية للإسهام في تحويلنا من جماعات بدائية إلى شعوب مستقرة. وعندما استقرت مجموعات من الناس في مكان واحد، كان علينا تطوير أساليب وتقنيات الإنشاءات لتعزيز تنمية مجتمعاتنا، وقد أدت قدرتنا على تطوير أساليب الإنشاءات إلى تصميم هياكل تلهم البشرية وتستمر في تجاوز حدود ما نعتقد أنه ممكن.

   

مع ذلك، كان قطاع البناء في الآونة الأخيرة بطيئًا في تبني الابتكارات الجديدة التي ساعدت على إحداث ثورة في القطاعات الأخرى، في الوقت الذي من المتوقع فيه أن هناك حاجة إلى بناء 300 مليون منزلاً جديدًا بحلول عام 2030؛ وحقيقة أن الأنشطة المتعلقة بالبناء أسهمت بنسبة 37% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية في عام 2021، لذا فمن الأهمية بمكان اعتماد تقنيات جديدة من شأنها زيادة الكفاءة وتقليل الانبعاثات؛ ومن ثم جاء الترويج للطباعة ثلاثية الأبعاد كحل لمجابهة المشاكل التي تعتري قطاع الإنشاءات.

ما المقصود بالطباعة ثلاثية الأبعاد؟

لا تعتبر تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد في حد ذاتها تقنية جديدة أو مستحدثة بأي حال من الأحوال، بل موجودة منذ الثمانينيات على الأقل. في الأساس، يتم إنشاء نموذج رقمي من خلال استخدام برنامج التصميم بمساعدة الحاسوب (CAD)، ثم يُرسل إلى طابعة ثلاثية الأبعاد تضع بدورها المادة في طبقات حتى يُشكل العنصر المطلوب. وازدهرت الطباعة ثلاثية الأبعاد مؤخرًا وأصبحت الطابعات ثلاثية الأبعاد في متناول رجال الأعمال والباحثين والمستهلكين المنزليين بشكلٍ أكبر؛ وكانت تكلفة شراء طابعة ثلاثية الأبعاد تبلغ 300 ألف دولار أمريكي في عام 1987، بينما يمكن شراؤها الآن بحوالي 150 دولارًا أمريكيًا فقط.

 

ساهمت زيادة إمكانية الوصول إلى التقنية في توسيع نطاق المواد المستخدمة، فلم تعد مقتصرة على البوليمرات بل اتسع نطاقها لتشمل المعادن والسيراميك والمواد البيولوجية. ومع استخدام مواد جديدة، استخدمت قطاعات جديدة الطباعة ثلاثية الأبعاد، مما ساهم في توسع نطاق التطبيقات، فاستُخدمت الطابعات ثلاثية الأبعاد في إنتاج الشوكولاتة، كما استُخدمت في عام 2018 في طباعة شريحة من الخضروات خالية من اللحوم. وأيضًا، استُخدمت بعض القطع المطبوعة ثلاثية الأبعاد في الطائرات والمروحيات منذ عام 2015 على الأقل، حيث أشادت شركتا بوينج وجنرال إلكتريك بالتقنية نظرًا لمساهمتها في تبسيط سلاسل الإمداد. كما استُخدمت في القطاع الطبي في رسم خطط العمليات الجراحية وإنشاء الأطراف الصناعية والغرسات وحتى إنتاج الأدوية. ليس من الغريب إذن أن تشق الطباعة ثلاثية الأبعاد طريقها إلى قطاع الإنشاءات أيضًا.

الوضع الحالي لاستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد في أعمال الإنشاءات:

