كتب بواسطة

لا يقتصر تعيين اللواء إيال زامير على رأس الجيش الإسرائيلي، والذي تولى منصبه رسميًا في 6 مارس، على كونه تغييرًا روتينيًا في القيادة العسكرية، بل يحمل في طياته احتمالات إعادة ضبط استراتيجية التفكير العسكري الإسرائيلي، استجابةً للتهديدات المتجددة ولمعالجة الثغرات العقائدية التي يُعتقد أنها تؤثر على أداء الجيش. يحظى زامير بدعم واسع في المشهد السياسي الإسرائيلي، حيث يُنظر إليه باعتباره القائد الأنسب لهذه المرحلة المضطربة، إلا أن التحديات التي تنتظره معقدة وشائكة. فمن جهة، يُكلَّفُ بإعادة إحياء جيش يوصف بأنه يعاني من تراجع الأداء، ومن جهة أخرى، عليه التعامل مع بيئة سياسية قد تعرقل قراراته، فضلًا عن إدارة صراعات إقليمية محتدمة لم تُحسم بعد. ويضاف إلى ذلك الإرث العسكري المثير للجدل الذي يحمله زامير في نظر الفلسطينيين، إذ يُذكر اسمه لديهم كمسؤول عن عمليات قمعية خلال الانتفاضات الفلسطينية والعمليات العسكرية السابقة. يستكشف هذا التحليل تداعيات تعيين زامير، وما قد يحمله من تحولات في العلاقة الحساسة بين القيادة السياسية والاستقلال العسكري في إسرائيل، إضافة إلى التغيرات المحتملة في العقيدة القتالية للجيش الإسرائيلي، وانعكاسات ذلك على احتمالات اندلاع مواجهات عسكرية على عدة جبهات في المستقبل.

فك لغز تعيين زامير

يُشكّل التأييد شبه الإجماعي لتعيين إيال زامير رئيسًا لأركان الجيش الإسرائيلي، رغم الانقسامات العميقة في المشهد السياسي، ظاهرةً لافتةً للنظر. ففي دولة تُعرف بتبايناتها الداخلية الحادة، يعكس هذا الإجماع إدراكًا واسعًا لخطورة التحديات الأمنية التي تواجهها إسرائيل، إلى جانب ثقة قوية في قدرة زامير على مواجهتها. يستمد زامير مؤهلاته من دوره المحوري في صياغة العقيدة العسكرية للجيش الإسرائيلي على مدى سنوات، ما يجعل تعيينه أكثر من مجرد ترقية عسكرية روتينية، بل خطوة استراتيجية لاختيار قائد قادر على تشكيل وصقل النهج الاستراتيجي للجيش، متجاوزًا حدود الإدارة العملياتية التقليدية. تعكس خبرة زامير في تطوير العقيدة القتالية تحوّلًا في التفكير داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، حيث يزداد الوعي بضرورة الانتقال من الدفاع التفاعلي إلى التكيّف الاستراتيجي الاستباقي لمواجهة التهديدات المتغيرة. يتماشى هذا التوجه مع النقاشات الأوسع في الفكر العسكري العالمي، والتي تؤكد أهمية المرونة العقائدية في البيئات الأمنية المتسارعة التغيّر.

 

بعيدًا عن مؤهلاته العسكرية، يكشف الإصرار العلني لوزير المالية بتسلئيل سموتريتش على تعيين إيال زامير عن أبعاد سياسية واستراتيجية أعمق. فدعم سموتريتش لهذا القرار يعكس توافقًا مع رؤية استراتيجية محددة تتبناها بعض الأوساط السياسية، لا سيما تلك التي تدعو إلى نهج أكثر حزمًا وأقل تسامحًا في قضايا الأمن القومي. يفتح هذا الدعم الباب أمام تساؤلات حول التداخل المعقد بين القيادة العسكرية والأجندات السياسية في إسرائيل، حيث لا يقتصر تعيين رئيس الأركان على اعتبارات مهنية بحتة، بل يتحول أحيانًا إلى محور لنقاشات أيديولوجية واستراتيجية أوسع. يعكس هذا التوجه رغبة سياسية في اختيار قائد عسكري أكثر ميلًا إلى تبني نهج أمني صارم، وهو ما قد يُترجم إلى تفضيل الحسم العسكري السريع على الحلول الدبلوماسية في بعض السيناريوهات.

