لم تعد أدوات النزاعات العسكرية خلال القرن الحادي والعشرين تقتصر على الأسلحة التقليدية مثل الصواريخ والدبابات والطائرات، بل اتسعت لتشمل منصات الحوسبة السحابية وأنظمة الذكاء الاصطناعي وقدرات معالجة البيانات التي تطورها وتديرها شركات تكنولوجيا عملاقة مقرها الولايات المتحدة، مثل مايكروسوفت وجوجل وأمازون. لقد أضحت هذه الشركات ركائز أساسية في دعم الحروب الرقمية الحديثة، فصارت قراراتها وسياساتها تمتد إلى مستويات عميقة من التأثير الجيوسياسي، لتشكل جزءاً محورياً من منظومة القوة الحديثة على الساحة الدولية.
في هذا السياق، شهدت العلاقة بين شركات التكنولوجيا التجارية والجيش الإسرائيلي تطوراً جذرياً، تجاوز نمط التعاون التقليدي في توريد الأجهزة والبرمجيات ليحول البنية الرقمية إلى محور أساسي لإدارة الصراع الحديث، خصوصاً خلال الحرب على غزة. حيث برز نمط جديد من التداخل بين القطاعات العسكرية والخاصة، إذ أضحت البنية الرقمية التجارية جزءاً لا يتجزأ من القدرات العسكرية، ما ساهم في تشويش الحدود بين الخدمات التجارية والمنظومات الأمنية الرسمية. ولم تعد إدارة الرواية العالمية حول الكوارث الإنسانية، مثل أزمة المجاعة المؤكدة والتقارير المستمرة عن جرائم الإبادة، منفصلة عن سياسات المحتوى التي تديرها منصات كبرى تخضع لسيطرة شركات التكنولوجيا، حيث تساهم هذه المنصات في تضخيم الرواية الرسمية وتهميش أو إنكار خطورة المجاعة والصراع، وتتيح في الوقت نفسه إمكانيات مراقبة عميقة تقمع الإعلام المستقل داخل مناطق النزاع.
وسلط الصراع في غزة الضوء على الدور المزدوج والمتزايد التعقيد لشركات التكنولوجيا الكبرى، وتحديدًا جوجل (ألفابت) - Google Alphabet Inc- ومايكروسوفت ( Microsoft Corporation)، في الحروب الحديثة والتحكم العالمي في المعلومات. حيث انخرطت هذه الشركات منخرطة في ديناميكية تآزريه توفر البنية التحتية الأساسية والمخصصة للحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، والتي تُسهّل عمليات عسكرية فتكية غير مسبوقة ومراقبة جماعية داخل قطاع غزة والأراضي المحتلة، بينما تستخدم في الوقت نفسه آليات متطورة للتحكم في المعلومات - بما في ذلك الرقابة الداخلية، والتحيز الخوارزمي، وقمع البيانات - لإعادة تشكيل السرد العام وتخفيف مساءلة الشركات. لذا يسعي هذا التحليل التركيز على دور شركات التكنولوجيا في ديناميات وتداعيات الصراع في غزة، وكيف تسهم في هندسة المجال المعلوماتي والسياسي والإنساني ضمن بيئة النزاع المعاصر وهو ما يحول هذه الشركات من مقدمي خدمات محايدين إلى مشاركين فاعلين في البنية التحتية في الصراع.
تمتد بصمة شركات التكنولوجيا الكبرى إلى ما يتجاوز حدود تقديم الخدمات الرقمية في مناطق النزاع، لتتحول إلى علاقات وظيفية وسببية مرتبطة بشكل مباشر بالعمليات العسكرية الميدانية. فقد وثّق تقرير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الدور المحوري الذي تؤديه شركات مثل مايكروسوفت، جوجل، أمازون -Amazon-، وآي بي إم – IBM- في منظومة المراقبة الإسرائيلية وفي استمرار عمليات التدمير في غزة، مطالبًا بوقف تعاملاتها التجارية مع إسرائيل ومحاسبة القيادات التنفيذية المتورطة في انتهاكات محتملة للقانون الدولي.
ويرتبط هذا الدور على نحو وثيق بالاعتماد المتزايد للجيش الإسرائيلي على خدمات الحوسبة السحابية ومنصات الذكاء الاصطناعي لتخزين ومعالجة كميات هائلة من البيانات الاستخباراتية، فضلًا عن تقديم دعم هندسي وفني مباشر للوحدات العسكرية والاستخباراتية، بما في ذلك الوحدة 8200 المعنية بالتجسس والمراقبة الرقمية. وتُشكّل هذه البنية التكنولوجية عنصرًا بنيويًا يرسّخ قدرات الجهاز العسكري الإسرائيلي، ويعزز من استدامة الصراع وتسريعه، كما يسهم في تقييد حرية الإعلام والمجتمع المحلي، وفي تكريس هيمنة الرواية الرسمية على المشهد المعلوماتي.
وفي السياق ذاته، أشارت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأراضي الفلسطينية، في تقريرها “من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية”، إلى تورط أكثر من 60 مؤسسة – من بينها مايكروسوفت، ألفابت، وأمازون – في الحرب الدائرة في غزة. ويعرض التقرير هذه المشاركة باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من منظومة أكبر، إذ لا تُعد مجرد صفقات تجارية معزولة، وإنما مكوّنًا في “اقتصاد سياسي” آخذ في التحول إلى “اقتصاد إبادة جماعية”. كما يوضح التقرير أن هذه الشركات ترتبط ماليًا ببنية نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، وتُسهِم في عسكرة الاحتلال الطويل الأمد، الذي يُستَخدم كساحة اختبار لتكنولوجيا المراقبة والأسلحة المتطورة.
شهدت السنوات الأخيرة تحولاً جوهرياً في طبيعة العلاقة بين شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة والمؤسسات السياسية والأمنية في إسرائيل، حيث لم تعد عقود الحوسبة السحابية مجرد اتفاقيات تجارية، بل باتت تمثل ركائز استراتيجية ذات امتدادات جيوسياسية واقتصادية عميقة. تمنح هذه العقود إسرائيل القدرة على الوصول إلى بنية تحتية تكنولوجية متقدمة، ما يضمن لها تفوقاً عسكرياً وأمنياً مستداماً، بينما تحصل الشركات على عقود طويلة الأمد تعزز أرباحها وترسخ وجودها ضمن واحدة من أكثر الأسواق حساسية في العالم. هذا التشابك يعكس تحولاً نوعياً في دور شركات التكنولوجيا من مجرد مزوّدة للخدمة إلى شريك مباشر في هندسة بنية تحتية أمنية واستراتيجية معقدة، الأمر الذي يعيد طرح مفهوم “الحياد التكنولوجي” للنقاش ضمن سياق عالمي متغير.
ويعد مشروع “نيمبوس” الذي وُقع عام 2021 مع شركتي جوجل وأمازون، أوضح تجلٍ لهذا الارتباط، إذ أتاح للحكومة الإسرائيلية الحصول على خدمات حوسبة سحابية شاملة لكل مؤسسات الدولة، بما فيها الأجهزة الأمنية والعسكرية، بعقد قيمته 1.2 مليار دولار. يقوم المشروع على مبدأ الدمج العميق بين البنية الرقمية المؤسسية والشركات المزودة للخدمة، ويفرض التزامات تمنع الشركات المشاركة من الانسحاب حتى تحت أقسى الضغوط السياسية أو الإنسانية، ما يضمن استمرار الدعم الرقمي بغض النظر عن التحولات الجيوسياسية أو نقاشات حقوق الإنسان. وقد كشفت وثائق داخلية من جوجل وعي الشركة بإمكانية ارتباط خدماتها السحابية بانتهاكات حقوقية في الأراضي الفلسطينية، لكنها استمرت في تنفيذ العقد مدفوعة بالمصالح المالية والاستراتيجية، وهو ما يعكس أولوية الربح على الشواغل الأخلاقية.
في الوقت نفسه، أضحى حضور مايكروسوفت أكثر وضوحاً مع تصاعد العمليات الحربية في غزة منذ أكتوبر 2023 حيث استخدام الجيش الإسرائيلي لخدمات أزور بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، حيث ارتفعت خدمات التخزين السحابي بنسبة 60٪ مقارنة بالفترة السابقة، ويُقدر أن خدمات الدعم الهندسي والاستشارات التي قدمتها مايكروسوفت للجيش تجاوزت 19,000 ساعة حتى يونيو 2024؛ فبعد استبعادها من مشروع نيمبوس، عززت الشركة عبر منصتها “أزور” اندماجها في البنية التحتية الرقمية الإسرائيلية بعقود ضخمة لدعم القدرات التخزينية وتقديم آلاف الساعات من الخدمات الفنية للجيش، متجاوزةً بذلك حدود “الحياد” إلى دور تشغيلي مباشر في العمليات العسكرية. وتوّج ذلك بإطلاق منطقة سحابية جديدة لمايكروسوفت داخل إسرائيل، ما يرسخ الالتزام طويل الأمد بمساندة البنية الأمنية الإسرائيلية ويؤكد تحول البيئة السحابية إلى عنصر أصيل في إدارة الحروب الحديثة.
تشكل هذه العقود مثالاً على بنية تحتية رقمية متطورة تتيح للحكومة الإسرائيلية استدامة عمليات المراقبة والاستخبارات الرقمية، وتسهيل الأعمال القتالية والتخطيط العسكري، ما يشي بمرحلة جديدة من التواطؤ البنيوي الذي يتجاوز العلاقة التجارية التقليدية ليشكّل تحديات أخلاقية وقانونية جسيمة.
تشكل البنية التحتية التقنية التي توفرها شركات التكنولوجيا الكبرى دعامة أساسية في التطور نحو حروب سريعة تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث تلعب دورًا محوريًا في عمليات التدمير المنهجي وما ينتج عنها من أزمات إنسانية في قطاع غزة.
وتتمثل هذه البنية في نظم المراقبة الجماعية التي تعتمد على الخدمات السحابية لجمع وتحليل البيانات الاستخبارية، مما يمكّن من إنشاء قواعد بيانات ضخمة تُستخدم لاحقًا لأغراض الاستهداف. ومن الأمثلة على ذلك، استخدام الوحدة الاستخباراتية الإسرائيلية 8200 منصة مايكروسوفت أزور لبناء نظام مراقبة شامل يلتقط، يسجل، ويخزن ملايين المكالمات الهاتفية يوميًا التي تجري بين المدنيين في مناطق غزة والضفة الغربية منذ عام 2022. وقد بلغت قدرة هذا النظام، كما أشارت التقارير، مستوى التقاط مليون مكالمة خلال ساعة واحدة، ما يعكس إمكانيات هائلة في ميدان المراقبة والتحليل المدعوم بالذكاء الاصطناعي.
تُعَدّ هذه الكمية الضخمة من البيانات المخزنة على خدمات أزور الأساس لاستخلاص المعلومات الاستخباراتية التي تستخدم لاحقًا في عمليات الاستهداف الدقيق. في البداية، نفَت شركة مايكروسوفت أي انتهاك لشروط خدماتها، مؤكدة في مايو 2025 عدم وجود أدلة تثبت إساءة الاستخدام. غير أن تقارير استقصائية نُشرت في أغسطس 2025 كشفت عن استخدام هذه المنصة في تحديد أهداف القصف في غزة، ما دفع الشركة إلى إعادة النظر وتعطيل جزء من خدماتها المقدمة للوحدة 8200 في سبتمبر 2025. مع ذلك، استمر العقد بين مايكروسوفت والجيش الإسرائيلي بشكل عام، ما يوحي باستجابة جزئية ومحدودة بدلاً من انسحاب كامل من هذه العمليات العسكرية.
تُشكّل البنية التحتية السحابية التي توفرها شركات مثل جوجل وأمازون ومايكروسوفت ركيزة أساسية لاستمرارية الأنظمة القتالية المعزَّزة بالذكاء الاصطناعي، بما يُزعم أنه يسهم في تعزيز القدرات العسكرية للجيش الإسرائيلي. إذ تتيح هذه الخدمات قوة المعالجة اللازمة لتشغيل خوارزميات متقدمة مثل “لافندر” و”ذا جوسبل”. ويُستخدم الأخير لتحديد المباني والمنشآت المرشحة للاستهداف، في حين يُعالج “لافندر” البيانات الاستخباراتية بغرض ترشيح الأفراد للقتل، وغالبًا ما يتعقّب مواقعهم من أجل ضمان استهدافهم داخل منازلهم، في إطار ما يُعرف بمبدأ “أين أبي؟”. ووفق شهادات مسؤولين استخباراتيين سابقين، أدى هذا النهج القائم على الخوارزميات إلى ما يشبه “مصنعًا للاغتيالات الجماعية”، حيث يُوجَّه التركيز الاستراتيجي نحو الكمّ الكبير من الأهداف على حساب الدقة أو التحقق البشري. ويُسهم هذا النظام عالي السرعة، المعتمد على كميات هائلة من البيانات، في تسريع دورة اتخاذ القرار العسكري إلى درجة قد تختزل الزمن الفاصل بين رصد الهدف وتدميره إلى ثوانٍ معدودة، وهي وتيرة لا تتحقق إلا بفضل النفاذ المستمر إلى موارد الحوسبة السحابية.
غير أن الخطر الجوهري لهذه الأنظمة يكمن في اعتمادها المفرط على بيانات قد تكون متحيّزة أو مشوبة بالأخطاء، وهو ما يُجسّده المبدأ المعروف “النفايات تدخل، النفايات تخرج”. فقد أشارت تقارير إلى أن الأدوات الرقمية التي يُوظفها الجيش الإسرائيلي في غزة تعتمد على بيانات غير دقيقة، وتقديرات تقريبية، إضافةً إلى تحيزات منهجية، بما يعرّض المدنيين لمخاطر جسيمة. وإذا استندت خوارزميات مثل “لافندر” في تدريبها إلى تصنيفات فضفاضة للتهديدات بدوافع سياسية – على سبيل المثال، مساواة منظمات حقوقية فلسطينية مشروعة بـ “جماعات إرهابية” – فإن النتائج الحاصلة ستعيد إنتاج هذه الانحيازات وتضخيمها، مما يعزز احتمالات الاستهداف الخاطئ وغير المشروع لغير المقاتلين. ونتيجة لذلك، تتحول القدرات الضخمة للحوسبة السحابية إلى عامل مسرّع يضاعف من الأثر التدميري للأخطاء الكامنة داخل منظومة الذكاء الاصطناعي، وصولًا إلى إحداث أضرار مدنية منهجية وواسعة النطاق.
تتيح الكفاءة التقنية التي توفرها البنية التحتية الضخمة لشركات التكنولوجيا الكبرى مستوى غير مسبوق من التدمير واسع النطاق. وتشير تحليلات صور الأقمار الصناعية إلى حجم الأضرار الكارثية التي لحقت بقطاع غزة، حيث يُقدَّر أنّ نحو 78% من المباني قد تضررت أو دُمّرت بحلول منتصف عام 2025. ولا يقتصر هذا التدمير على الأهداف العسكرية فحسب، بل يمتد ليشمل البنية التحتية الحيوية، بما في ذلك المنشآت الصحية والمرافق الطبية والأنظمة الأساسية اللازمة لضمان البقاء.
إن هذا النهج التدميري الممنهج، المقترن بعرقلة وصول المساعدات الإنسانية، يسهم مباشرة في تفاقم انعدام الأمن الغذائي وخلق ظروف المجاعة. فالاستهداف المتكرر للبنية التحتية التي تُمثل مقومات أساسية للحياة يُنتج أوضاعًا يُنظر إليها باعتبارها مُتعمدة، بما ينطوي على شبهة محاولة تدمير السكان المدنيين كجماعة، وهو ما يتعارض مع أحكام القانون الدولي ويُشكل عنصرًا جوهريًا في مزاعم ارتكاب جرائم جسيمة. وفي هذا السياق، فإن قدرة الجيش الإسرائيلي على تنفيذ استهداف واسع ومستمر، من خلال أنظمة الذكاء الاصطناعي المعتمِدة على الحوسبة السحابية، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأزمة الإنسانية الراهنة. ومن ثمّ، تتحول مساهمة شركات التكنولوجيا الكبرى من مجرد دور خدمي إلى شريك فعلي في تمكين آليات الانهيار المجتمعي وتعميق المجاعة على نطاق واسع.
تُشكّل خدمتا خرائط جوجل و”جوجل إيرث” الأدوات المهيمنة عالميًا في مجال رسم الخرائط الرقمية. غير أنّ تمثيلهما لقطاع غزة، ولاسيما بعد 7 أكتوبر 2023، اتسم بتأخر ملحوظ في تحديث صور الأقمار الصناعية المتاحة للعامة. فعلى الرغم من حجم التدمير الواسع النطاق الموثَّق، حيث تشير التقديرات إلى تضرر أو تدمير نحو 80% من المباني، كثيرًا ما اقتصرت الخرائط المتاحة على صور قديمة، متأخرة أحيانًا لأشهر أو حتى سنوات عن الواقع الميداني.
يُنتج هذا التأخير في التحديث فجوة معرفية حرجة، تُسهم في خلق شكلٍ من “التسليح المعرفي”، إذ يُعاد تشكيل الرواية البصرية بطريقة غير مباشرة. وبينما يعتمد الصحفيون الاستقصائيون والمنظمات الإنسانية على صور أكثر حداثة تُوفّرها شركات تجارية مثل Planet Labs للتحقق من حجم الدمار، يظل عامة المستخدمين ووسائل الإعلام غير المتخصصة رهائن لرؤية ناقصة ومؤجلة للوضع. وبهذا، يُقلَّص إدراك الرأي العام العالمي لحجم الكارثة الإنسانية، بما يُضعف الضغط السياسي باتجاه التدخل ويُعيق آليات المساءلة.
إلى جانب ذلك، برزت شكاوى من بعض المستخدمين بشأن ظواهر يمكن وصفها بالحرب النفسية الرقمية المتداخلة مع البيئة الخرائطية، مثل ظهور علامات “البيت المسكون” على منازل فلسطينية مدمرة بعد بعض التحديثات الجوية في “جوجل إيرث”. هذه الممارسات تثير مخاوف جدّية حول أنظمة الإشراف، وإمكانية وجود تواطؤ نشط أو تغاضٍ مؤسسي عن توظيف تكتيكات رقمية خبيثة تعمّق من الأثر النفسي والمعلوماتي للنزاع.
لا يقتصر دور شركتي جوجل ومايكروسوفت على تمكين العمليات العسكرية من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، بل يمتد كذلك إلى التأثير النشط في تشكيل السرديات العالمية المرتبطة بأزمة غزة عبر أدوات مختلفة للتحكم في تدفق المعلومات. ويشمل ذلك حجب البيانات البصرية من جانب، وممارسات الرقابة الجيوسياسية المباشرة ضمن نماذج الذكاء الاصطناعي من جانب آخر.
يُعاد توظيف المحتوى المرتبط بالدمار والمجاعة عبر آليات المنصات الرقمية وتحَيّز محركات البحث. ففي حين تُؤكد جهات دولية رسمية، منها الأمم المتحدة والنظام المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، أنّ غزة قد تجاوزت بالفعل عتبات المجاعة، حيث يعاني مجمل السكان من مستويات حادة وحرجة من انعدام الأمن الغذائي، تُروّج منصات تابعة لشركات التكنولوجيا الكبرى – مثل “يوتيوب” المملوك لجوجل – لروايات مضادة. وغالبًا ما تتخذ هذه السرديات شكل مقاطع مصورة مجتزأة أو خارجة عن سياقها، تُستخدم للتشكيك في ضراوة الأزمة أو الادعاء بأنها “مفتعلة” أو أنها مجرد “دعاية سياسية”، في تجاهل واضح للتقارير الميدانية والتوثيق الواسع النطاق.
إضافة إلى ذلك، تُبرز دراسات مستقلة وجود تباينات خوارزمية في نتائج البحث على منصات رئيسية مثل جوجل أو دَك دَك جو، تتأثر بعوامل شخصية مثل سجل التصفح السابق. هذا النمط من التحيز البنيوي يُسهم في تقييد وصول المعلومات الموثوقة والمستقلة إلى الجمهور العام، إذ تقلّ فرص ظهور تقارير استقصائية دقيقة عن الدمار والمجاعة، بينما تُمنح المساحة الأكبر سرديات تتماشى مع التوافقات الجيوسياسية السائدة. ومن ثمّ، يصبح التحكم المعرفي أداة إضافية لتوجيه الرأي العام وإعادة صياغة إدراك الأزمة على المستوى الدولي.
وفي الختام، يكشف انخراط شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل جوجل ومايكروسوفت، في عقود الحوسبة السحابية المبرمة مع الحكومة الإسرائيلية عن مكاسب استراتيجية متعددة المستويات، تتراوح بين تحقيق تدفقات مالية مستقرة ومرتفعة القيمة، وتعزيز مواقع هذه الشركات في أسواق التكنولوجيا ذات الحساسية العالية. ويُعد مشروع “نيمبوس” مثالًا لافتًا في هذا الصدد، إذ منح الشركتين مكانة راسخة ضمن البنية التحتية الرقمية الإسرائيلية، بما في ذلك المؤسسات ذات الطابع الأمني والعسكري.
وعلى الرغم من وجود اعتراضات داخلية وتحذيرات قانونية تتعلق بالاعتبارات الحقوقية، فإن المضي قُدمًا في إبرام هذه العقود يُظهر استعدادًا مسبقًا لتحمل المخاطر الأخلاقية والسياسية، مقابل ما تحققه من منافع مالية ومؤسسية. وتوحي هذه الدينامية بأولوية واضحة تُمنَح للأرباح الاقتصادية وتعميق الشراكات الاستراتيجية السيادية، متقدمة على الالتزامات المعلنة في مجال حقوق الإنسان والحوكمة المؤسسية.
أما من الناحية التقنية، فعلى الرغم من تقديم خدمات الحوسبة السحابية بصفتها بُنى تحتية محايدة، أشبه بالمنافع العامة، فإن طبيعة العقود – بما تتضمنه من شروط مثل التخصيص العميق للبنى التحتية، وضمان استمرارية الخدمة عبر “بنود مكافحة المقاطعة”، إضافة إلى توفير دعم فني متواصل حتى في أوقات النزاعات – تكشف عن ارتباط وثيق مع أنشطة حكومية وأمنية. ومن ثمّ، يتضح أنّ الحوسبة السحابية، في هذا السياق، تتجاوز وظيفتها التقنية البحتة لتصبح جزءًا من منظومة سياسية وأمنية متكاملة.
Abraham, Yuval. “Amazon, Google & Microsoft Fuel Israeli Military Aggression in Israel’s War on Gaza, Investigation Reveals – Business & Human Rights Resource Centre.” Business & Human Rights Resource Centre, August 4, 2024. https://www.business-humanrights.org/ar/%D8%A3%D8%AD%D8%AF%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/amazon-google-microsoft-fuel-israeli-military-aggression-in-israels-war-on-gaza-investigation-reveals/
Adarsh. “From Silicon Valley to Gaza: Microsoft’s Cloud Could Be Israel’s War Machine.” Sify, March 9, 2025. https://www.sify.com/ai-analytics/from-silicon-valley-to-gaza-microsofts-cloud-could-be-israels-war-machine/
Al Jazeera. “More than 100 NGOs Warn Israel’s Forced ‘Mass Starvation’ Stalks All Gaza,” July 23, 2025. https://www.aljazeera.com/news/2025/7/23/more-than-100-ngos-warn-israels-forced-mass-starvation-stalks-all-gaza
Biddle, Sam. “Microsoft Confirms Censoring Employee Emails Containing Words Related to Palestine & Israel’s War on Gaza – Business & Human Rights Resource Centre.” Business & Human Rights Resource Centre, May 22, 2025. https://www.business-humanrights.org/en/latest-news/israelopt-microsoft-confirms-censoring-employee-emails-containing-words-related-to-palestine-israels-war-on-gaza/
Bishop, Todd. “Microsoft: No Evidence Israeli Military Used Its Technology to Harm Civilians, Reviews Find.” GeekWire, May 15, 2025. https://www.geekwire.com/2025/microsoft-no-evidence-israeli-military-used-its-technology-to-harm-civilians-reviews-find/
Çebi, Gizem Nisa. “Microsoft Confirms AI, Cloud Services to Israeli Defense Ministry amid Gaza War Scrutiny.” Anadoul Agency, May 17, 2025. https://www.aa.com.tr/en/americas/microsoft-confirms-ai-cloud-services-to-israeli-defense-ministry-amid-gaza-war-scrutiny/3571775
Collings, Paige, and Starchy Grant. “Digital Apartheid in Gaza: Big Tech Must Reveal Their Roles in Tech Used in Human Rights Abuses.” Electronic Frontier Foundation, August 13, 2024. https://www.eff.org/deeplinks/2024/08/digital-apartheid-gaza-big-tech-must-reveal-their-roles-tech-used-human-rights-0
Corbett, Jessica. “After Anti-Genocide Protests, Microsoft Cuts Israeli Military off from Cloud Services | Common Dreams.” Common Dreams, September 25, 2025. https://www.commondreams.org/news/microsoft-israel
Food and Agriculture Organisation of the United Nations. “Gaza: Geospatial Data Shows Intensifying Damage to Cropland.” FAO, October 3, 2024. https://www.fao.org/newsroom/detail/gaza-geospatial-data-shows-intensifying-damage-to-cropland/en
Human Rights Watch. “Questions and Answers: Israeli Military’s Use of Digital Tools in Gaza,” September 10, 2024. https://www.hrw.org/news/2024/09/10/questions-and-answers-israeli-militarys-use-digital-tools-gaza
Kwet, Michael. “How US Big Tech Supports Israel’s AI-Powered Genocide and Apartheid.” Al Jazeera, May 12, 2024. https://www.aljazeera.com/opinions/2024/5/12/how-us-big-tech-supports-israels-ai-powered-genocide-and-apartheid
Lawal, Shola. “Why Has Microsoft Cut Israel off from Some of Its Services?” Al Jazeera, September 26, 2025. https://www.aljazeera.com/news/2025/9/26/why-has-microsoft-cut-israel-off-from-some-of-its-services
Maiberg, Emanuel. “Google’s Gemini AI Doesn’t Want to Talk about Palestine.” 404 Media, March 5, 2024. https://www.404media.co/googles-gemini-ai-doesnt-want-to-talk-about-palestine/
Q, Zina. “The Cartographic War: How Google Earth Turned Gaza’s Ruins into a Digital Battlefield – Untold.” Untold Magazine, August 15, 2025. https://untoldmag.org/the-cartographic-war-how-google-earth-turned-gazas-ruins-into-a-digital-battlefield/
Rahman, Amber. “Explainer: The Role of AI in Israel’s Genocidal Campaign against Palestinians.” Institute for Palestine Studies, October 16, 2024. https://www.palestine-studies.org/en/node/1656285
Staff, Al Jazeera. “What Is Project Nimbus, and Why Are Google Workers Protesting Israel Deal?” Al Jazeera, April 23, 2024. https://www.aljazeera.com/news/2024/4/23/what-is-project-nimbus-and-why-are-google-workers-protesting-israel-deal
TOI Staff. “Microsoft Said to Block IDF from Cloud System over Use in Surveillance of Palestinians.” Times of Israel, September 25, 2025. https://www.timesofisrael.com/microsoft-said-to-block-idf-from-cloud-system-over-use-in-surveillance-of-palestinians/
TRT World. “UN Report Names 60+ Firms Profiting from Israeli ‘Economy of Genocide.’” Trtworld.com. TRT World, July 2, 2025. https://www.trtworld.com/article/b9154d1412cb
Williamson, Harriet. “UN Calls out Google and Amazon for Abetting Gaza Genocide.” Progressive International. progressive-international-website, August 26, 2025. https://progressive.international/wire/2025-08-26-un-calls-out-google-and-amazon-for-abetting-gaza-genocide/en
تعليقات