كما أوضحنا آنفًا، كان قطاع الإنشاءات بطيئًا في تبني الابتكارات في مجال التشييد والبناء، ولكن خلال السنوات الماضية الأخيرة تزايد استخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد في أعمال الإنشاءات. وتجادل شركات الطباعة ثلاثية الأبعاد أنه من الصعب تجاهل الخصائص التي تتمتع بها الطباعة ثلاثية الأبعاد حيث يمكنها تشييد مبانٍ كاملة في غضون أيام، وليس أشهر أو حتى سنوات كما هو الحال عند استخدام طرق الإنشاء التقليدية، وقد يؤدي تقليل الوقت المستغرق في الإنشاءات إلى تحقيق وفورات كبيرة في التكاليف وخفض تكاليف العمالة. ويساعد استخدام برنامج التصميم بمساعدة الحاسوب في الطباعة ثلاثية الأبعاد على جعلها أكثر دقة، مما يوفر مستويات أعلى من الدقة والاتساق، كما يساعد في خفض نسبة نفايات المواد حيث تُستخدم الكمية المحددة فقط من المواد المطلوبة. وأخيرًا، قد تساعد هذه التقنية في تحقيق الاستدامة حيث يمكن استخدام المواد المُعاد تدويرها، كما يمكن للطابعة ثلاثية الأبعاد استخدام الكمية المحددة فقط من المواد اللازمة لإنشاء مكون معين، بدلاً من توليد مخلفات من المواد الزائدة.

 

تسمح القدرة المُتصورة للطباعة ثلاثية الأبعاد في معالجة غالبية العقبات التي يواجهها القطاع من خلال التنفيذ على نطاقات أكبر. ولم تعد تُستخدم الطابعات ثلاثية الأبعاد في إنشاء “أول منزل مطبوع ثلاثي الأبعاد” أو “أكبر منزل مطبوع ثلاثي الأبعاد” بل تُستخدم الآن في مشاريع سكنية واسعة النطاق، وقد أبدت الحكومات اهتمامًا خاصًا حيث أعلنت حكومة دبي عن إستراتيجية دبي للطباعة ثلاثية الأبعاد في عام 2016 مع أحد القطاعات الرئيسية الثلاثة المتمثل في البناء، وهدفها الرئيسي هو أن يكون 25% من حجم المباني في دبي قائم بالأساس على تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد بحلول عام 2030.

 

 

قيود استخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد في أعمال الإنشاءات

على الرغم من جميع الفوائد التي يتم تسويقها للطباعة ثلاثية الأبعاد، إلا أن هناك قيود كبيرة يجب وضعها في الاعتبار. تعتبر المواد المستخدمة في الطابعات ثلاثية الأبعاد ذات أهمية أكبر، فعلى الرغم من وصفها بأنها أكثر استدامة من طرق البناء التقليدية، من شبه المؤكد الاستمرار في استخدام الخرسانة كمواد بناء أساسية. في الحقيقة، توجد حالات لاستخدام مواد مختلفة كما هو الحال في إيطاليا، حيث استُخدم الطين محلي المصدر في طباعة أحد المنازل، ومع ذلك، لم تثبت حتى الآن إمكانية إنتاج هذا النوع من المنازل على نطاق واسع.

 

يقودنا ذلك إلى أحد القيود المهمة الأخرى لاستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد في أعمال الإنشاءات؛ حيث ثبت أن جزءًا كبيرًا من المشاريع التي أُنشئت باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد كانت بمثابة اختبارات. وعلى الرغم من وجود مخططات لإنشاء مشاريع إسكان كبيرة باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد بشكل أساسي، فإنها تقتصر في الغالب على أوروبا والولايات المتحدة، حيث يشكل ارتفاع تكاليف العمالة عائقًا أمام الإسكان ميسور التكلفة، مما يتطلب استخدام حلول بديلة لخفض التكاليف. ومع ذلك، يبقى أن نرى ما إذا كانت الطباعة ثلاثية الأبعاد ستظل تمثل حلاً عمليًا في الأجزاء الكثيرة من العالم التي من المقرر بناء أغلبية المنازل الجديدة بها والتي تعتبر تكاليف العمالة فيها أقل من تكاليف استيراد طابعة ثلاثية الأبعاد. وقد تكون تكلفة الطابعات ثلاثية الأبعاد والمعدات المرتبطة بها باهظة الثمن بالنسبة للعديد من شركات الإنشاءات، وخاصة الشركات الصغيرة، مما يجعل من الصعب تبرير الاستثمار بها.
ويمثل حجم الطابعات ثلاثية الأبعاد قيدًا آخر، ففي حين تزايد استخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد في السنوات الأخيرة، إلا أنها لا تزال محدودة الحجم. وقد يجعل هذا القيد من الصعب طباعة مكونات بناء أكبر حجمًا، وقد يكون من الضروري طباعة المكونات في قطع أصغر حجمًا وتجميعها في الموقع.

