منذ تأسيسها في عام 1945، أدّت منظمة الأمم المتحدة دوراً محورياً في ترسيخ التعاون الدولي وتعزيز السلام والأمن على الصعيد العالمي. غير أن قدرة المنظمة على الاضطلاع بمهامها الحيوية تعتمد بدرجة أساسية على المساهمات المالية المقدّمة من الدول الأعضاء. تتوزّع موازنات الأمم المتحدة على عدة بنود رئيسية، تشمل: الميزانية العادية، التي تغطي نفقات المهام السياسية وأعمال الجمعية العامة ومجلس الأمن وملفات حقوق الإنسان والشؤون القانونية؛ وميزانية حفظ السلام، المخصصة لتمويل بعثات الأمم المتحدة في مناطق النزاع؛ إلى جانب الميزانيات الطوعية، التي تموّل أنشطة وكالات مثل مفوضية اللاجئين، ومنظمة الصحة العالمية، وبرنامج الأغذية العالمي، وغيرها من الهيئات الأممية ذات الطابع الإنساني. وبحسب ما أعلنته المنظمة، فإنها تواجه في الوقت الراهن عجزاً مالياً هائلاً يُهدد بقدرتها على مواصلة أداء دورها العالمي، الأمر الذي قد يُفضي إلى تقويض أسس الأمن والاستقرار الدوليين.
علاوة على ذلك، فإن تفاقم العجز المالي للأمم المتحدة ينذر بجملة من التداعيات الجسيمة، من أبرزها: تفاقم الأزمات الإنسانية، وفتح المجال أمام المنظمات الإقليمية لملء الفراغ الذي قد تخلّفه المنظمة الأممية، فضلاً عن تعريض النظام الدولي، الذي ظل قائماً منذ نهاية الحرب الباردة، إلى اهتزازات حادة تهدد استمراريته.
تقوم الجمعية العامة للأمم المتحدة بإقرار الميزانية العادية للمنظمة بشكل سنوي. وفي عام 2025، بلغ حجم الميزانية نحو 3.7 مليار دولار، مقارنةً بحوالي 5.6 مليار دولار في عام 2024، و6.1 مليار دولار في عام 2023. ويعكس هذا التراجع المتسارع في الميزانية السنوية للأمم المتحدة عجزها المتزايد عن تأمين التمويل اللازم من الدول الأعضاء.
وحتى شهر مايو 2025، لا تزال الدول الأعضاء مدينة للمنظمة بنحو 2.4 مليار دولار من المتأخرات في الميزانية العادية، إضافة إلى ما يقرب من 2.7 مليار دولار مستحقة لعمليات حفظ السلام. وقد أبلغت الأمم المتحدة الدول الأعضاء بأنها ستضطر إلى خفض ميزانية عام 2026 بنسبة 17٪، أي ما يعادل 600 مليون دولار من أصل 3.7 مليار، وهو ما قد يدفعها إلى تجميد عمليات التوظيف وعدم تجديد عقود عدد كبير من موظفيها، مما سيقوّض قدرتها على تنفيذ مهامها بكفاءة.
وبالنظر إلى التطورات المتسارعة على الساحة الدولية، مثل الحرب الروسية الأوكرانية، وحرب إسرائيل وحماس، وحرب إسرائيل وإيران، كان من المتوقع أن تعمل الأمم المتحدة على زيادة ميزانيتها السنوية لاستيعاب هذه التحديات وضمان الحفاظ على السلام والأمن الدوليين. إلا أن عجز المنظمة عن إقناع الدول المساهمة بسداد مستحقاتها الحالية أو بزيادة مساهماتها، يعكس تصاعد الشكوك الدولية بشأن فاعلية الأمم المتحدة، في وقت باتت فيه الدول تميل إلى تخصيص مواردها المالية داخليًا لمواجهة التهديدات الأمنية المباشرة.
فعلى سبيل المثال، اتخذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطوات لخفض تمويل الولايات المتحدة الموجه إلى الأمم المتحدة. ففي 4 فبراير 2025، وقّع ترامب أمرًا تنفيذيًا يقضي بانسحاب بلاده من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة (UNHRC)، ووقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، مع إطلاق مراجعة شاملة لجميع أوجه تمويل المنظمة.
وعلاوة على ذلك، تضمّن مشروع الموازنة المقترح من إدارة ترامب لعام 2026 تخفيضًا حادًا في الإنفاق الفيدرالي على الشؤون الدولية من 58.7 مليار دولار إلى 9.6 مليار فقط. وإن تم تنفيذ هذه الخطط، فستُقيد بشكل مباشر قدرة الأمم المتحدة على أداء وظائفها، وستضعف إمكاناتها في صون السلم والأمن الدوليين.
إن تراجع دور الأمم المتحدة من شأنه أن يُلقي بظلاله الثقيلة على عمليات حفظ السلام التي تضطلع بها المنظمة في مختلف أنحاء العالم. ففي الوقت الراهن، تنشر الأمم المتحدة نحو 68,536 فرداً في إطار 11 بعثة لحفظ السلام، منتشرين في كلٍّ من كوسوفو، وقبرص، ومرتفعات الجولان، ولبنان، والقدس في فلسطين، وأبيي، وجنوب السودان، وجمهورية إفريقيا الوسطى، والكونغو، والصحراء الغربية، فضلاً عن الحدود بين الهند وباكستان.
وقد يؤدي تقليص تمويل الأمم المتحدة إلى تقليص عدد الموظفين العاملين في هذه البعثات، مما يعني أن قوات حفظ السلام قد تعجز عن تنفيذ المهام الموكلة إليها، الأمر الذي من شأنه أن يُهدد ترتيبات السلام في مناطق النزاع، ويزيد من احتمالية اندلاع المواجهات مجددًا بين الأطراف المتصارعة.
كما أن تراجع دور الأمم المتحدة سيقوّض ثقة الدول الأعضاء في فاعلية المنظمة ومؤسساتها التابعة، وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي، وهو ما قد يدفع بعض الدول إلى تفضيل استخدام القوة بدلاً من الوسائل الدبلوماسية لتسوية خلافاتها السياسية، بما ينذر بارتفاع ملحوظ في وتيرة الصراعات والنزاعات الدولية. وفي الواقع، فإن فشل الأمم المتحدة حتى الآن في وضع حدّ لحرب إسرائيل وحماس، وكذلك الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، يكشف عن عجز مجلس الأمن الدولي عن اتخاذ إجراءات فعالة لضمان الأمن والسلم العالميين، الأمر الذي قد يدفع الدول إلى الاعتماد على قدراتها الذاتية لإنهاء النزاعات على أراضيها، في ظل غياب دور أممي حاسم.
ومن جهة أخرى، فإن الأزمة المالية الخانقة التي تعاني منها الأمم المتحدة قد تدفعها إلى ترشيد إنفاقها عبر اتخاذ عدد من الإجراءات، من أبرزها عدم تجديد عقود آلاف الموظفين العاملين في كياناتها المختلفة، وعلى رأسها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين وبرنامج الأغذية العالمي. ولن يقتصر أثر هذه الإجراءات على تقليص القدرات التشغيلية للمنظمة فحسب، بل قد يتسبب أيضًا في تأخير إيصال المساعدات الإنسانية، وتعطيل نشر قوات حفظ السلام، وإبطاء الاستجابة للأزمات الطارئة.
من شأن العجز المالي الكبير الذي تعاني منه الأمم المتحدة أن يؤدي إلى تفاقم أزمة إنسانية عالمية غير مسبوقة، لاسيما فيما يتعلق بأوضاع اللاجئين. ففي الوقت الراهن، تُشرف المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) على أكثر من 36.8 مليون لاجئ، وتقدّم مساعدات مالية لنحو 8.4 ملايين طالب لجوء، فضلاً عن 5.9 ملايين لاجئ آخرين ضمن ولاية وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا). وسيؤدي هذا العجز المالي إلى تقليص حجم المساعدات المقدّمة للاجئين وطالبي اللجوء، مما يعرضهم لمزيد من المخاطر والمعاناة. كما قد يتسبب هذا العجز في تعليق العديد من الخدمات الحيوية التي توفرها الأمم المتحدة، مثل مياه الشرب النظيفة، والمأوى، والرعاية الصحية، والتعليم.
وستكون الفئات الأكثر هشاشة – وعلى رأسها النساء، والأطفال، وكبار السن، وذوو الإعاقة – أول من يدفع ثمن هذه التخفيضات، إذ سيواجهون مخاطر متزايدة من سوء التغذية، والأمراض، والاستغلال. كما أن تقليص تمويل اللاجئين سيزيد من الأعباء الاقتصادية على الدول المضيفة، التي تعاني العديد منها أصلاً من أزمات اقتصادية حادة تحدّ من قدرتها على تقديم دعم إضافي للاجئين. فعلى سبيل المثال، يستضيف لبنان نحو 1.5 مليون لاجئ سوري، بالإضافة إلى ما يقارب 489,000 لاجئ فلسطيني، في ظل أزمة اقتصادية خانقة تهدد استقرار الدولة ذاته. ونتيجة لذلك، قد تتجه بعض الدول المضيفة إلى فرض قيود صارمة على استقبال لاجئين جدد، وقد تلجأ حتى إلى ترحيل الموجودين لديها قسراً إلى بلدانهم الأصلية أو إلى دول مجاورة. وفي حال عدم وجود بدائل لتعويض الدور الذي كانت تقوم به الأمم المتحدة، قد يجد العديد من اللاجئين أنفسهم مجبرين على الانخراط في أنشطة غير قانونية من أجل البقاء على قيد الحياة وتأمين احتياجات أسرهم. فالتعرض للجوع، وغياب المأوى، وانعدام الخدمات الطبية قد يدفع بعض اللاجئين إلى التورط في أعمال مخالفة للقانون، بينما قد يتجه آخرون ممن يشعرون بالإقصاء والتمييز والإهمال إلى ارتكاب جرائم عنف بدافع الانتقام من الدول المضيفة التي عجزت عن توفير بديل لدور الأمم المتحدة.
ومن شأن هذه التطورات أن تؤدي إلى زيادة حدة التوتر بين اللاجئين والمجتمعات المحلية في البلدان المضيفة، لا سيما إذا بدأت الفئات المحلية في الربط بين ارتفاع معدلات الجريمة ووجود اللاجئين، وهو ما سيقوّض العلاقات الاجتماعية بين الطرفين ويهدد الاستقرار والوحدة داخل المجتمعات المضيفة. وعلاوة على ذلك، فإن الحاجة الشديدة بين صفوف اللاجئين قد تجعلهم عرضة للاستقطاب من قبل أجهزة استخباراتية أجنبية، عبر تجنيدهم مقابل المال للقيام بأنشطة تجسس، وهو ما يطرح تهديداً أمنياً إضافياً. ومع مرور الوقت، قد تتفاقم الانقسامات الاجتماعية، ويتراجع الدعم الشعبي لقضية اللاجئين بشكل كبير.
لا يقتصر تأثير الأزمة المالية التي تواجهها الأمم المتحدة على الجوانب الإنسانية فحسب، بل يمتد ليشمل تداعيات سياسية عميقة. ففي حال عجزت الأمم المتحدة عن أداء مهامها الجوهرية، مثل حفظ السلام، وتقديم المساعدات الإنسانية، وتسوية النزاعات الدولية، فإن ذلك من شأنه أن يُحدث فراغًا سياسيًا خطيرًا في بنية النظام الدولي. لطالما كانت الأمم المتحدة بمثابة المنبر الذي تُمكّن من خلاله الدول، ولا سيما الضعيفة أو الفقيرة منها، من إيصال صوتها والمشاركة في صياغة القرارات العالمية. وإن تلاشي هذا الدور سيفرض على العديد من الدول التوجّه نحو الاعتماد المتزايد على المنظمات الحكومية الإقليمية، مثل الاتحاد الإفريقي، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبي.
إلا أن هذه المنظمات، وإن كانت تمتلك شرعية سياسية إقليمية، لا تحظى بنفس القدرات المؤسسية أو المالية التي تتمتع بها الأمم المتحدة، مما يعني أن تركيزها سينصبّ بشكل رئيسي على الشؤون الإقليمية. مع ذلك، قد تسعى إلى لعب أدوار خارج نطاقها الجغرافي، خصوصًا في مجال الوساطة لتسوية النزاعات. فعلى سبيل المثال، قام الاتحاد الأوروبي بدور فاعل في استضافة محادثات السلام وتيسير الحوار بين أرمينيا وأذربيجان لإنهاء نزاع “ناغورني قره باغ” في عام 2022.
وبناء على ذلك، قد تضطر الدول الأعضاء في هذه المنظمات إلى زيادة مساهماتها المالية من أجل تمكينها من أداء بعض الأدوار التي كانت تقوم بها الأمم المتحدة سابقًا. ولضمان فعالية هذا التحول، قد تقدم بعض هذه المنظمات على تنفيذ إصلاحات هيكلية، تشمل – من بين أمور أخرى – إنشاء مجلس عسكري يتولى المهام التي كان يضطلع بها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وفي هذا الإطار، يمكن تعديل الاتفاقيات المؤسسة لهذه الكيانات الإقليمية لتتضمن بنودًا تسمح بإنشاء قوة عسكرية جديدة، تُكلّف رسميًا بالتدخل العسكري لمنع أي دولة من غزو أخرى أو الإخلال بأمن واستقرار الإقليم.
لا تنحصر تداعيات العجز المالي الذي تعانيه منظمة الأمم المتحدة في نطاق عملياتها اليومية فحسب، بل تمتد لتهدد البنية الأساسية للنظام العالمي الذي أُرسيت دعائمه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فقد تأسس هذا النظام على وجود منظمة دولية قوية تُناط بها مسؤوليات حفظ السلم والأمن الدوليين، وتسوية النزاعات، وحماية حقوق الإنسان، وتنسيق الجهود العالمية لمواجهة الأزمات. إلا أن التخفيضات المتكررة في ميزانية المنظمة، وعجز عدد كبير من الدول الأعضاء عن سداد مساهماتها المالية، وتآكل الثقة الدولية في فعالية الأمم المتحدة، جميعها مؤشرات على أن المنظمة قد لا تعود قادرة على الاضطلاع بدورها المحوري كما كان في السابق.
في هذا السياق، يشهد العالم تحولًا تدريجيًا نحو نظام دولي متعدد الأقطاب، مع بروز قوى مثل الصين وروسيا واليابان والاتحاد الأوروبي كلاعبين محوريين في تشكيل ملامح النظام العالمي الجديد. ومن شأن هذا التحول أن يعيد رسم معادلات النفوذ الدولي، ويقود إلى انقسام العالم إلى كتل متنافسة، تقودها قوى كبرى أو تكتلات إقليمية فاعلة.
هذا التوجه قد يؤدي إلى تراجع مفهوم العمل الجماعي والتعاون الدولي الذي لطالما شكّل حجر الزاوية في النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية، ويفتح المجال أمام تصاعد التوترات والنزاعات، ويفرض تحديات جديدة على صعيد الاستقرار العالمي والتوازنات السياسية والاقتصادية الدولية.
Afghanistan International. (2025). Iranian Police Seize Afghan Migrants’ Phones Over Suspected Links to Israel. https://www.afintl.com/en/202506276942
Daily Sabah. (2022). Pashinyan to meet with Aliyev in Prague for EPC. https://www.dailysabah.com/politics/diplomacy/pashinyan-to-meet-with-aliyev-in-prague-for-epc
Premium Times. (2025). UN’s Financial Crisis deepens, cuts spending, freezes hiring, scales back services. https://www.premiumtimesng.com/news/top-news/795529-uns-financial-crisis-deepens-cuts-spending-freezes-hiring-scales-back-services.html?utm_source=chatgpt.com
The UN Refugees Agency. (2025). Refugee Data Finder. https://www.unhcr.org/refugee-statistics
United Nations Peacekeeping. (2025). Where we operate. https://peacekeeping.un.org/en/where-we-operate
United Nations. (2024). General Assembly Approves $3.72 billion UN budget for 2025. https://news.un.org/en/story/2024/12/1158531
USA Facts. (2025). What’s in Trump’s 2026 budget proposal. https://usafacts.org/articles/whats-in-trumps-2026-proposed-budget/
تعليقات