كتب بواسطة
في خضم لقاءات ترامب مع نظرائه الروس والأوكرانيين بهدف التوصل إلى وقفٍ طويل الأمد لإطلاق النار، تبرز تساؤلات حول إمكانية نجاح خطة سلام بين موسكو وكييف بوساطة أميركية. غير أنّ مطالب بوتين من جهة، ووعود ترامب الغامضة لزيلينسكي من جهة أخرى، تثير الشكوك حول ما إذا كانت الحرب في أوكرانيا ستصل إلى نهايتها حقاً.

المطالب الروسية – الأوكرانية المتعارضة

تكشف المطالب المتعارضة بين روسيا وأوكرانيا عن حالة جمود معقّدة تحدد مآلات وقف إطلاق النار وآفاق المفاوضات السلمية. ففي الاجتماع الذي عُقد في 15 أغسطس بألاسكا بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي دونالد ترامب، عرضت موسكو مجموعة من الشروط المسبقة تعكس أهدافها الاستراتيجية التي سبقت العملية العسكرية في أوكرانيا. وتمثلت هذه المطالب في تقديم ضمانات أمنية تحول دون انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، وتقييد حجم القوات المسلحة الأوكرانية، ومنع وجود قوات غربية على الأراضي الأوكرانية، والتنازل عن منطقة دونباس التي تسيطر روسيا حالياً على نحو 88% منها. وفي المقابل، أبدى بوتين استعداداً لتجميد المكاسب الإقليمية الروسية في خاركيف وزابوريجيا، والتنازل عن بعض المناطق التي تم الاستيلاء عليها في خاركيف وسومي ودنيبروبتروفسك، في خطوة تبرز محاولة موسكو ترسيخ مكاسبها الميدانية مع الحدّ من القدرات العسكرية الأوكرانية.

 

على الأرض، تواصل القوات الروسية مساعيها للسيطرة على كامل إقليم دونيتسك، غير أنّ تقدمها يسير بوتيرة بطيئة. وتبقى منطقة زابوريجيا المتنازع عليها بؤرة توتر رئيسية، لا سيما بالقرب من محطة الطاقة النووية التي استولت عليها موسكو في وقت مبكر من النزاع. ورغم مقترح بوتين تنسيق الجهود النووية مع الولايات المتحدة لضمان السلامة، رفضت كييف ذلك رفضاً قاطعاً، في تعبير عن انعدام الثقة في نوايا موسكو وتأكيد على تفاقم المخاطر الأمنية الكامنة في الصراع.

 

وعلى النقيض، يولي الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الأولوية لوقفٍ فوري لإطلاق النار باعتباره مقدمة أساسية لمفاوضات السلام. فمع تراجع الموارد واستمرار الضغوط العسكرية، تسعى كييف إلى إنهاء الأعمال القتالية قبل القبول بأي تنازلات إقليمية جوهرية. إلا أنّ الموقف التفاوضي لأوكرانيا يظل أضعف نسبياً، لاعتماده بدرجة كبيرة على الدعم السياسي والعسكري الغربي. وقد تجسد ذلك من خلال حضور عدد من القادة الغربيين اجتماع زيلينسكي في البيت الأبيض في 18 أغسطس 2025، في إشارة واضحة إلى الدعم الدولي لمطالبة كييف بوقف إطلاق النار.

 

اقترح الحلفاء الغربيون نشر قوات في أوكرانيا بعد التوصل إلى وقف إطلاق النار لتكون بمثابة ضمانة أمنية. غير أنّ هذا الطرح قوبل برفض قاطع من بوتين الذي حذّر من أنّ أي قوات أجنبية على الأراضي الأوكرانية ستُعدّ “أهدافاً مشروعة” للقوات الروسية. ويعكس هذا الموقف عمق انعدام الثقة الاستراتيجية الذي يعرقل الجهود الرامية إلى إرساء خطة سلام قوية. وفي المقابل، يصرّ زيلينسكي على تعزيز المساعدات العسكرية الغربية باعتبارها عنصراً ضرورياً لاستمرار قدرة أوكرانيا على الدفاع.

 

تكشف هذه المطالب المتعارضة عن صراع أوسع على موازين القوى: فروسيا توظف مكاسبها الميدانية كورقة ضغط، بينما تتمسك أوكرانيا بوحدة أراضيها وتسعى إلى ضمانة أمنية أوروبية موثوقة تردع أي عدوان روسي محتمل في المستقبل. ويظل هذا التباين الجوهري في الأهداف والتصورات الأمنية عائقاً أمام إحراز تقدم نحو تسوية مستدامة.

طموح ترامب لإبرام اتفاق سلام

يعكس سعي ترامب للتوسط في اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا مزيجاً من طموحاته السياسية والواقع المعقد للصراع. ففي البداية، وقبيل قمة ألاسكا، تبنّى ترامب موقف أوكرانيا الداعي إلى وقفٍ فوري لإطلاق النار باعتباره شرطاً أساسياً لأي مفاوضات ذات مغزى. غير أنّه، وبعد لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تحوّل إلى تأييد الطرح الروسي الأوسع بشأن التوصل إلى اتفاق سلام، في دلالة على إعادة معايرة استراتيجية تعكس محاولته تحقيق توازن بين المطالب المتعارضة وسط توترات جيوسياسية متصاعدة.

 

كشف اجتماع ترامب مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض في 18 أغسطس عن موقف أميركي يتسم بدرجة من الدقة والغموض في آن واحد. فبينما قدّم ترامب تطمينات مبهمة بشأن الضمانات الأمنية لأوكرانيا، شدّد على الدور البارز الذي يتعيّن على أوروبا أن تضطلع به في هذا المجال. ويعكس هذا التركيز على مسؤولية أوروبا احتمال وجود نية أميركية لتقليص حجم الانخراط العسكري المباشر، وهو ما قد يؤثر في حسابات أوكرانيا المتعلقة بمدى اعتمادها الأمني على الولايات المتحدة. وعلاوة على ذلك، أعلن ترامب عن خطط لعقد قمة ثلاثية تجمعه مع بوتين وزيلينسكي، على أن يسبقها لقاء ثنائي بين الرئيسين الروسي والأوكراني. ويبدو أنّ هذا النهج المرحلي صُمم لتشجيع الحوار المباشر بين الطرفين المتنازعين، مع تموضع الولايات المتحدة في دور الوسيط بدلاً من الفاعل الرئيسي في مسار التسوية.

 

يبرز الدافع الواضح لدى ترامب في السعي لنيل جائزة نوبل للسلام وترسيخ إرثه كصانع سلام، كعامل يكشف الأبعاد السياسية الكامنة وراء جهوده في الوساطة. ويضفي هذا الطموح قدراً من الاستعجال على مساعيه لدفع مسار التسوية، لكنه في الوقت ذاته يثير تساؤلات حول عمق التزامه واستدامة انخراطه. فالطبيعة الراسخة لمطالب الطرفين، المتمثلة في إصرار روسيا على ضمانات أمنية ومكاسب إقليمية في مقابل تمسك أوكرانيا بالسيادة ووحدة الأراضي، تجعل احتمالات التوصل إلى تسوية سريعة ومرضية للطرفين بالغة الصعوبة. ومن ثمّ، يغدو دور ترامب أقرب إلى عملية توازن دقيقة، بهامش محدود للغاية لأي أخطاء قد تؤدي إلى تصعيد إضافي في الصراع.

 

تنطلق المصلحة الأميركية في إرساء تسوية سلمية من الحاجة إلى استقرار أوكرانيا بما يتيح الاستفادة من اتفاق المعادن الذي وُقِّع مع كييف. ويخوِّل هذا الاتفاق للولايات المتحدة استخراج المعادن من الأراضي الأوكرانية مقابل تقديم مساعدات عسكرية مستقبلية للبلاد. ويعني استمرار الحرب احتمال استحواذ روسيا على هذه الموارد أو تعرضها للاستنزاف بفعل الضربات الروسية. ورغم أنّ هذا الاتفاق لا يمنح كييف ضمانات أمنية حقيقية، فإن إنهاء الصراع يبقى أمراً حاسماً لمصالح ترامب الاقتصادية.

 

ويتماشى نهجه الحذر في التعامل مع بوتين خلال المناقشات مع استراتيجية محسوبة تهدف إلى تجنّب أي تصعيد في العمليات العسكرية قد يُعرقل جهود السلام. كما يعكس هذا النهج إدراكاً لتعقيدات المعضلة التي يفرضها الصراع؛ إذ إن صياغة اتفاق سلام قادر على تلبية المطالب الجوهرية لكل من موسكو وكييف تبدو شبه مستحيلة من دون تنازلات كبيرة. إن نجاح ترامب في تحويل خطابه إلى تقدم ملموس يعتمد ليس فقط على مهاراته الدبلوماسية، بل أيضاً على استعداد الطرفين للانخراط في المفاوضات وسط استمرار الأعمال العدائية وضغوط جيوسياسية أوسع نطاقاً.

 

هل يعيد التاريخ نفسه؟

يثير التساؤل حول ما إذا كان التاريخ سيعيد نفسه في الصراع الروسي – الأوكراني الدروس المستخلصة من مذكرة بودابست لعام 1994. فقد كان من المقرر أن تضمن هذه الاتفاقية، التي وُقِّعت بين أوكرانيا وروسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، سيادة أوكرانيا على أراضيها وأمنها مقابل تخليها الطوعي عن ترسانتها النووية، التي كانت تُعدّ في ذلك الوقت ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم. وقد وافقت أوكرانيا حينها على التخلي عن هذه القدرات الاستراتيجية، استناداً إلى تطمينات القوى الكبرى باحترام حدودها واستقلالها السياسي. إلا أنّ الحرب الدائرة تكشف بوضوح عن هشاشة تلك الضمانات؛ إذ أقدمت روسيا لاحقاً على شن عملية عسكرية واسعة النطاق ضد أوكرانيا، في دلالة على أنّ تلك الوعود كانت تفتقر إلى آليات إنفاذ فعّالة، وفشلت في ردع السلوك العدواني عندما اعتبرت موسكو أنّ مصالحها الأمنية مهددة.

 

أعاد فشل مذكرة بودابست صياغة الحسابات الاستراتيجية الأوكرانية بصورة جذرية. فبدلاً من تجديد الثقة في ترتيبات أمنية مشابهة، باتت كييف تنظر إلى مثل هذه الاتفاقيات بعينٍ ملؤها الشك العميق. وتُعدّ المذكرة على نطاق واسع في أوكرانيا بمثابة درس تحذيري يوضح حدود الضمانات الدبلوماسية في غياب آليات إنفاذ ملزمة أو ردع فعّال. ويجعل هذا السجل التاريخي أي محاولة للتفاوض على ضمانات أمنية جديدة مشابهة لإطار بودابست أكثر تعقيداً، إذ من غير المرجح أن تقبل أوكرانيا باتفاقيات لا توفر حماية ملموسة وقابلة للتنفيذ لسيادتها ووحدة أراضيها.

 

علاوة على ذلك، يبرز الرد الدولي الأوسع على الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 حجم التحديات التي تواجهها القوى الغربية في الموازنة بين التزاماتها الدبلوماسية والحقائق الجيوسياسية. فرغم أن العقوبات الاقتصادية والمساعدات العسكرية قدّمت دعماً لأوكرانيا إلى حدّ ما، فإنها لم تنجح في إجبار موسكو على وقف الأعمال العدائية أو الانسحاب من الأراضي المحتلة. ويطرح هذا الواقع مزيداً من الشكوك حول جدوى الاعتماد على مذكرات دبلوماسية وحدها كوسيلة لضمان سلام دائم.

 

في هذا السياق، تدخل جهود ترامب للوساطة بيئة شديدة التعقيد تتثاقل فيها الدروس السابقة على آفاق الدبلوماسية. فالعِبر المستخلصة من مذكرة بودابست توحي بأن أي ترتيب سلام مقترح يجب أن يتجاوز حالة انعدام الثقة العميقة، وأن يعالج فجوة التنفيذ التي جعلت الضمانات السابقة عديمة الفاعلية. إن فشل اتفاق عام 1994 يفتح فعلياً الباب أمام عدة سيناريوهات محتملة، تتشكل ملامحها من خلال تفاعل المصالح الاستراتيجية المتغيرة والوقائع الميدانية والدبلوماسية الدولية.

 

في المحصلة، يبرز الإخفاق التاريخي لمذكرة بودابست الأهمية البالغة لصياغة ضمانات أمنية تستند إلى آليات إنفاذ موثوقة وانخراط دولي فعّال. فمن دون ذلك، ستواجه أي جهود للتوسط من أجل السلام خطر تكرار أخطاء الماضي، بما يترك أوكرانيا عرضة للتهديد ويجعل الاستقرار الإقليمي هشّاً. ويشكّل هذا السياق إطاراً حاسماً لفهم الفرص والتحديات التي تواجه محاولات الوساطة الراهنة، بما في ذلك تلك التي يقودها ترامب أو يتأثر بها. وهو ما يسلط الضوء على صعوبة المسار نحو تسوية دائمة للنزاع في المنطقة.