 

رغم أن تعيين إيال زامير لاقى ترحيبًا داخل إسرائيل باعتباره مصدر قوة واستقرار، إلا أن تاريخه العسكري يلقي بظلال ثقيلة في نظر الفلسطينيين. فقد كان لزامير دور بارز في قمع الانتفاضتين الفلسطينيتين، إلى جانب مشاركته المؤثرة في العمليات العسكرية الإسرائيلية في جنوب لبنان، ما يجعله شخصية مثيرة للجدل في الأوساط الفلسطينية. ولا يُنظَر إلى هذا الإرث الفلسطيني باعتباره مجرد سردية معزولة، بل يُعبر عن انعدام ثقة عميق ومتجذّر تاريخيًا تجاه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، والتي يرى الفلسطينيون أنها تنتهج سياسة القوة المفرطة في مواجهتهم.

 

إذا كان تعيين إيال زامير يُنظر إليه داخل إسرائيل كخطوة نحو تعزيز الأمن والاستقرار، فإنه بالنسبة للفلسطينيين قد يبدو إشارة إلى تشدد إضافي في السياسة الإسرائيلية وربما تصعيد متزايد في الصراع. فارتباط اسم زامير بمواجهات عسكرية عنيفة يعزز السردية الفلسطينية التي ترى في القيادة العسكرية الإسرائيلية ميلًا متزايدًا للحلول القمعية ضد المقاومة الفلسطينية، بدلًا من فتح المجال أمام المسارات الدبلوماسية. هذا الانطباع قد يُفضي إلى مزيد من التوترات، ويُعقّد بشكل كبير أي محاولات مستقبلية لـخفض التصعيد أو استئناف مفاوضات السلام، مما قد يُشكل عقبة إضافية أمام التسوية السياسية في إطار “حل الدولتين”.

السياسة والجيش الإسرائيلي: بين الشراكة والصدام

ينظر إلى العلاقة بين القيادة السياسية والجيش في إسرائيل على أنها علاقة معقّدة ومشحونة ، وهي ديناميكية متجذرة تاريخيًا ولا تزال تتخذ أشكالًا معاصرة. فلم تكن هذه التوترات ظاهرة جديدة، إذ شهدت إسرائيل عبر تاريخها لحظات احتكاك وصدام بين المستويات السياسية والعسكرية، غالبًا بسبب تباين الرؤى حول الأولويات الاستراتيجية، وحدود الاستقلال العملياتي، والدور الذي يجب أن يلعبه الجيش في المجتمع الإسرائيلي. والتلميحات الأخيرة حول إمكانية تقويض القيادة العسكرية تعكس تصاعد مستوى الشكوك أو تضارب الأجندات بين القيادة السياسية، وخصوصًا تحت إدارة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وقيادة الجيش الإسرائيلي في ظل رئاسة إيال زامير. وقد ينبع هذا التوتر من اختلافات استراتيجية جوهرية، مثل التعامل مع غزة أو إيران، أو نتيجة تدخل سياسي في عملية صنع القرار العسكري. كما قد يكون جزءًا من استراتيجية سياسية أوسع تهدف إلى تعزيز السيطرة على مؤسسات الدولة الرئيسية، بما في ذلك الجيش.

 

يمكن أن يكون لهذه العلاقة المتوترة تأثيرات كارثية على فعالية الجيش الإسرائيلي، سواء على المستوى العملياتي أو الاستراتيجي. فنجاح أي عمليات عسكرية يعتمد على وضوح تسلسل القيادة، والثقة المتبادلة بين القادة السياسيين والعسكريين، إضافةً إلى استقلالية تتيح للقيادة العسكرية اتخاذ قرارات حاسمة في الوقت المناسب، بناءً على تقييمات استراتيجية، بعيدًا عن الضغوط السياسية أو التدخلات التي قد تُعيق العمل العسكري. وإذا حدث تقويض حقيقي لصلاحيات إيال زامير، فقد تكون العواقب وخيمة، أبرزها: الاختلال في تسلسل القيادة، مما قد يؤدي إلى غموض في توجيه العمليات العسكرية، والتردد والتأخير في اتخاذ قرارات حاسمة خلال اللحظات الحرجة، وهو ما قد يضر بفاعلية الجيش في مواجهة التهديدات، وتشويه العقيدة العسكرية، بحيث تصبح خاضعة لمتطلبات سياسية آنية بدلًا من الاستناد إلى مبادئ استراتيجية بعيدة المدى. علاوة على ذلك، فإن الدور المزعوم لوزير المالية بتسلئيل سموتريتش في فرض تعيين زامير يثير مخاوف متزايدة بشأن تغلغل النفوذ السياسي الحزبي في أعلى مستويات القيادة العسكرية. فمثل هذا التأثير قد يُهدّد الطابع المهني والحيادي للجيش الإسرائيلي، مما يجعله أكثر انخراطًا في المعركة السياسية الداخلية.