 

أخيرًا، على الرغم مما قيل عن الطباعة ثلاثية الأبعاد من قدرتها على طباعة منازل بأكملها، فإن الحقيقة هي أن الطابعات قد استُخدمت لأغراض إنشاء الجدران فقط، وتم تركيب بقية أجزاء المنزل كأنظمة الكهرباء والسباكة والتدفئة يدويًا بواسطة عمال البناء

قد تكون الطريقة المتبعة في تسويق الطباعة ثلاثية الأبعاد كحل لأزمة الإسكان العالمية ضارة بمستقبلها، لأنها في وضعها الحالي لا تمثل حلاً بأي حال من الأحوال، وقد يؤدي عدم قدرة الطباعة ثلاثية الأبعاد على الوفاء بوعودها إلى إبطاء دمجها في قطاع الإنشاءات، وهذا أمر مخزٍ لأن الطباعة ثلاثية الأبعاد تعتبر صناعة واعدة، كما أن دمجها في قطاع الإنشاءات قد يساعد في تقليل وقت وتكلفة الإنشاءات والأثر البيئي له مع زيادة الدقة والتخصيص.

 

علاوةً على ذلك، يجب إجراء حوار أوسع حول الأتمتة والطباعة ثلاثية الأبعاد، وذلك لأن هذه التقنية تهدف في المقام الأول إلى خفض تكاليف العمالة مما يعني أنه في حال ثبوت جدواها وتبنيها على نطاق أوسع، سيؤدي ذلك إلى حدوث خسارة كبيرة في الوظائف نتيجة استبدال عمال الإنشاءات بفرق أصغر من الفنيين. ورغم ذلك، لن يكون هذا التأثير سلبياً بالضرورة في جميع أنحاء العالم حيث إن البلدان التي تعتمد على أعداد كبيرة من المهاجرين في العمل قد تفضل استخدام التكنولوجيا بدلاً من الاعتماد على المهاجرين.

 

مما يدعونا، نظرًا للوضع الحالي لاستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد في أعمال الإنشاء، لطرح السؤال التالي: “يمكنك استخدام طابعة ثلاثية الأبعاد في تشييد منزل، لكن لماذا ستفعل ذلك؟”

المراجع:

“2022 Global Status Report for Buildings and Construction.” UN Environment Programme , November 9, 2022. https://www.unep.org/resources/publication/2022-global-status-report-buildings-and-construction

 

“Dubai 3D Printing Strategy.” The United Arab Emirates’ Government, n.d. https://u.ae/en/about-the-uae/strategies-initiatives-and-awards/strategies-plans-and-visions/industry-science-and-technology/dubai-3d-printing-strategy

 

Monroe, Rachel. “Can 3-D Printing Help Solve the Housing Crisis?” The New Yorker, January 16, 2023. https://www.newyorker.com/magazine/2023/01/23/can-3-d-printing-help-solve-the-housing-crisis

 

“The Rise of 3D-Printed Houses.” The Economist, August 18, 2021. https://www.economist.com/science-and-technology/the-rise-of-3d-printed-houses/21803667

 

Wangler, Timothy, Nicolas Roussel, Freek P. Bos, Theo A.M. Salet, and Robert J. Flatt. “Digital Concrete: A Review.” Cement and Concrete Research 123 (2019): 105780. https://doi.org/10.1016/j.cemconres.2019.105780

 

“What Is Medical 3D Printing-and How Is It Regulated?” The Pew Charitable Trusts, October 5, 2020. https://www.pewtrusts.org/en/research-and-analysis/issue-briefs/2020/10/what-is-medical-3d-printing-and-how-is-it-regulated

 

Zelinski, Peter. “GE Team Secretly Printed a Helicopter Engine, Replacing 900 Parts with 16.” Additive Manufacturing, September 30, 2020. https://www.additivemanufacturing.media/articles/ge-team-secretly-printed-a-helicopter-engine-replacing-900-parts-with-16

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *