في مارس 2025، اتفقت كلٌ من تركيا وسوريا والأردن ولبنان والعراق على تشكيل لجنة مشتركة لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش). وبينما تعكس هذه اللجنة رغبة الدول الإقليمية في تولي زمام المبادرة لردع التهديدات الأمنية في المنطقة، فإنها تُشجّع في الوقت ذاته الولايات المتحدة على سحب قواتها من سوريا، مما يتيح مساحة أوسع للجنة الوليدة للتصدي لتنظيم داعش. علاوة على ذلك، قد تشكّل هذه اللجنة الجديدة بديلًا للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، الذي أُسس في سبتمبر 2014 لمواجهة تنظيم داعش والحد من انتشاره في سوريا والعراق.
ورغم أن التحالف الدولي كان له دور حاسم في إضعاف التنظيم، لا سيما من خلال تنفيذ الغارات الجوية ودعم الفصائل الكردية المسلحة على الأرض، يبدو أن الفاعلين الإقليميين باتوا اليوم يستعدون لتولي زمام المرحلة التالية من جهود مكافحة الإرهاب بأنفسهم.
يمثّل إنشاء هذه اللجنة تحولًا جذريًا في السياسة الإقليمية للشرق الأوسط. فبينما يكمن السبب الرئيسي وراء تأسيسها في محاربة تنظيم داعش، إلا أن هناك دوافع أخرى عديدة ساهمت في اتخاذ هذا القرار.
أولًا، سعت تركيا باستمرار إلى تقليص الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، لا سيما في شمال شرق البلاد، حيث تعاونت القوات الأمريكية مع قوات سوريا الديمقراطية، ذات القيادة الكردية، في محاربة تنظيم داعش. وتعتبر تركيا قوات سوريا الديمقراطية امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، المصنّف كمنظمة إرهابية، وقد وجّهت مرارًا انتقادات حادة للولايات المتحدة بسبب دعمها للقوات الكردية. ومن خلال تشكيل لجنة إقليمية تتولى مسؤولية الحد من نفوذ تنظيم داعش، تسعى تركيا إلى سحب الورقة الأساسية من يد قوات سوريا الديمقراطية، وهي الورقة التي استخدموها طويلًا لإقناع الولايات المتحدة بالإبقاء على قواتها في سوريا. فقد شكّل الوجود الأمريكي في سوريا عائقًا أمام تركيا لتنفيذ عمليات عسكرية واسعة ضد قوات سوريا الديمقراطية، مما يعني أن انسحاب الولايات المتحدة سيمنح أنقرة الأفضلية في شن هجمات ضد القوات الكردية إذا رأت ذلك ضروريًا.
ونظرًا لأن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تسعى إلى تقليص انخراط القوات الأمريكية في الخارج، فقد شكَّل إنشاء هذه اللجنة مبررًا ملموسًا لسحب القوات الأمريكية من سوريا. ففي أبريل 2025، بدأت الولايات المتحدة بسحب مئات الجنود من سوريا، معلنةً نيتها تقليص عدد العسكريين العاملين هناك إلى أقل من ألف جندي، وهو ما يتماشى تمامًا مع الأهداف التركية في سوريا. إضافة إلى ذلك، وبعد المبادرة التي أطلقها عبد الله أوجلان- مؤسس حزب العمال الكردستاني- لحل الحزب، والتي أُعلن عنها في فبراير 2025، تُصر تركيا على أن تقوم قوات سوريا الديمقراطية بحل نفسها، معتبرةً إياها الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني.
ثانيًا، توفّر اللجنة المُشكَّلة حديثًا شرعية للحكومة السورية الجديدة للتحرك ضد التنظيمات الإرهابية، مثل تنظيم داعش والجماعات المرتبطة به، بما في ذلك جماعة “حُرّاس الدين”. فبعد سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد في ديسمبر 2024، تولّت حكومة جديدة بقيادة “هيئة تحرير الشام” السلطة في سوريا. وبينما تسعى هذه الحكومة إلى كسب الاعتراف الدولي من خلال تبني خطاب دبلوماسي معتدل، فإنها تواجه شكوكًا كبيرة بسبب جذورها وتصنيفها كمنظمة إرهابية من قِبل عدد من الدول، بما فيها الولايات المتحدة.
كما توفّر هذه اللجنة منصة للحكومة السورية الجديدة لاكتساب شرعية إقليمية من خلال إظهار التزامها بمحاربة تنظيم داعش. فمشاركتها في مبادرة أمنية متعددة الأطراف إلى جانب تركيا والعراق والأردن تعزز من مصداقيتها في بناء تحالفات إقليمية ودولية تهدف إلى الحفاظ على الأمن والاستقرار.
علاوة على ذلك، تتيح هذه اللجنة لسوريا ما بعد الأسد فرصة للحصول على دعم دبلوماسي ومادي لجهود تحقيق الاستقرار، بما في ذلك إعادة الإعمار وعودة اللاجئين. أما بالنسبة للدول المجاورة، فإن التعاون مع الحكومة السورية الجديدة يُعدّ إشارة على الثقة في قدرتها على حفظ النظام، وهو أمر بالغ الأهمية لاستقرار المنطقة. ويساهم هذا الترسيخ المتبادل للشرعية في تعزيز تماسك اللجنة، حيث يستفيد جميع الأعضاء من وجود دولة سورية مستقرة قادرة على منع تنظيم داعش من استغلال الفوضى السياسية.
وتوفّر اللجنة كذلك أساسًا متينًا لسوريا للقيام ببرامج تدريب عسكري والحصول على الأسلحة من الدول المؤسسة، وخصوصًا تركيا والأردن، حيث أبدت الأخيرة بالفعل اهتمامًا بتدريب وتجهيز الجيش السوري الجديد. وتكتسب هذه الخطوة أهمية كبيرة في ظل الغارات الجوية الإسرائيلية المتكررة التي استهدفت البنية التحتية العسكرية في سوريا منذ سقوط نظام الأسد. وتشمل هذه الضربات تدمير أنظمة دفاع جوي متقدمة مثل “بانتسير-إس1” و”إس-200″، إلى جانب استهداف مراكز الأبحاث العلمية السورية، بما في ذلك منشأة مصياف المرتبطة بتطوير الصواريخ. كما استهدفت إسرائيل أصولًا بحرية في ميناء اللاذقية، وقواعد جوية عسكرية مثل مطار المزة في دمشق، وحتى القنصلية الإيرانية في دمشق، والتي كانت تضم عناصر من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني. وتأتي هذه الضربات في إطار استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى الحد من القدرات العسكرية السورية ومنع انتشار الأسلحة المتطورة في المنطقة، مما يجعل من الضروري بالنسبة لسوريا أن تعيد بناء قدراتها العسكرية بشكل عاجل وفعَّال.
ثالثًا، يشكّل تأسيس اللجنة ضغطًا غير مباشر على القوات الكردية، لا سيما قوات سوريا الديمقراطية، التي تسيطر على نحو 40% من الأراضي السورية. وتعتبر تركيا أن استقلالية هذه القوات تمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، بالنظر إلى ارتباطها بحزب العمال الكردستاني. علاوة على ذلك، فإن تركيا تضم ما يقرب من 15 مليون مواطن كردي، ما يعني أن أي شكل من أشكال الحكم الذاتي للأكراد في سوريا قد يشجّع الأكراد داخل تركيا على المطالبة بحكم ذاتي مماثل، مع تقديم الدعم السياسي والعسكري لأقرانهم في سوريا. ومن شأن انسحاب الولايات المتحدة، الذي تدفع إليه قدرة اللجنة على تولي مهام مكافحة داعش، أن يجعل قوات سوريا الديمقراطية في وضع هش، إذ إنها تعتمد بشكل كبير على الدعم العسكري الأمريكي للحفاظ على موقعها في مواجهة القوات المدعومة من تركيا والحكومة السورية.
وبالنسبة لتركيا، توفّر اللجنة إطارًا مشروعًا لترسيخ نفوذها في السياسات الأمنية السورية، ما يعني أنها تستطيع التنسيق مع الحكومة السورية لشن هجمات ضد التنظيمات الإرهابية داخل سوريا. وقد يُستغل هذا الإطار بشكل مباشر لتنفيذ عمليات عسكرية ضد القوات الكردية، في سيناريو يُذكّر بالتدخل الروسي في عام 2015، حين أعلنت موسكو أن تدخلها يهدف إلى القضاء على تنظيم داعش، بينما كانت غاراتها تتركز أساسًا على فصائل المعارضة المسلحة. وتشارك الحكومة السورية، التي تخشى من النزعات الانفصالية الكردية، تركيا في اهتمامها بتحجيم نفوذ قوات سوريا الديمقراطية، خاصةً أن المناطق التي تخضع لسيطرة الأكراد تضم موارد قيّمة، من بينها حقول النفط. أما العراق، الذي يضم هو الآخر عددًا كبيرًا من الأكراد، فقد يؤيد هذا الضغط تفاديًا لنشوء كيان كردي قوي في سوريا يمكن أن يلهم أكراد العراق ويدفعهم إلى التمرد أو المطالبة بحكم ذاتي. ومع ذلك، تنطوي هذه الاستراتيجية على خطر تصاعد التوتر مع المجتمعات الكردية، مما قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في شمال شرق سوريا، ويُقوّض أهداف اللجنة في مكافحة تنظيم داعش، خصوصًا إذا دفع ذلك القوات الكردية إلى الاصطفاف مع جماعات متطرفة بحثًا عن الحماية أو البقاء.
ومع الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من سوريا، من المرجح أن تُجبر قوات سوريا الديمقراطية على تنفيذ اتفاقها مع الحكومة السورية بشكل كامل. فبدون الدعم الأمريكي، ستواجه هذه القوات ضغوطًا كبيرة للانضواء ضمن الاستراتيجية الدفاعية الوطنية لسوريا. ويهدف هذا الاتفاق إلى دمج القوات الكردية في الهيكل العسكري السوري، وهو ما قد يؤدي إلى تغييرات جذرية في دور قوات سوريا الديمقراطية. وسيكون على هذه القوات التوفيق بين تطلعاتها بالحكم الذاتي الكردي، ومتطلبات الدولة السورية المركزية. وفي ظل غياب الوجود الأمريكي، قد تضطر قوات سوريا الديمقراطية إلى تقديم تنازلات صعبة، تشمل نزع السلاح أو إعادة الهيكلة، من أجل الحصول على الضمانات السياسية والأمنية اللازمة لبقائها، وضمان تحقيق الاستقرار في المنطقة.
ينطوي إنشاء هذه اللجنة على عدد من التداعيات المتوقعة التي تمس الأمن الإقليمي وتوازن القوى في المنطقة. أولًا، يسلّط الدور القيادي لتركيا في تشكيل اللجنة الضوء على طموحها في توسيع نفوذها داخل الشرق الأوسط، لا سيما في صياغة ملامح سوريا ما بعد الأسد. فبعد أن دعمت الجماعات المعارضة خلال الحرب الأهلية السورية، ونفذت عمليات عسكرية متعددة في شمال البلاد، باتت تركيا في موقع يؤهلها للاستفادة من هذه اللجنة لترسيخ دورها كقوة إقليمية محورية. ومن خلال قيادتها لحملة مشتركة ضد تنظيم داعش، سيتوسع النفوذ التركي داخل سوريا، وسيتعزز موقعها كفاعل رئيسي في الساحة الإقليمية.
ثانيًا، تُظهر اللجنة أن دول المنطقة قادرة على تولي زمام المبادرة في مواجهة التهديدات الأمنية الإقليمية والعالمية دون الحاجة إلى تدخل القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة أو روسيا. فقد شكَّلت محاربة التنظيمات الإرهابية الذريعة الأساسية لتدخل القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، عسكريًا في الشرق الأوسط. ومن هنا، فإن نجاح اللجنة الجديدة من شأنه أن يُضعف النفوذ الأمريكي في المنطقة، وقد يشجّع دولًا أخرى على أن تتصدر جهود مكافحة الإرهاب من دون تدخل مباشر من الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، لا يزال لتنظيم داعش وجود في ليبيا، ويمكن للدول المحيطة بها، مثل مصر وليبيا والجزائر وتونس، أن تنسق فيما بينها لإنشاء لجنة مماثلة تتولى مسؤولية مكافحة التنظيمات الإرهابية التي تُهدد بشكل مباشر أمن هذه الدول وسلامتها الإقليمية.
ويُعدّ هذا التوجّه نحو الاستقلال الذاتي بالغ الأهمية بالنسبة لكلٍ من الأردن ولبنان، اللذين واجها أعباءً اقتصادية واجتماعية هائلة نتيجة استضافة اللاجئين السوريين، وكذلك بالنسبة للعراق، الذي يسعى إلى تأكيد سيادته بعد سنوات طويلة من الوجود العسكري الأجنبي. ويعكس تركيز اللجنة على تبادل المعلومات الاستخباراتية، وتأمين الحدود، وتنفيذ العمليات المشتركة، نهجًا عمليًا لبناء قدرة إقليمية على الصمود في وجه التهديدات الأمنية. ومع ذلك، فإن فعالية اللجنة ستعتمد على قدرتها في تجاوز الانقسامات الداخلية، والتغلّب على محدودية الموارد، ومواجهة التحدي المتمثل في العمل من دون الدعم التكنولوجي واللوجستي المتطور الذي كانت توفره الجهات الخارجية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
وختامًا، يعكس تشكيل لجنة مكافحة تنظيم داعش من قِبل كل من تركيا والعراق والأردن ولبنان وسوريا مزيجًا من المصالح الاستراتيجية والهواجس الأمنية المشتركة. فبالنسبة لتركيا، تمثّل هذه اللجنة فرصة محورية لإقناع الولايات المتحدة بسحب قواتها من سوريا، في محاولة لإضعاف القوات الكردية، مع توسيع نفوذها الإقليمي في الوقت ذاته. وفي المقابل، تُسهم اللجنة في تمكين الحكومة السورية الجديدة من كسب شرعية إقليمية وجذب الدعم اللازم لجهود إعادة الإعمار وعودة اللاجئين. والأهم من ذلك، تُجسد هذه المبادرة استعداد الدول الإقليمية لتحمّل مسؤولية أمنها دون الاعتماد على القوى الكبرى. ومع ذلك، فإن نجاح اللجنة مرهون بقدرتها على معالجة الخلافات الداخلية، وتجنب التصعيد مع الأكراد، وضمان تأمين الموارد الكافية لتنفيذ مهامها. وفي حال تمكّنت من تجاوز هذه التحديات، فقد تلعب اللجنة دورًا محوريًا في هزيمة تنظيم داعش، وإعادة رسم ملامح التعاون الإقليمي في الشرق الأوسط.
Al Jazeera. (2024). Israel strikes Iran consulate in Syria’s capital Damascus. Al Jazeera. https://www.aljazeera.com/news/2024/4/2/attack-on-iran-consulate-in-damascus-what-do-we-know
Al Jazeera. (2025). Syria merges Kurdish-led Syrian Democratic Forces into state institutions. Al Jazeera. https://www.aljazeera.com/news/2025/3/10/syria-merges-kurdish-led-syrian-democratic-forces-into-state-institutions
Atlantic Council. (2025). Inside Hayat Tahrir al-Sham’s diplomatic offensive with Syria’s Christians and Ismailis. Atlantic Council. https://www.atlanticcouncil.org/blogs/menasource/hts-diplomatic-offensive-with-minorities/
Lieber Institute. (2025). The New Syria and Its Obligations under the Chemical Weapons Convention. Lieber Institute. https://lieber.westpoint.edu/new-syria-its-obligations-chemical-weapons-convention/
Middle East Eye. (2025). Ocalan orders the PKK to dissolve in a historic statement. Middle East Eye. https://www.middleeasteye.net/news/ocalan-dissolve-pkk-historic-statement
(2025). US military to slash troops in Syria to under 1,000. Reuters. https://www.reuters.com/world/us-military-slash-troops-syria-under-1000-2025-04-18/
The Guardian. (2025). Jailed Kurdish leader calls for PKK to disarm. The Guardian. https://www.theguardian.com/world/2025/feb/27/pkk-leader-calls-on-kurdish-militant-group-to-disarm-signalling-start-of-fragile-peace-with-turkey
The Guardian. (2025). Syria calls Israeli air strikes on Damascus a ‘dangerous escalation’. The Guardian. https://www.theguardian.com/world/2025/may/02/israel-launches-airstrikes-near-syria-presidential-palace-in-damascus
The Guardian. (2025). Syrian government reaches deal with Kurdish-led SDF to integrate north-east region. The Guardian. https://www.theguardian.com/world/2025/mar/10/syrian-government-reaches-deal-with-kurdish-led-sdf-to-integrate-north-east-region
تعليقات