 

وفقًا للنظريات الديمقراطية وأفضل الممارسات العالمية، تقوم العلاقة المثالية بين القيادة المدنية والعسكرية على الاحترام المتبادل ووضوح تقسيم الأدوار. فبينما يُناط بالقادة السياسيين تحديد الأهداف الاستراتيجية الكبرى، وصياغة سياسات الأمن القومي، وتوزيع الموارد، تقع على عاتق القادة العسكريين مسؤولية ترجمة هذه الأهداف إلى استراتيجيات عسكرية فعّالة، وخطط عملياتية، وتنفيذ تكتيكي مُحكَم. لكن في بيئات شديدة التسييس ومشحونة بالتوترات مثل إسرائيل، خاصةً في ظل التهديدات الأمنية المستمرة والانقسامات المجتمعية العميقة، يمكن أن يصبح هذا التوازن هشًا وعرضة للاختلال. وبالتالي، لن يعتمد نجاح إيال زامير فقط على كفاءته العسكرية التي لا جدال فيها، بل سيكون رهينًا بمدى براعته السياسية أيضًا. سيتعيّن على زامير إدارة العلاقة المتوترة مع التيارات السياسية المعقّدة، والعمل على تعزيز استقلالية الجيش، مع الحفاظ على علاقة وظيفية مثمرة مع القيادة السياسية، حتى في ظل حكومة تميل إلى التدخل المباشر في القرارات العسكرية.

إعادة تشكيل العقيدة العسكرية: العودة إلى الهيمنة البرية

تشير التوقعات إلى تحوّل عقائدي واضح داخل الجيش الإسرائيلي تحت قيادة إيال زامير، وهو تغيير يعكس نقطة محورية في الاستراتيجية العسكرية للجيش. فعلى مدى العقد الماضي، تبنى الجيش الإسرائيلي نهج “الجيش الصغير والذكي”، الذي ركّز على الضربات الدقيقة، والتفوق التكنولوجي، والتوغلات البرية المحدودة والمستهدفة، في سياق الحروب غير المتكافئة ضد الفاعلين من غير الدول. لكن هذه الاستراتيجية باتت موضع تشكيك متزايد داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، حيث يتشكل إجماع جديد يرى أن الجيش يجب أن يعود إلى حجمه التقليدي، مع الاعتماد على الاجتياح البري، والدبابات، والمركبات المدرعة. يمثل هذا التحوّل ابتعادًا واضحًا عن استراتيجيات مكافحة الإرهاب، لصالح تبني عقيدة عسكرية أكثر تقليدية، مشابهة لتلك التي اعتمدها الجيش الإسرائيلي تاريخيًا. ويعود هذا التغيير إلى دروس مستخلصة من الصراعات الأخيرة، لا سيما الحروب في غزة ولبنان، التي يُنظر إليها على أنها كشفت عن نقاط ضعف خطيرة في قدرات الجيش الإسرائيلي على خوض الحروب الميدانية التقليدية.

 

يمثل هذا التحوّل العقائدي إعادة توجيه استراتيجي عميق داخل الجيش الإسرائيلي، وهو اعتراف ضمني متزايد بأن القدرات القتالية غير المتكافئة، رغم فاعليتها في سياقات محددة، قد لا تكون كافية للتعامل بشكل شامل مع التحديات الأمنية المتعددة التي تواجهها إسرائيل. لقد كشفت الصراعات في غزة ولبنان عن نقاط ضعف كبيرة في القتال الميداني التقليدي، مما جعل تحقيق انتصارات عسكرية حاسمة ضد خصوم راسخين وقادرين على التكيّف، مثل “حماس” و”حزب الله”، أكثر تعقيدًا، خصوصًا في البيئات الحضرية المكتظة. ومن أبرز التحديات التي أظهرتها هذه المواجهات: صعوبة تدمير البنية التحتية للعدو بشكل كامل، رغم الضربات الجوية الدقيقة، وعدم القدرة على السيطرة على الأرض لفترات طويلة دون تكلفة بشرية واستراتيجية مرتفعة، والانتقال المحدود من المكاسب التكتيكية إلى نتائج استراتيجية دائمة عند الاعتماد فقط على أساليب قتالية غير متكافئة. لذلك، فإن التركيز المتجدد على الاجتياح البري، والدبابات، والمركبات المدرعة يشير إلى عودة محسوبة نحو عقيدة عسكرية أكثر تقليدية، تهدف إلى: إظهار قوة ساحقة في ساحات القتال، وتحقيق انتصارات ميدانية حاسمة من خلال المناورة النشطة وقوة النيران المركزة، والقدرة على احتلال أراضٍ متنازع عليها والسيطرة عليها عند الضرورة.

 

إذا تم تنفيذ هذا التحوّل العقائدي بشكل شامل، فسيترتب عليه تغييرات جذرية في الهيكل التنظيمي للجيش الإسرائيلي، ومنهجيات التدريب، وأولويات التسلُّح طويلة الأمد. لن يكون هذا مجرد تعديل استراتيجي محدود، بل إعادة هيكلة عسكرية شاملة تتطلب استثمارات ضخمة في القدرات التقليدية، مما قد يستدعي إعادة تخصيص الموارد بعيدًا عن مجالات كانت تحظى بأولوية سابقًا، مثل وحدات الحرب غير المتكافئة، والقوات المتخصصة في مكافحة الإرهاب، وعمليات الاستخبارات المصممة لمعارك منخفضة الحدة. ومن أجل إنجاح هذا التحوّل، سيتطلب الأمر إعادة هيكلة جوهرية في التدريب العسكري، بحيث يتم التركيز على: إحياء العمليات المشتركة بين مختلف الوحدات العسكرية، لتحقيق تفوق تكتيكي في المعارك واسعة النطاق، وتعزيز التكتيكات القتالية القائمة على المناورة العسكرية الكبرى، بدلًا من الاعتماد الأساسي على الضربات الدقيقة والعمليات المحدودة، وسيناريوهات قتال برية عالية الكثافة ومستدامة، تتطلب تدريب القوات على القتال طويل الأمد في بيئات معقدة، وهو ما قد يكون قد تراجع خلال العقود الماضية مع تركيز الجيش على المواجهات غير المتكافئة. ومن الناحية اللوجستية والاستراتيجية، سيتطلب هذا التحوّل إعادة توجيه استثمارات التسلُّح نحو: تطوير وشراء دبابات قتال رئيسية حديثة لتعزيز الهيمنة البرية، والاعتماد المتزايد على ناقلات الجنود المدرعة المتقدمة، لتوفير حماية أعلى للقوات في العمليات الميدانية، وتحديث أنظمة المدفعية بعيدة المدى، لتعزيز قدرات التدمير الميداني، وتعزيز منظومات الأسلحة الثقيلة التي تتناسب مع الحروب التقليدية بين الجيوش النظامية. يمثل هذا التحوّل ابتعادًا كبيرًا عن الاتجاهات السابقة في تسليح الجيش الإسرائيلي، التي ركزت بشكل أساسي على التقنيات المصممة لمكافحة التمرد وقدرات الاستهداف الدقيقة.