 

سيناريوهات محتملة لجهود السلام

تشير السيناريوهات المحتملة لجهود السلام إلى مسار تسوية معقّد وشديد التنازع، مع ترجيح أن تصب النتيجة في صالح الأهداف الروسية على حساب المصالح الأوكرانية.

 

السيناريو الأول والأكثر رجحاناً يتمثل في تسوية سياسية شاملة تعود بالنفع بالدرجة الأولى على روسيا. ويتضمن مثل هذا الاتفاق تقديم أوكرانيا تنازلات إقليمية، أبرزها إضفاء الطابع الرسمي على السيطرة الروسية على إقليم دونباس، إلى جانب الرفع التدريجي للعقوبات الغربية المفروضة على موسكو. ويعكس هذا السيناريو بنودًا من مذكرة بودابست لعام 1994، التي تضمنت تخلّي أوكرانيا عن عضوية حلف الناتو مقابل الحصول على ضمانات أمنية. وفي إطار هذا الترتيب، ستجد أوكرانيا نفسها مضطرة للقبول بالمطالب الروسية الصارمة، والتنازل عن أجزاء من أراضيها السيادية، والالتزام بوضع الحياد خارج منظومة التحالف العسكري الغربي.

 

من المنظور الأميركي، ولا سيما في إطار وساطة ترامب، ينطوي هذا السيناريو على تقديم حوافز ملموسة لموسكو. وقد تشمل هذه الحوافز رفع العقوبات بشكل تدريجي، مع احتمال وقف المساعدات العسكرية الأميركية المقدمة إلى أوكرانيا. وبالتوازي، يمكن أن يتيح اتفاق السلام استئناف صادرات الحبوب عبر البحر الأسود، وإن كان ذلك تحت السيطرة الأمنية الروسية، الأمر الذي يعزز النفوذ الاستراتيجي لموسكو على طرق التجارة الإقليمية وأمن الغذاء العالمي.

 

بالنسبة لأوكرانيا، يمثّل مثل هذا الاتفاق السلمي انتهاكاً جوهرياً لسيادتها الوطنية وأمنها. فالتنازل عن أراضٍ لصالح روسيا والتخلي عن مسار الانضمام إلى حلف الناتو سيقوّضان من قدرة كييف الدفاعية المستقبلية ومن شرعيتها السياسية. وللتخفيف من حدة هذه الهشاشة، يتصور السيناريو طرح ضمانات أمنية على غرار “المادة الخامسة”، أي التزامات دفاعية متعددة الأطراف تستند إلى مبدأ الدفاع الجماعي لحلف الناتو، من شأنها أن توفر لأوكرانيا قدراً من الحماية ضد أي عدوان جديد. غير أنّ ترامب شدّد على أنّ انخراط القوات الأميركية المباشر في أوكرانيا يظل أمراً غير مرجّح، مع توقع واشنطن أن يتولى الحلفاء الأوروبيون المسؤولية الأمنية الأساسية، فيما يقتصر الدور الأميركي على دعم محدود في الخلفية. ويتسق هذا الموقف مع الأولويات الاستراتيجية الأوسع للولايات المتحدة الساعية إلى تقليص الانخراط المباشر في النزاعات الخارجية، مع الإبقاء على أطر الدعم التي يقودها الحلفاء.

 

على الصعيد الداخلي، قد يؤدّي قبول أوكرانيا بمثل هذا الاتفاق إلى إثارة حالة من عدم الاستقرار السياسي. فقد يواجه الرئيس فولوديمير زيلينسكي وحكومته ردود فعل شعبية غاضبة وضغوطاً للاستقالة، مما يفتح المجال أمام صعود شخصية سياسية موالية لروسيا، وربما تحظى بتأييد أو دعم من مصالح أميركية، لتولي المشهد. ومن شأن هذا التحول السياسي أن يعيد توجيه البوصلة الاستراتيجية والدبلوماسية لكييف، بما يجعلها أكثر تقارباً مع شروط موسكو تحت إشراف دولي.

 

ويعكس ترويج ترامب لهذا السيناريو مزيجاً من الطموح الدبلوماسي والحساب السياسي. فالتوصل إلى اتفاق سلام وفق هذه الشروط سيعزز صورته كوسيط قادر وصانع سلام، الأمر الذي يضيف إلى إرثه السياسي. وإلى جانب ذلك، فإن إعادة توجيه الموارد المخصصة حالياً لدعم أوكرانيا عسكرياً واقتصادياً نحو الأولويات الداخلية يتماشى مع نهج ترامب القائم على “أميركا أولاً”، والذي يركّز على إعادة تخصيص الأموال الأميركية لخدمة الداخل.

 

على الرغم من جاذبيته السياسية لبعض الأطراف، يواجه هذا السيناريو عقبات جوهرية. فقد رفض زيلينسكي باستمرار أي اتفاق يتضمن تنازلات إقليمية، كما أنّ البرلمان الأوكراني من غير المرجّح أن يصادق على مثل هذه الشروط. وإلى جانب ذلك، فإن استمرار حالة عدم الاستقرار والتوتر في إقليم دونباس يشير إلى أنّ أي تسوية سلمية رسمية تمس وحدة الأراضي الأوكرانية تنطوي على خطر إشعال صراعات محلية متجددة. وبالتالي، ورغم أنّ هذا السيناريو يُعدّ الأكثر ترجيحاً في ضوء الضغوط الجيوسياسية والدبلوماسية الراهنة، إلا أنّه يظل محفوفاً بمخاطر تفاقم الانقسام وتصاعد العنف في شرق أوكرانيا.

 

يُعدّ انهيار محادثات السلام السيناريو الثاني الأكثر ترجيحاً، مدفوعاً بالمواقف الراسخة لكل من روسيا وأوكرانيا، وهو ما يجعل فرص نجاح المفاوضات ضئيلة للغاية. فمع تمسك الطرفين بمطالبهما دون تنازل، يواجه المسار الدبلوماسي خطر الفشل، الأمر الذي سيطيل أمد الصراع وإن بحدة عسكرية أقل نتيجة استنزاف الموارد وتراجع القدرات. ومن المتوقع أن يتجسد هذا الجمود الطويل في استمرار الاشتباكات، وإن بوتيرة أقل، على طول خطوط التماس وداخل المناطق التي تسيطر عليها روسيا، حيث سيؤدي الاستنزاف المتزايد إلى الحد من فعالية العمليات العسكرية.

 

وفي هذا السيناريو، قد تؤدي عمليات الاغتيال الموجّهة لشخصيات سياسية وعسكرية بارزة من الجانبين إلى مزيد من زعزعة استقرار بيئة الصراع. كما ستواجه كل من موسكو وكييف نقصاً كبيراً في الذخائر والأفراد، ما سيبطئ من وتيرة الهجمات، خصوصاً في المعركة الممتدة للسيطرة على إقليم دونباس، وهو ما سيفضي عملياً إلى استمرار الوضع القائم دون تغيير يُذكر. وستبقى محطة زابوريجيا النووية نقطة اشتعال حرجة وخطيرة، إذ سيظل ضمان أمنها وسلامة تشغيلها مصدراً دائماً للتوتر واحتمالات التصعيد.

 

من المتوقع أن يستمر نظام العقوبات الغربية المفروض على روسيا، بما يحافظ على الضغط الاقتصادي رغم محدودية الاختراقات الدبلوماسية. وفي الولايات المتحدة، يُرجّح أن تدفع إدارة ترامب نحو تقليص أو حتى وقف المساعدات المقدمة إلى أوكرانيا؛ غير أنّ الدعم العسكري والاقتصادي سيستمر، لكن عند مستويات غير كافية لتمكين كييف من شن هجمات كبرى أو تغيير موازين القوى ميدانياً بشكل حاسم. وسيقيّد هذا الدعم المحدود قدرة أوكرانيا على إحداث تحوّل نوعي في ديناميات ساحة المعركة.

 

ويستمد هذا السيناريو مصداقيته من السلوكيات الدبلوماسية الأخيرة: فإصرار بوتين على رفض الدخول في محادثات مباشرة مع زيلينسكي يبرز تصلب الموقف التفاوضي لموسكو، في حين تواصل كييف التمسك بمطالبها غير القابلة للتنازل بشأن السيادة، وتدعو إلى حوار ثنائي مباشر، بما يتسق مع تموضع ترامب في مسار الوساطة. ويكشف الفشل في تحقيق حتى وقف مؤقت لإطلاق النار عن الهوة الفاصلة بين الخطاب الطموح لترامب في مجال الوساطة والحقائق العملية القائمة على الأرض.

 

على المدى البعيد، يثير هذا الجمود المطوّل تساؤلات جدية بشأن استمرارية الدعم الأوروبي والأميركي لأوكرانيا. فمع تصاعد الأعباء المالية والعسكرية، قد يجد الحلفاء الغربيون أنفسهم مضطرين إلى إعادة تقييم التزاماتهم تحت وطأة الضغوط الداخلية والحسابات الجيوسياسية، وهو ما قد يقوّض قدرة كييف على الصمود. وبالتالي، يعكس هذا السيناريو صورة قاتمة يُظلَلها غياب السلام، حيث يحدّد الاستنزاف العسكري مستوى حدة الصراع، فيما يصبح الدعم الدولي عُرضة لمزيد من الشكوك والتذبذب.

 

يتصوّر السيناريو الثالث وقفاً لإطلاق النار يجمّد خطوط الجبهة دون أن يفضي إلى تسوية سلمية شاملة. ويمثّل هذا المخرج الخيار الأكثر ملاءمةً لأوكرانيا في ظل الظروف الراهنة، إذ سيؤدي إلى وقف الهجمات الروسية في شرق وجنوب أوكرانيا، وإنهاء الضربات بالطائرات المسيّرة التي تستهدف البنية التحتية العسكرية والمدنية على حد سواء. كما سيتيح وقف إطلاق النار لكييف فرصة لتدعيم مواقعها الدفاعية، والاستفادة من زيادة إمدادات الذخيرة التي يسهّلها قانون دعم إنتاج الذخيرة (ASAP)، الهادف إلى تعزيز القدرات الإنتاجية الأوروبية لتلبية احتياجات أوكرانيا العسكرية.

 

تبرز الاعتبارات الإنسانية أيضاً كعامل أساسي يسلّط الضوء على فوائد وقف إطلاق النار. فاستقرار منطقة النزاع يُعدّ أمراً حيوياً لعودة النازحين الأوكرانيين وبدء جهود التعافي بعد الحرب، ولا سيما تلك الرامية إلى إعادة بناء الاقتصاد الأوكراني المنهك. كما أنّ وقف الأعمال العدائية سيوفر نافذة ضرورية لعمليات إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، وهما ركيزتان لا غنى عنهما لتعزيز القدرة على الصمود على المدى الطويل.

 

أما بالنسبة لروسيا، فإن تجميد خطوط النزاع سيعني سيطرة فعلية على ما يقارب 20% من الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك مناطق واسعة في لوجانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون وشبه جزيرة القرم، من دون أن تحظى هذه المكاسب باعتراف دولي رسمي. وسيتيح هذا السيناريو لموسكو الحفاظ على مزاياها الاستراتيجية في ساحة المعركة، مع تجنّب التكاليف السياسية والدبلوماسية التي قد تترتب على تسوية تفاوضية تميل لصالح أوكرانيا. إن احتمال تبادل الأراضي، الذي ألمح إليه ترامب في وقت سابق، سيشكل خسارة إقليمية جسيمة لأوكرانيا مدمجة ضمن إطار وقف إطلاق النار، مما يزيد من تعقيد موقف كييف. ومع ذلك، ستستمر العقوبات الغربية المفروضة على روسيا دون انقطاع، بما يُبقي الضغوط الاقتصادية والسياسية قائمة رغم غياب معاهدة سلام رسمية.

 

سياسياً، سيعزّز وقف إطلاق النار صورة ترامب كـ “صانع سلام”، وهو اللقب الذي يسعى إليه منذ ولايته الثانية. وسيسهم ذلك في ترسيخ إرثه السياسي عبر تصويره كعامل رئيسي في وقف الأعمال القتالية النشطة، حتى وإن ظلّ التوصل إلى تسوية دائمة بعيد المنال. وفي المقابل، يُرجَّح أن يكثّف الحلفاء الأوروبيون دعمهم الاقتصادي والعسكري لجهود إعادة إعمار أوكرانيا، مع تحوّل التركيز من العمليات الميدانية إلى التعافي والاستقرار على المدى الطويل.

 

ونظراً للطابع الممتد للنزاع والخسائر الفادحة التي تكبّدها الطرفان على مدار أكثر من ثلاث سنوات، يبدو سيناريو الهدنة الأقرب إلى التحقق في الأمد القريب. إذ سيتيح وقفة براجماتية تسمح لكل من أوكرانيا وروسيا بإعادة تقييم أوضاعهما وإعادة بناء قدراتهما العسكرية واقتصاداتهما. ومن ثم، قد تصبح المفاوضات حول اتفاق سلام دائم ممكنة في المستقبل المنظور، شريطة الالتزام المستمر بشروط وقف إطلاق النار وتطور الأوضاع الجيوسياسية على نطاق أوسع.

 

في الختام، تمتلك جهود الوساطة التي يقودها ترامب القدرة على تحفيز محادثات السلام عبر توفير إطار دبلوماسي وتشجيع قنوات الاتصال المباشر. ومع ذلك، فإن عمق الإشكاليات الكامنة في الصراع وتباين الأهداف الاستراتيجية لكل من روسيا وأوكرانيا يشيران إلى أن تحقيق اتفاق سلام دائم يتطلب ما هو أبعد من القمم رفيعة المستوى؛ إذ يستلزم مفاوضات دقيقة وطويلة النفس، وتنازلات متبادلة، فضلاً عن دعم دولي منسق لمعالجة الحقائق الأمنية والسياسية على الأرض.

المراجع

Atlantic Council experts. “Twenty questions (and expert answers) about the negotiations to end Russia’s war in Ukraine.” Atlantic Council, August 29, 2025, Accessed September 3, 2025. https://www.atlanticcouncil.org/blogs/new-atlanticist/twenty-questions-and-expert-answers-about-the-negotiations-to-end-russias-war-in-ukraine/

 

Brennan, David and Panagrosso, Kayla. “Ukraine, left out in Trump-Putin summit, fears setbacks on key peace issues.” ABC News, August 14, 2025, Accessed September 5, 2025. https://abcnews.go.com/International/ukraine-left-trump-putin-summit-fears-setbacks-key/story?id=124608507&utm_source=chatgpt.com

 

Budjeryn, Mariana and Bunn, Matthew. “Budapest Memorandum at 25: Between Past and Future.” March, 2020, Accessed September 7, 2025. https://www.belfercenter.org/publication/budapest-memorandum-25-between-past-and-future?_gl=1*1k1w7ik*_gcl_au*NTQ5ODY1OTEzLjE3NTQ3NTcwNDg.*_ga*MTk5NTM0OTI2My4xNzU0NzU3MDQ5*_ga_72NC9RC7VN*czE3NTcyNDM3MzIkbzIkZzEkdDE3NTcyNDQ1MjQkajYwJGwwJGg2MjIzNTI0NTY.#footnote-1

 

Butenko, Victoria, et. al. “US and Ukraine sign critical minerals deal after months of tense negotiations.” CNN World, May 1, 2025, Accessed September 7, 2025. https://edition.cnn.com/2025/04/30/europe/ukraine-us-mineral-deal-intl

 

Daalder, Ivo. “Trump isn’t the peacemaker he thinks he is”, Politico, August 18, 2025, Accessed September 7, 2025. https://www.politico.eu/article/donald-trump-peace-us-russia-nato-drc-m23-rebels/

 

European Commission. “The Commission allocates €500 million to ramp up ammunition production, out of a total of €2 billion to strengthen EU’s defence industry.” March 15, 2024, Accessed September 5, 2025. https://ec.europa.eu/commission/presscorner/detail/en/ip_24_1495?utm_source=chatgpt.com

 

Gia Ky, Bui. “Trump has won the strategic game of the next hundred years.” Modern Diplomacy, August 18, 2025, Accessed September 3, 2025. https://moderndiplomacy.eu/2025/08/18/trump-has-won-the-strategic-game-of-the-next-hundred-years/

 

Hutzler, Alexandra. “Key takeaways from Trump and Zelenskyy’s meeting, pivotal talks with European leaders.” ABC News, August 19, 2025, Accessed September 3, 2025. https://abcnews.go.com/Politics/key-takeaways-trump-zelenskyys-oval-office-meeting-discuss/story?id=124751645

 

Kottasová, Ivana and Butenko, Victoria. “Here’s what’s in Trump’s Ukraine minerals deal and how it affects the war.” CNN World, May 1, 2025, Accessed September 7, 2025. https://edition.cnn.com/2025/05/01/world/what-we-know-about-trumps-ukraine-mineral-deal-intl

 

Lough, John. “Four scenarios for the end of the war in Ukraine.” Chatham House, October, 2024, Accessed September 3, 2025. https://www.chathamhouse.org/sites/default/files/2024-10/2024-10-16-scenarios-end-war-ukraine-lough.pdf

 

McFall, Caitlin. “Putin issues formal demands to end Ukraine war after meeting with Trump: report.” Fox News, August 21, 2025, Accessed September 2, 2025. https://www.foxnews.com/world/putin-issues-formal-demands-end-ukraine-war-after-meeting-trump-report

 

Murra, Warren. “Ukraine war briefing: No action from Trump as another Putin deadline passes.” The Guardian, September 3, 2025, Accessed September 3, 2025. https://www.theguardian.com/world/2025/sep/03/ukraine-war-briefing-no-action-from-trump-as-another-putin-deadline-passes

 

Myre, Greg. “After meeting Putin, Trump changes his position on the need for a ceasefire.” NPR, August 17, 2025, Accessed September 3, 2025. https://www.npr.org/2025/08/17/g-s1-83183/putin-trump-ceasefire

 

Osborn, Andrew et. al. “Putin tells Ukraine: End war via talks or I will end it by force.” Reuters, September 3, 2025, Accessed September 5, 2025. https://www.reuters.com/world/europe/putin-tells-ukraine-end-war-via-talks-or-i-will-end-it-by-force-2025-09-03/?utm_source=chatgpt.com

 

Osmolovska, Iuliia, et. al. “Seven Security Scenarios on Russian War in Ukraine for 2025 – 2026: Implications and Policy Recommendations to Western Partners.” GLOBSEC, June, 2025, Accessed September 5, 2025. https://www.globsec.org/sites/default/files/2025-06/Seven%20Security%20Scenarios%20on%20Russian%20War%20in%20Ukraine%20for%202025%20-%202026%20Implications%20and%20Policy%20Recommendations%20to%20Western%20Partners.pdf

 

Ott, Haley and Chau, Nicole Brown. “Maps show Ukrainian territories claimed by Russia amid talks on possible end to war.” CBS News, August 19, 2025, Accessed September 5, 2025, https://www.cbsnews.com/news/maps-ukrainian-territories-claimed-by-russia-war/?utm_source=chatgpt.com

 

Pekar, Valerii and Dligach, Andrii. “Scenarios for the end of the war.” New Eastern Europe, September 1, 2025, Accessed September 3, 2025. https://neweasterneurope.eu/2025/09/01/scenarios-for-the-end-of-the-war/

 

“Russian Offensive Campaign Assessment, August 31, 2025.” Institute for the Study of War (ISW), August 31, 2025, Accessed September 5, 2025. https://understandingwar.org/research/russia/russian-offensive-campaign-assessment-august-31-2025/

 

Singh, Kanishka and Jones, Ryan Patrick. “Trump says he is disappointed with Putin, not worried about China-Russia ties.” Reuters, September 3, 2025, Accessed September 3, 2025. https://www.reuters.com/world/china/trump-says-he-is-disappointed-with-putin-not-worried-about-china-russia-ties-2025-09-02/

 

Vakulina, Sasha. “Analysis: What happened to Trump’s deadline for Russia’s reality check.” Euro News, September 2, 2025, Accessed September 3, 205. https://www.euronews.com/2025/09/02/two-more-weeks-what-happened-to-trumps-deadline-for-russias-reality-check

 

Walsh, Nick Paton. “Five ways the Russia-Ukraine war could end.” CNN, August 7, 2025, Accessed September 3, 2025. https://edition.cnn.com/2025/08/07/europe/analysis-how-russia-ukraine-war-ends-latam-intl

 

Winsor, Morgan and Pshemyskiy, Oleksiy. “Foreign troops in Ukraine would be considered ‘legitimate targets’ to Russia, Putin says.” ABC News, September 5, 2025, Accessed September 7, 2025. https://abcnews.go.com/International/foreign-troops-ukraine-considered-legitimate-targets-russia-putin/story?id=125296415

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *