تُعدّ الحرب بين إيران وإسرائيل – بكل المقاييس – حرب بقاء بالنسبة للنظام الإيراني. فقد باتت مهاجمة إيران خطوة منطقية بالنسبة لإسرائيل، خاصة بعد أن نجحت إلى حد كبير في تحجيم أذرع طهران من الميليشيات والوكلاء في الإقليم. ويستند النظام الإيراني إلى ثلاثة ركائز رئيسية: (1) ترسانة الصواريخ التقليدية، (2) شبكة موسعة من القوات التابعة للوكلاء في المنطقة، و(3) برنامجه النووي. إلا أن هذا النظام يواجه اليوم حرب استنزاف قد تقود في نهاية المطاف إلى زواله الكامل. فالسقوط المحتمل للنظام الإيراني لا يُعد مجرد تغيير في القيادة، بل يُمثّل انهيارًا للدولة ذاتها.
وسيؤدي انهيار الدولة الإيرانية إلى عواقب كارثية في عموم المنطقة. ومع ذلك، فإن بقاء النظام يُعدّ أيضًا سيناريو قائمًا بحد ذاته. فرغم أن انهيار إيران سيُحدث أزمة إقليمية كبرى، فإن استمرار بقاء النظام، لا سيما مع سعي طهران لفرض نفسها كقوة إقليمية عظمى، قد يكون أكثر زعزعة للاستقرار بالنسبة لإسرائيل وحلفائها. وفي الحالتين، فإن النتائج تحمل آثارًا إقليمية ودولية عميقة، وتُشير إلى تحوّل جذري في الواقع الجيوسياسي للشرق الأوسط. والسؤال الجوهري لم يعد: "هل سيتغير الشرق الأوسط؟" بل "كيف سيبدو هذا الشرق الأوسط الجديد؟"
بينما تنشب الحروب عادةً بدافع النزاعات الحدودية أو التنافس الجيوسياسي، فإن هذه الحرب تأخذ طابعًا مختلفًا. فإسرائيل لا تستهدف فقط منشآت إيران النووية، بل تسعى في جوهرها إلى تقويض بقاء النظام الإيراني نفسه. فعلى الرغم من أن الرواية الإسرائيلية الرسمية تروّج للصراع باعتباره حملة لإيقاف البرنامج النووي الإيراني، إلا أن الدوافع الكامنة أوسع بكثير. إذ تكمن في صميم هذا الصراع قناعة راسخة داخل الأوساط الاستراتيجية الإسرائيلية مفادها أن الجمهورية الإسلامية تمثل تهديدًا وجوديًا دائمًا لإسرائيل. وتحت حكم بنيامين نتنياهو، باتت هذه القناعة حجر الزاوية في العقيدة الأمنية الإسرائيلية. فإيران لا تُعتبر مجرد دولة خصم ذات قدرات خطرة، بل نظامًا لا يتوافق وجوده مع أمن إسرائيل على المدى البعيد.
وغالبًا ما يصرّح نتنياهو بأن لدى إيران كمية كافية من اليورانيوم المخصب لصنع “تسع قنابل نووية”، وهو تصريح مضلل من الناحية الفنية، لكنه فعّال سياسيًا. إذ يتيح لإسرائيل تبرير تحركاتها باعتبارها دفاعية لا هجومية، ويولّد شعورًا بالإلحاح، ويؤلّب الرأي العام، ويغلق الأبواب أمام أي مسار دبلوماسي. وبالتالي، فإن نتيجة هذه الحرب ستتوقف في نهاية المطاف على قدرة النظام الإيراني على الصمود والبقاء. ويستند استقرار هذا النظام إلى ثلاثة ركائز رئيسية: (1) ترسانة الصواريخ التقليدية، (2) شبكة واسعة من الوكلاء والقوات الإقليمية المتحالفة، و(3) البرنامج النووي. تقليديًا، تُناقش قضايا الحرب وبقاء الأنظمة في سياقات السياسة الداخلية، إلا أن الحالة الإيرانية تختلف؛ إذ لا يُحدد مصير النظام بشكل رئيسي بعوامل داخلية، بل بمدى متانة بنيته في السياسة الخارجية. وفي هذا السياق، تقوم الاستراتيجية الإسرائيلية على شنّ حرب استنزاف تهدف إلى تفكيك الأعمدة الأساسية التي يستند إليها النظام الإيراني.
أحد الأهداف الرئيسية في هذه الحرب هو ترسانة إيران الصاروخية. والسؤال المحوري هنا هو: إلى متى يمكن لإيران الاستمرار في إطلاق الصواريخ الباليستية بوتيرتها الحالية؟ وإلى متى يمكن لأنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية الصمود تحت ضغط مستمر؟ فخلال الأيام الأربعة الأولى من الصراع، أفادت إسرائيل بأن إيران أطلقت أكثر من 350 صاروخًا. ومنذ ذلك الحين، لاحظت قوات الدفاع الإسرائيلية انخفاضًا في وتيرة إطلاق الصواريخ، مما قد يشير إلى أن طهران بدأت في تقنين استخدامها للمخزون تحسبًا لصراع طويل الأمد. وسيتعيّن على القيادة الإيرانية تقييم مدى قدرتها على الحفاظ على هذا النسق من المواجهة.
وتُقدّر أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أن عدد الصواريخ القابلة للاستخدام العملياتي لدى إيران قد لا يتجاوز 2000 صاروخ، وهو ما يعني أن إيران قادرة فقط على تنفيذ عدد محدود من الضربات الكثيفة المصممة لاختراق الدفاعات الصاروخية الإسرائيلية. كما أن قدرة طهران على تعويض ما يتم إطلاقه من هذا المخزون محدودة. فقبل اندلاع النزاع الحالي، كانت الاستخبارات الأمريكية تقدّر أن إيران تنتج نحو 50 صاروخًا باليستيًا شهريًا، وهو معدل إنتاج ملحوظ لكنه غير كافٍ للحفاظ على وتيرة الإطلاقات الحالية. ومع ذلك، تزعم مصادر عسكرية إيرانية أن مخزون الصواريخ لا يزال مستقرًا، وأن إيران لم تستخدم بعد صواريخها الأكثر تقدمًا وتدميرًا، إذ تحتفظ بها لمراحل حرجة لاحقة من الصراع.
عاملٌ حاسم آخر في تقييم مدى استدامة الحملة الصاروخية الإيرانية يتمثّل في قدرة إسرائيل على الحفاظ على مخزونها من صواريخ الاعتراض، ولا سيما أنظمة “آرو 2” و”آرو 3”. فعلى الرغم من نجاح منظومة الدفاع متعددة الطبقات الإسرائيلية، التي تشمل القبة الحديدية ومقلاع داوود ونظام آرو، في اعتراض الغالبية العظمى من الصواريخ الإيرانية، إلا أن هذه الأنظمة تعتمد على مخزون محدود من صواريخ الاعتراض المكلفة للغاية. وبالرغم من الدعم الأميركي، الذي شمل نشر منظومة “ثاد-THAAD “ ومدمرات دفاع صاروخي في شرق البحر المتوسط، لا يزال العبء الأكبر يقع على عاتق الموارد الإسرائيلية الذاتية.
كما أن تكلفة الدفاع المالي مرتفعة للغاية؛ إذ تُقدَّر تكلفة صواريخ الاعتراض من طراز “آرو 3” بما يتراوح بين 2 و3.5 مليون دولار لكل صاروخ، في حين تُقدّر تكلفة صواريخ “آرو 2” بحوالي 1.5 مليون دولار. وتشير تقارير حديثة إلى أن إسرائيل بدأت تستنزف مخزونها من هذه الذخائر الحيوية. وعلى الرغم من أن البعض يرى أن نتنياهو لم يكن ليُقدم على شن ضربات ضد إيران دون التأكد من امتلاك مخزون كافٍ، إلا أن هذا الافتراض يتعارض مع مناشداته المستمرة لزيادة الدعم الأميركي. فلطالما تدخلت واشنطن لتزويد إسرائيل سريعًا بالقنابل والصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي والوقود كلما خاضت عمليات عسكرية كبرى، سواء في غزة أو لبنان أو سوريا. ويبدو أن نتنياهو يعوّل على استجابة مماثلة من الإدارة الأميركية لضمان استمرارية الجهد الحربي الإسرائيلي.
تشير قراءة الوضع الراهن للطرفين إلى أن كلاً منهما يعانون من مؤشرات حالة استنزاف، ومن المرجح أن تكون الحرب الطويلة غير قابلة للاستمرار لأيٍّ من الجانبين. وقد باتت موازين الصراع تعتمد، بشكل أساسي، على مدى تدخل الولايات المتحدة لصالح إسرائيل.
الركيزة الثانية للنظام الإيراني تتمثل في شبكة وكلائه الإقليميين. وعلى نحو ما، فإن إيران كانت منخرطة فعليًا في صراع مع إسرائيل عبر هذه المجموعات طوال العام الماضي، إلا أن الحرب الراهنة تمثل تحوّلاً من حرب الوكالة إلى المواجهة المباشرة. ومع ذلك، من الواضح أن هؤلاء الوكلاء، وعلى رأسهم “حزب الله”، يعانون من ضغط كبير خلال الأشهر الأخيرة. ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار تصعيد إسرائيل نحو استهداف إيران مباشرة خطوة منطقية، خاصة بعد إضعافها الشديد لأذرع إيران بالوكالة.
وقد صدرت مؤشرات تفيد بأن “حزب الله” قد يتدخل في حال تورط الجيش الأميركي بشكل مباشر، إلا أن المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم باراك، حذر الحزب من أن مثل هذا القرار سيكون “خطوة سيئة للغاية”، في تأكيد جديد على الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه الولايات المتحدة في تحديد مسار الصراع. ومع ذلك، يبدو أن الحزب في الوقت الراهن متردد في التصعيد؛ إذ خرج من صراع عام 2024 وهو في حالة إنهاك ملحوظة، بعد أن خسر جزءًا كبيرًا من مخزونه الصاروخي وعددًا من كبار قياداته. كما ألحقت به سلسلة من الهجمات النوعية خسائر إضافية، يُعتقد أنها تمت عبر تفجير أجهزة اتصال معدلة مثل أجهزة “البيجر” وأجهزة اللاسلكي التي يستخدمها عناصر الحزب.
لا يزال متمردو الحوثي في اليمن هم الوكيل الإيراني الوحيد الذي يواصل الانخراط الفعلي في الصراع ضد إسرائيل. ومع ذلك، فإن قدرتهم العملياتية محدودة جغرافيًا نظرًا لبعدهم عن الأراضي الإسرائيلية. ورغم هذه القيود، لا يزال الحوثيون قوة جديرة بالمتابعة. ففي أقل من شهر قبل اندلاع الحرب بين إيران وإسرائيل، أكدت إسرائيل أن أنظمتها الدفاعية فشلت في اعتراض صاروخ باليستي أُطلق من اليمن باتجاه مطار بن جوريون في تل أبيب. وقد أسفر الهجوم عن إصابة سبعة أشخاص، وتسبب في إغلاق مؤقت لحركة الطيران. اللافت أن الصاروخ تمكن من الإفلات من نظامي الدفاع الصاروخي الأحدث في العالم: النظام الإسرائيلي “آرو” ونظام “ثاد” الأميركي، ما أثار مخاوف بشأن نقاط الضعف في تلك الأنظمة. ومع ذلك، تكشف الصورة الأوسع أن شبكة الوكلاء التابعة لإيران قد تعرضت لتآكل كبير. وفي حال التدخل العسكري المباشر من قِبل الولايات المتحدة، من المرجح أن يكون اعتماد طهران على هذه الجماعات غير كافٍ لمعادلة قدرات إسرائيل.
أما الركيزة الثالثة – وربما الأهم – للنظام الإيراني، فهي برنامجه النووي. وبينما تصف إسرائيل الحرب الحالية بأنها حملة لتفكيك هذا البرنامج، يبقى السؤال المحوري: هل هذا الهدف ممكن التحقيق دون تدخل أميركي مباشر؟
تُعد منشأة فوردو النووية، التي قصفتها القوات الأميركية في 22 يونيو، واحدة من أهم المنشآت النووية الإيرانية. هذه المنشأة شديدة التحصين، المبنية داخل جبل، تضم أجهزة طرد مركزي متقدمة وتلعب دورًا رئيسيًا في قدرات إيران على تخصيب اليورانيوم. ويتفق معظم الخبراء على أن تعطيل هذه المنشأة يتطلب استخدام القنابل الخارقة للتحصينات من طراز GBU-57A/B، والتي صُمّمت للوصول إلى الأهداف المدفونة على أعماق كبيرة. ولا يمكن إسقاط هذه القنابل إلا بواسطة قاذفات الشبح الأميركية B-2، وهو ما يسلّط الضوء على نقطة حاسمة مفادها أن تحييد البرنامج النووي الإيراني بالكامل يتجاوز القدرات العسكرية الحالية لإسرائيل، ويُظهر مرة أخرى أن التدخل الأميركي يظل عنصرًا حاسمًا.
توضح السطور السابقة العناصر الأساسية التي يتعين على إسرائيل تفكيكها داخل بنية النظام الإيراني كي تتمكن من إعلان النصر. ويبدو أن التدخل الأميركي يشكّل عاملاً حاسمًا في هذه المعادلة، إذ من غير المرجح أن تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها بمفردها.
استنادًا إلى ذلك، يمكن أن تتخذ مجريات الحرب أحد ثلاثة سيناريوهات محتملة. يندرج اثنان منها تحت مظلة “بقاء النظام”: في السيناريو الأول، يخرج النظام أقوى مما كان عليه، وهو احتمال مقلق للغاية لإسرائيل وحلفائها في الغرب؛ أما السيناريو الثاني، فيتضمن بقاء النظام الإيراني، ولكن في حالة ضعف شديد، بعد أن يكون قد فقد الكثير من قدراته ونفوذه الإقليمي، ليركّز على البقاء الداخلي لا أكثر. أما السيناريو الثالث، فيتمثل في الانهيار الكامل للنظام، وما قد يتبعه من إقامة حكومة موالية في طهران، تنسجم مع المصالح الإسرائيلية والأميركية.
في واحد من أكثر السيناريوهات ترجيحًا وتعقيدًا في سياق المواجهة بين إسرائيل وإيران، يظلّ “الجمهورية الإسلامية” قائمة من حيث الشكل، لكنها تتلاشى من حيث الدور الفعلي. إذ يتصوّر هذا السيناريو نظامًا يحتفظ بالسلطة اسما وشكلا، لكنه يُجرَّد من أدواته القسرية، ووزنه الاستراتيجي، ونفوذه الأيديولوجي. فلا يعود مصدر رهبة أو تأثير أو ردع خارج حدوده، بل يتحوّل إلى ثيوقراطية معزولة، تكافح من أجل الحفاظ على مكانتها وسيطرتها ضمن حدودها الداخلية.
من المرجّح أن يأتي هذا السيناريو نتيجة نجاح إسرائيل – وربما الولايات المتحدة أيضًا – في تفكيك البنية التحتية النووية الإيرانية، وتصفية شبكات وكلائها الإقليميين. فغياب القدرة على تخصيب اليورانيوم، أو تطوير قدرات باليستية، أو إدارة وكلاء في لبنان والعراق وسوريا واليمن، يعني خسارة “العمق الاستراتيجي” الذي طالما اعتمدت عليه الجمهورية الإسلامية، وفقًا لتعبير المسؤولين الإيرانيين أنفسهم. لكن، لا يعني زوال الأسلحة والوكلاء انهيارًا فوريًا للنظام، بل يدخل في حالة هشّة من “اللاموت واللاحياة”. وقد يبقى رجال الدين الحاكمون في السلطة، لكن قدرتهم على تهديد الدولة العبرية تصبح بلا جدوى.
إقليميًا، سيُحدث غياب إيران – ولو جزئيًا – تحوّلاً كبيرًا في موازين القوى في الشرق الأوسط. قد تنعم خصومها الإقليميون براحة مؤقتة، لكن الفراغ المفاجئ قد يولّد أشكالًا جديدة من عدم الاستقرار. ففي المناطق التي شغلت فيها الميليشيات المدعومة من طهران فراغات سياسية، قد تنفجر صراعات جديدة على النفوذ، ما يفتح الباب أمام فوضى محتملة أو تدخل من قِبل دول منافسة أو جهات من غير الدول.
النتيجة الأكثر كارثية بالنسبة لإسرائيل قد تتمثل في خروج النظام الإيراني من الحرب ليس فقط سليمًا، بل وقد تعززت مكانته بشكل كبير. في هذا السيناريو، من المرجّح أن يُولي النظام الإيراني الأولوية لإعادة بناء وتعزيز نفوذه الإقليمي عبر شبكته الواسعة من الوكلاء، المعروفة بـ “محور المقاومة”. وعلى الرغم من الانتكاسات التي مُني بها هؤلاء الحلفاء في السنوات الأخيرة، إلا أنه يُتوقّع أن تعمل طهران على إعادة تسليح وتدريب حزب الله في لبنان، وحماس في غزة، وقوات الحشد الشعبي في العراق، والحوثيين في اليمن. ورغم أن بعض هذه الجماعات أبدت ترددًا في الانخراط الكامل إلى جانب إيران خلال التصعيدات الأخيرة، تبقى الشبكة ورقة استراتيجية حاسمة بيد طهران، تُمثّل درعًا دفاعيًا ضد الهجمات المباشرة، وأداة لإبقاء المنطقة في حالة من عدم الاستقرار والصراعات بالوكالة.
في الواقع، قد تؤدي الحرب إلى زيادة احتمالات تطوير إيران لسلاح نووي في المستقبل. فحتى بعد الضربة الأمريكية في 22 يونيو، لا تزال الأضرار الحقيقية التي لحقت بالبنية التحتية النووية الإيرانية غير واضحة. تمتلك إيران منشأتين محصنتين للتخصيب: “نطنز” و”فوردو”. ورغم استهداف نطنز من قبل إسرائيل، وتدمير معدات سطحية وقطع التيار الكهربائي عن قاعات التخصيب تحت الأرض، إلا أن مدى الضرر الذي لحق بأجهزة الطرد المركزي بسبب هذا الانقطاع لا يزال غير معروف. أما “فوردو”، الذي يُعد أكثر تحصينًا وعمقًا ويضم آلاف أجهزة الطرد المركزي المتقدمة التي تخصّب اليورانيوم إلى مستويات قريبة من الاستخدام العسكري، فهو خارج نطاق القدرة التدميرية الإسرائيلية، ولا يمكن تحييده إلا من خلال تدخل أميركي مباشر، كما أُشير سابقًا.
وقد تختار طهران خفض التصعيد، من خلال تعليق أنشطة التخصيب، كخيار لتجنّب مواجهة شاملة وحماية النظام من الانهيار. إلا أن التجارب السابقة تشير إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل لم تُقدّما أي ضمانات بأن مثل هذا التراجع سيؤدي إلى تخفيف الضغوط أو تحسين الظروف. بل على العكس، قد تدفع الحرب إيران إلى إعادة بناء برنامجها النووي بأساليب أكثر سرية وحصانة، ما قد يفتح الطريق أمام تطوير سلاح نووي في المستقبل القريب أو البعيد. وفي ظل ضعف وكلائها، وتآكل قدراتها العسكرية التقليدية، وتزايد عدائية بيئتها الاستراتيجية، قد ترى طهران أن امتلاك القدرة النووية هو خيارها الاستراتيجي الوحيد المتبقي لحماية بقاء النظام.
حتى وإن لم تتجه إيران فورًا نحو امتلاك السلاح النووي، فقد تتخذ خطوات لإزالة القيود القائمة حاليًا، مثل الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، أو تنفيذ تدابير تُحصّن برنامجها ضد أي ضربات عسكرية مستقبلية. مثل هذا التحوّل سيمثّل انتقالًا من سياسة الغموض الاستراتيجي إلى سياسة الردع النووي الصريح، لا بدافع أيديولوجي بالضرورة، بل انطلاقًا من شعور بوجود تهديد وجودي يُحتّم هذا المسار.
هذا التحول يُشبه إلى حد بعيد المسار الذي سلكته كوريا الشمالية: برنامج نووي بدأ غامضًا ثم تحوّل إلى ردع صريح في مواجهة التهديدات الخارجية. وقد يكون الحساب الداخلي في طهران يسير في الاتجاه ذاته. وإذا نجحت إيران في ذلك، فإن النظام سيخرج من هذه الحرب وقد تحوّل إلى قوة عظمى إقليمية.
أما في حال انهيار النظام الإيراني، فإن غياب الحكومة المركزية سيؤدي على الأرجح إلى فراغ ضخم في الحكم والأمن، على غرار ما حدث في ليبيا بعد سقوط معمر القذافي. كما في الحالة الليبية، فإن طيفًا واسعًا من الجماعات المسلحة من غير الدول، بما في ذلك الميليشيات العرقية والانفصالية، قد يسارع إلى استغلال هذا الفراغ في إيران. وقد يطال الانقسام حتى المؤسسة العسكرية الإيرانية نفسها، مع تغيّر الولاءات وحدوث انشقاقات، ما يزيد من ضعف الدولة ويُفاقم خطر اندلاع صراعات داخلية واسعة النطاق. كما أن طهران كانت تعتمد منذ سنوات على شبكة من الوكلاء الإقليميين، مثل حزب الله والميليشيات العراقية والحوثيين، لتوسيع نفوذها. وفي حال سقوط النظام، فإن فقدان السيطرة المركزية على هذه الشبكات قد يؤدي إلى تحوّلها إلى كيانات أكثر استقلالًا أو حتى إلى تفككها، الأمر الذي من شأنه أن يوسّع نطاق نشاطها وتأثيرها بطرق غير متوقعة، ويُسهم في خلق مشهد أمني إقليمي أكثر اضطرابًا.
يتجاوز خطر الفراغ الأمني في إيران مسألة الميليشيات الموالية لطهران، إذ إنه قد يفتح المجال أيضًا أمام صعود جماعات متطرفة مثل “داعش – خراسان” و”داعش – سوريا” من جديد. هذه التنظيمات أثبتت قدرتها على تنفيذ هجمات تتجاوز حدود الشرق الأوسط، وإذا ما تراجعت الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب وسط حالة الفوضى، فإنها قد تعيد تجميع قواها، وتسيطر على أراضٍ جديدة، وتُعيد رسم خارطة التهديدات المتطرفة إلى ما هو أبعد من حدود إيران. ونظرًا لوجود شبكات قائمة فعلًا، واحتمال ظهور أخرى، فإن المخاوف من انتشار الفوضى والتطرف إقليميًا تُعد مبررة تمامًا.
ومن أبرز المخاطر الأخرى المرتبطة بانهيار النظام الإيراني، احتمال وقوع الأسلحة العسكرية في أيدي غير مصرح لها بذلك. فالحرس الثوري الإيراني يسيطر على ترسانة ضخمة من الصواريخ الباليستية المتطورة، من بينها صواريخ متوسطة المدى قادرة على الوصول إلى إسرائيل، مثل صاروخ “خرمشهر” الذي يبلغ مداه 2000 كيلومتر، ويمكنه حمل رأس حربي يزن 1500 كجم. وبالإضافة إلى الصواريخ، تمتلك القوات النظامية الإيرانية (الجيش الإيراني) مخزونًا كبيرًا من الأسلحة التقليدية، بما في ذلك أكثر من 200 دبابة قتال، وآلاف من عربات المشاة القتالية، ووحدات المدفعية، وأنظمة الدفاع الجوي، فضلًا عن تنوّع هائل من الأسلحة الخفيفة.
وفي حال تلاشي السلطة المركزية، فإن هذا الفراغ الأمني قد يُفضي إلى تسرب هذه الأسلحة خارج سيطرة الدولة. وتُعد المقارنة مع ليبيا بعد سقوط القذافي ذات دلالة، حيث انتشرت الأسلحة حينها في الإقليم بشكل كبير. ومع ذلك، فإن حالة ليبيا، رغم فوضويتها، أدّت إلى انتشار أقل بكثير من المتوقع للأسلحة المتطورة. فعلى سبيل المثال، تُشير التقديرات إلى أن نحو 7% فقط من الأسلحة التي عُثر عليها في منطقة الساحل مصدرها ليبيا، ومعظمها أسلحة قديمة مُحوّلة من جيوش محلية.
بالعودة إلى شبكات الوكلاء التابعة لإيران، فإن هذه الجماعات تمتلك بالفعل ترسانة من الأسلحة المتطورة، بما في ذلك الطائرات المسيّرة المتقدمة، والصواريخ المضادة للدبابات، وقاذفات القنابل الصاروخية، والأسلحة الخفيفة. كما أن إيران وحزب الله قاما بتهريب أنواع متعددة من الأسلحة إلى مناطق النزاع، مثل العبوات الناسفة، والألغام المضادة للدبابات، وقاذفات القنابل، والصواريخ المحمولة على الكتف. وفي سيناريو انهيار النظام، قد تستغل شبكات التهريب القائمة والجهات الفاعلة غير الحكومية ذات الخبرة الوضع بسرعة للحصول على مزيد من العتاد العسكري الإيراني المتطور وإعادة توزيعه.
وتبرز أيضًا مخاوف خطيرة مرتبطة بالأسلحة الكيميائية. ووفقًا للقيادة المركزية الأميركية، تحتفظ إيران ببرنامج نشط للأسلحة الكيميائية، يتضمن تطوير مواد دوائية ذات استخدام هجومي. وفي حال فقدان السيطرة على هذا البرنامج وسط حالة الفوضى، فقد تكون العواقب مدمّرة داخل إيران وخارجها، على امتداد الإقليم. وإذا ما وقعت هذه الأسلحة في أيدي جماعات متطرفة — كما حدث في ليبيا بعد سقوط القذافي — فإن الخطورة تتضاعف في الحالة الإيرانية، نظرًا لحجم الترسانة الإيرانية وتطوّرها، فضلًا عن الروابط العميقة التي تربط طهران بعدد كبير من الجماعات المسلحة. وإذا استولت فصائل مختلفة، بما في ذلك التنظيمات المتطرفة، على هذه الأسلحة، فإن ذلك سيُحدث زلزالًا في استقرار المنطقة ويُهدد الأمن الدولي بشكل مباشر.
أما على المستوى الإنساني، فإن انهيار الحكومة الإيرانية قد يُطلق شرارة أزمة لجوء غير مسبوقة، ربما تُصبح الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية. إذ يبلغ عدد سكان إيران أكثر من 92 مليون نسمة — أي نحو أربعة أضعاف عدد سكان سوريا عند اندلاع الحرب الأهلية فيها، والتي تسببت في نزوح ربع السكان. وإذا اضطرت نفس النسبة من الإيرانيين إلى الفرار، فقد يعني ذلك نحو 23.4 مليون لاجئ، ما يُشكّل زيادة بنسبة 76% في عدد اللاجئين عالميًا. ولا يشمل هذا الرقم ما يقرب من 3.5 ملايين لاجئ أفغاني يعيشون حاليًا في إيران، والذين من المرجّح أن يحاولوا الهرب أيضًا ضمن موجة النزوح الكبرى.
ستواجه الدول المجاورة تحديات هائلة في استيعاب هذا التدفق الجماعي من اللاجئين. من المرجح أن تكون العراق وأذربيجان، وكلاهما ذو غالبية شيعية، من الوجهات الرئيسية للاجئين الإيرانيين الشيعة. ومع ذلك، فإن وصول ملايين الإيرانيين الشيعة قد يُحدث اضطرابًا كبيرًا في النظام السياسي الهش في العراق. أما تركيا، التي سبق أن استقبلت أعدادًا كبيرة من اللاجئين السوريين السنّة، فقد تكون أقل ترحيبًا بالإيرانيين الشيعة. وقد تشهد أرمينيا أيضًا تدفق عشرات أو مئات الآلاف من اللاجئين من شمال إيران، بمن فيهم أقلية الأرمن العرقية، الأمر الذي سيشكّل عبئًا ثقيلًا على اقتصادها ونسيجها الاجتماعي، وقد يفاقم التوترات الجيوسياسية في المنطقة.
ويقترح بعض الخبراء أن دول الخليج قد تستضيف مؤقتًا بعض العمال أو المهاجرين الإيرانيين من الطبقات الثرية، كما فعلت في بعض الحالات خلال الحرب السورية. ومع ذلك، فإن حجم النزوح المحتمل من إيران سيتجاوز طاقة موارد وخدمات المنطقة. وستحتاج الدول المستضيفة إلى التفكير في فتح اقتصاداتها لاستيعاب أعداد كبيرة من العمال الجدد، والتعامل مع الضغوط المالية، ومنع حدوث اضطرابات سياسية ناتجة عن حالة الغموض الاقتصادي.
وباختصار، فإن الحرب الدائرة حاليًا بين إيران وإسرائيل ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل معركة وجودية تهدد بقاء النظام الإيراني نفسه. ومع تفكك شبكاته الإقليمية من الوكلاء، وتعرض ترسانته الصاروخية للخطر، واشتداد الضغوط على برنامجه النووي، يواجه النظام احتمال الانهيار، وهو انهيار قد لا يعني مجرد تغيير في القيادة، بل تفكك الدولة الإيرانية ذاتها. ومع ذلك، فإن بقاء النظام وخروجه من الحرب أكثر جرأة لا يقل خطورة، إذ قد يؤدي إلى إعادة تشكيل ميزان القوى في الشرق الأوسط. سواء عبر الانهيار أو التعافي، فإن المنطقة تقف على أعتاب تحوّل جذري عميق.
Al Jazeera. “A Simple Visual Guide to Iran and Its People.” Al Jazeera, June 20, 2025. https://www.aljazeera.com/news/2025/6/20/a-simple-visual-guide-to-iran-and-its-people
“Assad’s Collapse Fractures Iranian Axis, but Ensuing Chaos Could Batter Rest of Region.” Times of Israel. https://www.timesofisrael.com/assads-collapse-fractures-iranian-axis-but-ensuing-chaos-could-batter-rest-of-region/
“Can Israel Destroy Iran’s Nuclear Program?” Foreign Affairs. https://www.foreignaffairs.com/israel/can-israel-destroy-iran-nuclear-program
Chatham House. “How the Axis Was Formed and How It Has Evolved.” Chatham House, March 2025. https://www.chathamhouse.org/2025/03/shape-shifting-axis-resistance/02-how-axis-was-formed-and-how-it-has-evolved
“Collapse of Iranian Regime Could Have Unintended Consequences.” Reddit. https://www.reddit.com/r/geopolitics/comments/1lficyl/collapse_of_iranian_regime_could_have_unintended/
“Demographics of Iran – 2025.” Worldometer. https://www.worldometers.info/demographics/iran-demographics/
Dehghan, Saeed Kamali. “Israel’s Attack Has Exposed Iran’s Lack of Firepower – but Conflict Could Yet Turn in Tehran’s Favour.” The Guardian, June 19, 2025. https://www.theguardian.com/world/2025/jun/19/israels-attack-has-exposed-irans-lack-of-firepower-but-conflict-could-yet-turn-in-tehrans-favour
“Economy of Iran Past the Point of No Return.” Modern Diplomacy, November 15, 2024. https://moderndiplomacy.eu/2024/11/15/irans-economy-past-the-point-of-no-return/
EIS MENA. “Iran after the Death of Raissi: Internal Challenges and External Issues.” EIS MENA, May 31, 2024. https://eismena.com/en/article/iran-after-the-death-of-raissi-internal-challenges-and-external-issues-2024-05-31
“Examining Internal and External Strategies of the Iranian Regime.” Insight Turkey. https://www.insightturkey.com/articles/how-the-iranian-regime-survived-examining-internal-and-external-strategies
“Explained: Axis of Resistance and Iran’s Proxy Network across Middle East.” NDTV. https://www.ndtv.com/world-news/israel-hamas-palestine-gaza-explained-axis-of-resistance-and-irans-proxy-network-across-middle-east-4534061
“Fall of the Assad Regime: Regional and International Power Shifts.” SWP Berlin. https://www.swp-berlin.org/publikation/the-fall-of-the-assad-regime-regional-and-international-power-shifts
Firouz, Mahvi. “The Impact of the Fall of Bashar Assad on Iran and Its People.” Atalayar, December 13, 2024. https://www.atalayar.com/en/opinion/firouz-mahvi/the-impact-of-the-fall-of-bashar-assad-on-iran-and-its-people/20241213160000208906.html
“Geopolitical Monitor: Israel’s Endgame in Iran – Collapse, Not Containment.” Geopolitical Monitor. https://www.geopoliticalmonitor.com/israels-endgame-in-iran-collapse-not-containment/
“Iran and Russia Are the Biggest Regional Losers in Assad’s Fall.” United States Institute of Peace, December 2024. https://www.usip.org/publications/2024/12/iran-and-russia-are-biggest-regional-losers-assads-fall
“Iran at a Historical Crossroads.” E-International Relations, March 25, 2025. https://www.e-ir.info/2025/03/25/iran-at-a-historical-crossroads/
“Iran Demographics 2025.” Population Pyramid. https://www.populationpyramid.net/iran-islamic-republic-of/2025/
“Iran Population 2025.” World Population Review. https://worldpopulationreview.com/countries/iran
“Iran’s Axis of Resistance Is Keeping Out of the Fight with Israel: Experts.” New York Post, June 19, 2025. https://nypost.com/2025/06/19/world-news/irans-axis-of-resistance-are-keeping-out-of-the-fight-with-israel-experts/
“Iran’s Economy Past the Point of No Return.” Modern Diplomacy, November 15, 2024. https://moderndiplomacy.eu/2024/11/15/irans-economy-past-the-point-of-no-return/
“Iran’s Proxy Network in Decline.” Arab Gulf States Institute in Washington (AGSIW). https://agsiw.org/the-decline-of-irans-proxy-network/
“Iran’s Regime on the Brink.” The Economist, June 16, 2025. https://www.economist.com/middle-east-and-africa/2025/06/16/will-irans-hated-regime-implode
“Israeli Officials: Iran Attack Needed to Stop Nuclear Ambitions.” Foreign Policy, June 17, 2025. https://foreignpolicy.com/2025/06/17/israel-iran-nuclear-program-destroy-united-states-bunker-buster/
“Israel–Iran: Attack Signals Determination to Go Nuclear.” Foreign Policy, June 16, 2025. https://foreignpolicy.com/2025/06/16/iran-israel-attack-nuclear-bomb-determination/
“Iranian Axis of Resistance: From Proxies to Enemies Abroad.” Radio Free Europe/Radio Liberty (RFE/RL). https://www.rferl.org/a/iran-axis-resistance-proxies-enemies-abroad-quds/32645674.html
“Militarily Degraded Iran May Turn to Asymmetrical Warfare.” The Conversation. https://theconversation.com/a-militarily-degraded-iran-may-turn-to-asymmetrical-warfare-raising-risk-of-proxy-and-cyber-attacks-259318
“People of Iran.” Britannica. https://www.britannica.com/place/Iran/People
“Regime Change in Iran Is Possible Only by Supporting Its Ethnic Minorities.” MEMRI. https://www.memri.org/reports/regime-change-iran-possible-only-supporting-its-ethnic-minorities
Stimson Center. “Reform Is Happening in Iran—and Assad’s Fall Could Accelerate It.” Stimson Center, 2025. https://www.stimson.org/2025/reform-is-happening-in-iran-and-assads-fall-could-accelerate-it/
“The Axis of Resistance Returns to Its Local Roots.” The Century Foundation. https://tcf.org/content/report/the-axis-of-resistance-returns-to-its-local-roots/
“The New Arab. “What the Fall of Assad Means for Iran’s Regional Influence.” The New Arab. https://www.newarab.com/analysis/what-fall-assad-means-irans-regional-influence
“The Persistence of Iran’s Axis of Resistance.” ISPI Online. https://www.ispionline.it/en/publication/the-persistence-of-irans-axis-of-resistance-209812
“Understanding the Iran Nuclear Deal.” Council on Foreign Relations. https://www.cfr.org/backgrounder/what-iran-nuclear-deal
“What Happens If the Iranian Regime Falls?” New Statesman, June 2025. https://www.newstatesman.com/comment/2025/06/what-happens-if-the-iranian-regime-falls
World Bank. “Iran Population.” Worldometer. https://www.worldometers.info/world-population/iran-population/
Ynet News. “Iranian Missiles and Israel’s Counterstrategy.” Ynet News. https://www.ynetnews.com/article/hy35sje4gx
تعليقات