 

رغم أن العودة إلى الجيش “التقليدي” وعقيدة الهيمنة البرية تمثل تحولًا استراتيجيًا، إلا أنها لا تخلو من المخاطر والتحديات الجوهرية. فالحروب التقليدية، وخاصة العمليات البرية واسعة النطاق، تأتي بتكاليف باهظة، ليس فقط على الصعيد المالي، ولكن أيضًا من حيث الخسائر البشرية في صفوف الجنود والمدنيين على حد سواء. كما أن الاجتياحات البرية في بيئات حضرية مكتظة مثل غزة وجنوب لبنان تحمل مخاطر عالية بوقوع خسائر مدنية كبيرة، وهو ما قد يؤدي إلى إدانات دولية واسعة، مما يضعف الموقف الاستراتيجي لإسرائيل ويضر بعلاقاتها الخارجية. علاوة على ذلك، فإن القوات التقليدية، رغم تفوقها في القوة النارية والمناورة، قد لا تكون فعالة دائمًا في مواجهة مقاتلين غير نظاميين يتمتعون بمرونة تكتيكية عالية. وقد أثبت الخصوم الرئيسيون لإسرائيل في النزاعات الأخيرة، مثل “حماس” و”حزب الله”، قدرتهم العالية على تطوير تكتيكات قتالية غير متكافئة، تشمل حرب الأنفاق، والكمائن، واستراتيجيات القتال الحضري، مما قد يحدّ من فاعلية العمليات البرية التقليدية.

 

ويتمثل التحدي الأبرز الذي يواجهه إيال زامير في بناء عقيدة عسكرية متوازنة تدمج بين: القوة الفتاكة والمناورة السريعة التي توفرها الحروب التقليدية، والدروس المستفادة من عقود من النزاعات غير المتكافئة، لضمان قدرة الجيش على التعامل مع الخصوم غير النظاميين بفعالية. وإذا أراد زامير بناء قوة عسكرية مستقبلية قادرة على التعامل مع مشهد التهديدات المتغير في القرن الحادي والعشرين، فسيحتاج إلى تطوير نهج مرن ومتعدد الأبعاد يجمع بين: التفوق العسكري التقليدي القائم على الهيمنة البرية، والقدرة على خوض الحروب الهجينة، التي تتطلب مزيجًا من العمليات الخاصة، والمعلومات الاستخباراتية المتقدمة، والتكنولوجيا الدقيقة.

اتساع جبهات المواجهة: غزة، ولبنان، وساحة الصراع السورية

يبقى التهديد الأكثر إلحاحًا والمتوقع تكراره هو احتمالية- إن لم يكن حتمية- اندلاع جولة جديدة من القتال في قطاع غزة. فالقناعة الراسخة بأن “الحرب مع غزة لم تنتهِ بعد، وقد تُستأنف في أي لحظة” تعكس الطبيعة المستعصية للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، لا سيما فيما يتعلق بغزة، فضلًا عن النمط المأساوي المتكرر من التصعيد العنيف، يتبعه وقف إطلاق نار هش سرعان ما ينهار. ورغم سلسلة العمليات العسكرية واسعة النطاق التي شنتها إسرائيل خلال العقد ونصف العقد الماضي، لا تزال “حماس”، باعتبارها السلطة الحاكمة فعليًا في غزة، تفرض سيطرتها على القطاع. وعلى الجانب الآخر، لم تتغير العوامل الجوهرية التي تغذي استمرار الصراع، وأبرزها: الحصار الإسرائيلي المستمر على غزة، وما يترتب عليه من توترات إنسانية، والأزمة الإنسانية المتفاقمة داخل القطاع، والتي تُسهم في تأجيج الغضب الشعبي، والغموض السياسي الكامل حول الوضع النهائي للقطاع، في ظل غياب أي تسوية واضحة. وقد يكون السبب المباشر لاندلاع مواجهة جديدة: انهيار اتفاق تبادل الأسرى الهش حاليًا، مما قد يؤدي إلى ردود فعل عسكرية متبادلة، والتصعيد العسكري نتيجة تحرك مستفز من أي من الطرفين. في النهاية، يبدو أن جولة أخرى من القتال في غزة ليست مجرد سيناريو محتمل، بل خطر مرتفع الحدوث في المستقبل القريب.

 

يظل التهديد القادم من لبنان حاضرًا بقوة في خلفية المشهد، خاصةً في ظل الإشارات المتكررة إلى “نقاط الضعف التي كشفتها الحرب على لبنان”. لا يزال “حزب الله” يُشكّل تهديدًا عسكريًا هائلًا لإسرائيل، فهو يمتلك ترسانة صاروخية ضخمة تضم آلاف الصواريخ القادرة على ضرب عمق الأراضي الإسرائيلية، بما في ذلك المدن الكبرى والبنية التحتية الحيوية، ولديه خبرة قتالية ميدانية متقدمة، اكتسبها خلال مشاركته في الحرب السورية والصراعات الإقليمية، ما عزز قدرته على خوض حروب غير متكافئة طويلة الأمد. في ظل هذه المعطيات، تبقى الحدود الشمالية بين إسرائيل ولبنان واحدة من أخطر النقاط الساخنة في المنطقة. فأي تصعيد عسكري غير محسوب، أو سوء تقدير من أحد الطرفين، قد يُشعل مواجهة واسعة النطاق، من المحتمل أن تكون أشد تدميرًا من أي حرب سابقة.

 

لا يُعد التحوّل العقائدي نحو نهج عسكري أكثر قوة وارتكازًا على العمليات البرية مجرد إعداد لمعارك مستقبلية في غزة، بل يُمكن تفسيره أيضًا على أنه إجراء استباقي يهدف إلى ردع “حزب الله”. ففي حال فشل الردع، فإن العقيدة الجديدة تُهيّئ الجيش الإسرائيلي لتنفيذ عملية برية أكثر حسمًا وشمولية في جنوب لبنان، وذلك في حال اندلاع مواجهة على الجبهة الشمالية.

 

المفارقة الأكثر إثارة للقلق في التقييمات الأمنية الإسرائيلية هي إمكانية فتح “جبهة سابعة” مع تركيا داخل الساحة السورية المعقدة والمتقلّبة. ورغم أن هذا السيناريو “لا يزال غير مرجح حتى الآن”، فإن مجرد تداوله علنًا داخل الأوساط الأمنية الإسرائيلية يشير إلى تحوّل استراتيجي يتطلب دراسة دقيقة واستعدادًا حذرًا. ومع التوسع السريع والوجود العسكري التركي المتزايد داخل سوريا، خاصةً في المناطق القريبة من الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل، مثل مرتفعات الجولان، بدأت بعض الدوائر الأمنية الإسرائيلية في رؤية تركيا كعامل جديد قد يسبب احتكاكات مستقبلية، وربما حتى مواجهة مباشرة. والجيش التركي، الذي تم بناؤه تاريخيًا كقوة برية قتالية، لا يزال واحدًا من أقوى الجيوش التقليدية في المنطقة. ومع كونه عضوًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فإن الجيش التركي يمتلك: ترسانة عسكرية متقدّمة، وقوات مدربة جيدًا قادرة على خوض عمليات عسكرية واسعة النطاق، ونهجًا متزايد الحزم في سياسته الإقليمية، مما يجعله منافسًا عسكريًا تقليديًا لا يمكن الاستهانة به. وإذا تصاعدت التوترات الجيوسياسية بين إسرائيل وتركيا، لا سيما في سياق التدخلات العسكرية في سوريا، فقد يؤدي ذلك إلى سيناريو مواجهة تقليدية واسعة النطاق.

 

يُضيف البُعد التركي الناشئ وغير المتوقع سابقًا عنصرًا جديدًا قد يكون مزعزعًا للاستقرار بشكل كبير في الحسابات الأمنية الإسرائيلية المثقلة بالفعل بالتحديات الإقليمية المتعددة. هذا التطور يستدعي تبني نهج عقائدي راديكالي قادر على التعامل ليس فقط مع التهديدات التقليدية المألوفة التي تُشكّلها الجهات غير الحكومية مثل “حماس” و”حزب الله”، والتي تعتمد تكتيكات الحرب غير المتكافئة، ولكن أيضًا مع بيئة تهديد نوعية جديدة وأكثر تعقيدًا تتمثل في الجيوش النظامية القوية والمتزايدة الحزم إقليميًا، مثل الجيش التركي.

 

ختامًا، يأتي تولي إيال زامير منصب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في مرحلة استثنائية ومفصلية في تاريخ إسرائيل، حيث لا يقتصر دوره على قيادة الجيش وفق استراتيجيته الحالية، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة تشكيل العقيدة العسكرية الإسرائيلية بشكل جذري، وإعادة هيكلة القوة العسكرية وتأهيلها لمواجهة بيئة أمنية مستقبلية معقّدة ومتزايدة الخطورة. فالتحوّل المتوقع نحو جيش أكثر تقليدية ومرتكزًا على العمليات البرية لا يُعد مجرد تغيير تكتيكي محدود، بل يمثل إعادة تقييم استراتيجي كبير، نابع من دروس مستخلصة من صراعات حديثة لم تحقق نتائج حاسمة. هذا النهج يعكس إحساسًا متزايدًا- وربما مقلقًا- بانعدام الأمن الإقليمي، لا سيما في ظل: تآكل الاستقرار في الشرق الأوسط وتصاعد التوترات الإقليمية، وتزايد حالة عدم اليقين الاستراتيجي مع تعدد الجبهات المحتملة للصراع.

 

وبينما يشرع إيال زامير في مهمته العسكرية، فإنه يفعل ذلك وسط مجموعة معقّدة ومقلقة من التحديات، التي قد تؤثر بشكل مباشر على فاعلية قيادته واستقلالية قراراته العسكرية. يواجه زامير إمكانية وجود علاقة سياسية متوترة مع حكومة بنيامين نتنياهو، وهي ديناميكية قد تعرقل استقلالية الجيش الإسرائيلي، حيث تتداخل الاعتبارات الحزبية أحيانًا مع القرارات الأمنية والعسكرية. في ظل هذا الواقع، سيكون عليه المناورة بحذر للحفاظ على تماسك الجيش واستقلاليته عن الضغوط السياسية، دون أن يفقد القدرة على تنفيذ استراتيجيته العسكرية بفاعلية. ويتمثل أحد أكثر التهديدات إلحاحًا التي يواجهها زامير في احتمالية اندلاع صراعات على عدة جبهات في وقت واحد، وهو سيناريو قد يشمل: مواجهة جديدة مع غزة، وصراع واسع النطاق مع “حزب الله” في لبنان، وامتداد التوتر إلى سوريا.

 

إن نجاح- أو فشل- إيال زامير في تنفيذ التحوّل الاستراتيجي داخل هذا المشهد المعقّد والخطير لن يكون مجرد مسألة تتعلق بكفاءة الجيش الإسرائيلي على المدى القريب والبعيد، بل ستكون له تداعيات أعمق تمتد إلى: الأمن القومي الإسرائيلي طويل الأمد، والمسار الجيوسياسي لإسرائيل في المنطقة، ومكانة إسرائيل في مشهد شرق أوسطي يزداد اضطرابًا وخطورةً. يبقى التساؤل المحوري حول قدرة زامير على قيادة الجيش الإسرائيلي بفعالية خلال هذه التحوّلات العقائدية والعملياتية العميقة، وما إذا كان هذا الاتجاه الاستراتيجي الجديد الذي يتبناه سيعزز بالفعل أمن إسرائيل واستقرارها الإقليمي على المدى الطويل. لا شك أن الأشهر والسنوات القادمة ستمثل مرحلة اختبار مصيرية، ليس فقط لزامير شخصيًا، بل أيضًا للجيش الإسرائيلي في هيئته الجديدة.

المراجع

Ahmed Alkhatib, “A Plan for Postwar Gaza: Reconstruction Will Fail Unless These Two Challenges Are Addressed,” Atlantic Council, February 14, 2025, accessed February 25, 2025, https://www.atlanticcouncil.org/blogs/new-atlanticist/a-plan-for-postwar-gaza-reconstruction-will-fail-unless-these-two-challenges-are-addressed/

 

Editorial Staff, “What Does Eyal Zamir’s Appointment Mean for Israel Defense Forces?,” Türkiye Today, February 18, 2025, accessed February 25, 2025, https://www.turkiyetoday.com/region/what-does-eyal-zamirs-appointment-mean-for-israel-defense-forces-119595/

 

Emanuel Fabian, “Cabinet Confirms Eyal Zamir as Israeli Army’s 24th Chief of Staff,” The Times of Israel, February 16, 2025, https://www.timesofisrael.com/cabinet-confirms-eyal-zamir-as-israeli-armys-24th-chief-of-staff/

 

Eyal Zamir, “Countering Iran’s Regional Strategy (Hebrew) a Long-Term, Comprehensive Approach,” The Washington Institute, July 5, 2022, https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/countering-irans-regional-strategy-hebrew-long-term-comprehensive-approach

 

Fatih Semsettin Isik, “Analysis: Why Israel’s New Military Chief Could Push Region Into Wider War,” Analysis: Why Israel’s New Military Chief Could Push Region Into Wider War, February 4, 2025, https://www.trtworld.com/magazine/analysis-why-israels-new-military-chief-could-push-region-into-wider-war-18261028

 

Jack Watling and Nick Reynolds, “Tactical Lessons From Israel Defense Forces Operations in Gaza, 2023,” Royal United Services Institute, July 11, 2024, accessed February 25, 2025, https://www.rusi.org/explore-our-research/publications/occasional-papers/tactical-lessons-israel-defense-forces-operations-gaza-2023

 

James Waterhouse, “Ukraine War: ‘If We Go Home, a Lot of Inexperienced Soldiers Will Die,’” BBC News, May 6, 2024, accessed February 25, 2025, https://www.bbc.com/news/world-europe-68932127

 

Kravetz, Jorge R. 2024. “The Israel-Hamas War and the IDF Strategy Framework.” Israel Affairs 30 (5): 879–92. doi:10.1080/13537121.2024.2394290

 

Michael Herzog, “New IDF Strategy Goes Public,” The Washington Institute, August 28, 2015, accessed February 25, 2025, https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/new-idf-strategy-goes-public

 

Patrick Kingsley, “Coalition Deal Puts Netanyahu on Brink of Power in Israel,” The New York Times, December 21, 2022, https://www.nytimes.com/2022/12/21/world/middleeast/coalition-deal-netanyahu-israel.html

 

Seth Frantzman, “Eyal Zamir, Well Known to Industry, Named Israeli Defense Forces Chief of Staff,” Breaking Defense, February 2, 2025, accessed February 25, 2025, http://breakingdefense.com/2025/02/eyal-zamir-well-known-to-industry-named-israeli-defense-forces-chief-of-staff/

 

Yaniv Kubovich, “Public Trust: The Top Priority for Israel’s New Army Chief Despite Wartime Challenges,” Haaretz.Com, February 3, 2025, https://www.haaretz.com/israel-news/2025-02-03/ty-article/.premium/the-new-idf-chief-of-staffs-main-mission-will-be-restoring-faith-in-the-israeli-army/00000194-c830-d533-a3b6-cd3f179a0000

 

Yonah Jeremy Bob, “IDF Set to Present October 7 Probes: What to Expect from Military’s Investigations,” The Jerusalem Post, February 24, 2025, https://www.jpost.com/israel-news/defense-news/article-843542

 

عبد الله علي عسكر، سجل مليء بالمجازر.. من هو إيال زامير رئيس أركان الاحتلال القادم؟،القاهرة الإخبارية، 2 فبراير 2025، تاريخ الاطلاع: 10 فبراير 2025، متاح على الرابط التالي: https://alqaheranews.net/news/115318/%D8%B3%D8%AC%D9%84%D9%87-%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A1-%D8%A8%D9%85%D8%AC%D8%A7%D8%B2%D8%B1-%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D9%88%D8%AC%D9%86%D9%8A%D9%86-%D9%85%D9%86-%D9%87%D9%88-%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D8%A3%D8%B1%D9%83%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D9%84%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%AF%D9%85

 

نظير مجلي، إيال زامير… رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد عسكري من خارج معارك السياسة، الشرق الأوسط، 22 فبراير 2025، تاريخ الاطلاع: 25 فبراير 2025، متاح على الرابط التاليhttps://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D9%88%D8%B9/5114766-%D8%A5%D9%8A%D8%A7%D9%84-%D8%B2%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%B1-%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D9%83%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A-%D9%85%D9%86-%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%AC-%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9

 

نظير مجلي، ما أولويات الرئيس الجديد لأركان الجيش الإسرائيلي؟، الشرق الأوسط، 2 فبراير 2025، تاريخ الاطلاع: 10 فبراير 2025، متاح على الرابط التالي: https://aawsat.com/%D8%B4%D8%A4%D9%88%D9%86-%D8%A5%D9%82%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A9/5107794-%D9%85%D8%A7-%D8%A3%D9%88%D9%84%D9%88%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D9%84%D8%A3%D8%B1%D9%83%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%9F

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *