كتب بواسطة

جرت مراسم تنصيب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة للمرة الثانية في 20 يناير 2025، ليصبح الرئيس السابع والأربعين للبلاد. وقد عرض ترامب، خلال خطابه الافتتاحي، أجندة واسعة النطاق تمزج بين الأسس التقليدية للمحافظين وبعض ملامح الشعبوية الصاعدة. ومن اللافت للنظر، أنه وقّع في يوم تنصيبه على 26 أمرًا تنفيذيًا، وهو أعلى عدد يوقعه أي رئيس أمريكي في اليوم الأول من ولايته.  تتمحور أجندة ترامب في ولايته الثانية حول شعارات "أميركا أولًا"، "الانتقام، و"فرض القانون والنظام"، حيث يسعى إلى إعادة تشكيل الحكومة الفيدرالية بوجه أكثر صرامة، واستعادة السياسات المتشددة التي انتهجها خلال فترته الأولى، فضلًا عن إعادة صياغة الدور الأميركي عالميًا من خلال نهج حمائي وتقليص انخراط الولايات المتحدة على المستوى الدولي.

 

لطالما شدد ترامب على تجنب الحروب الخارجية وتبني سياسة خارجية لا تقوم على التدخل، مع التركيز بدلًا من ذلك على أمن الحدود والنمو الاقتصادي. وقد عارض ما سمّاه "الحروب التي لا تنتهي"، ودعا إلى تقليص التواجد العسكري الأمريكي في الخارج. وأكد مرارًا أن الولايات المتحدة يجب ألا تنخرط في حروب باهظة الكلفة في الشرق الأوسط لا تخدم مصالحها بشكل مباشر، مستخدمًا شعارات من قبيل "لسنا شرطيّ العالم" و"أنهِوا الحروب التي لا تنتهي". كما وجّه انتقادات حادة للإدارات السابقة بسبب انخراطها الطويل في النزاعات العسكرية في العراق وأفغانستان وليبيا وسوريا. غير أن أفعال ترامب، منذ دخوله المكتب البيضاوي في ولايته الثانية، أظهرت انحرافًا ملحوظًا عن نهجه المُعلن القائم على عدم التدخل.

من غزة إلى أصفهان

كان عام 2025، الذي يصادف بداية الولاية الثانية لدونالد ترامب، عامًا مشحونًا بالصراعات المتعددة. فبينما استمر عدد من الحروب الموروثة من السنوات السابقة، اندلعت أخرى جديدة على وقع توترات متزايدة. لا تزال الحرب بين روسيا وأوكرانيا محتدمة، خاصة في شرق أوكرانيا، دون أن تلوح في الأفق أي بوادر لاتفاق سلام فعلي. في موازاة ذلك، تستمر حالة التوتر المزمن بين الصين وتايوان، حيث تواصل بكين مناوراتها العسكرية وتكثّف ضغوطها الدبلوماسية، رغم أنها لم تقدم حتى الآن على تنفيذ غزو مباشر. اقتصاديًا، ورغم استقرار نسبي في مؤشرات التضخم عالميًا، لا تزال أسعار الغذاء والطاقة عند مستويات مرتفعة تُثقل كاهل الأسواق النامية والمتقدمة على حد سواء. في الوقت نفسه، تتفاقم الأزمات البيئية والمناخية على مستوى الكوكب، مع موجات حرّ قياسية ضربت جنوب أوروبا وجنوب آسيا، بالتزامن مع اندلاع حرائق غابات واسعة في مناطق مختلفة من حوض البحر الأبيض المتوسط.

 

أما في الشرق الأوسط، فقد بدا العام 2025 عنوانًا لتشابك أزمات متعددة المسارات: من حرب إسرائيل على قطاع غزة، إلى تصاعد مخاطر الصراع الإسرائيلي الإيراني، مرورًا بهجمات البحر الأحمر البحرية، وجمود الحرب الأهلية في سوريا، وصولًا إلى المواجهات المتوترة في لبنان. ففي سوريا، مثّل سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 محطة تحول مفصلية، أعقبها تشكيل حكومة انتقالية، ما أدخل البلاد في مرحلة جديدة تتّسم بتعقيد سياسي وأمني وإنساني بالغ، حيث استمر العنف، وتعاظمت الاحتياجات الإنسانية، وبدأت محاولات أولية لإعادة هيكلة النظام السياسي. أما النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وهو من أطول النزاعات وأكثرها دموية في العالم، فقد عاد إلى الواجهة مجددًا في أكتوبر 2023. إذ شنّت إسرائيل عمليات عسكرية كبرى استهدفت تفكيك البنية العسكرية والتنظيمية لحركة حماس، وأسفرت عن سقوط عشرات الآلاف من القتلى، وتشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين، مما فاقم الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة بصورة غير مسبوقة.

 

في الفترة ما بين 2 و8 يونيو 2025، اندلعت مواجهات مباشرة بين إسرائيل وحزب الله على الساحة اللبنانية، حيث شنّ الجيش الإسرائيلي سلسلة من العمليات العسكرية واسعة النطاق استهدفت مواقع للحزب في 18 موقعًا مختلفًا. وقد شملت هذه الحملة أعنف الضربات الجوية التي تتعرض لها ضاحية بيروت الجنوبية (الضاحية) منذ اتفاق وقف إطلاق النار في نوفمبر 2024. وتركزت الضربات على مواقع يُشتبه في استخدامها لتصنيع الطائرات المسيّرة وتخزينها، كما استخدمت إسرائيل في هجماتها قصفًا مدفعيًا وعمليات برية محدودة، إلى جانب قنابل مضيئة ومنشورات تحذيرية لإخلاء المدنيين.

 

وفي يونيو ذاته، نفّذت إسرائيل—بدعم مباشر من الإدارة الأميركية—غارات جوية استهدفت منشآت نووية إيرانية في نطنز وفوردو وأصفهان، في محاولة لتعطيل برنامج طهران النووي. وردّت إيران على هذه الهجمات بسلسلة من الضربات الصاروخية طالت أهدافًا داخل إسرائيل، ما أثار مخاوف إقليمية ودولية من اندلاع حرب شاملة في المنطقة. وعلى الرغم من إعلان وقف لإطلاق النار بعد أيام قليلة، فإن حالة التوتر ما تزال قائمة على نحو ينذر بالتصعيد.

 

وقد مثّل دعم إدارة ترامب العلني لإسرائيل في هذه المواجهات تحوّلاً جذريًا عن خطاب حملته الانتخابية، الذي ركّز على تفادي التورط العسكري في نزاعات الشرق الأوسط. ورغم تفادي الطرفين الانزلاق إلى مواجهة شاملة حتى الآن، فإن عمليات التجسس الإلكتروني والأنشطة الاستخباراتية بين إسرائيل وإيران ما تزال مستمرة ضمن معادلة ردع هشة وقابلة للانهيار في أي لحظة. هكذا، وعلى الرغم من وعوده المتكررة بتجنّب الانخراط في صراعات جديدة في الشرق الأوسط، عادت الولايات المتحدة، في ظل إدارة ترامب، إلى ممارسة دور عسكري مباشر في الإقليم.

انعكاس استراتيجي

تغذي حروب الشرق الأوسط عوامل متشابكة من الانقسامات الطائفية، والتنافسات الجيوسياسية، وصراع المصالح بين القوى العالمية. وتدفع هذه الديناميكيات قوى خارجية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى التدخل، سواء بشكل مباشر أو عبر وكلاء. وفي عام 2025، باتت الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب من أكثر الفاعلين الخارجيين نشاطًا في الإقليم. وعلى الرغم من تعهده السابق بتبني سياسة لا تقوم على التدخل، فقد شاركت إدارته في عدة نزاعات، مما كشف عن قطيعة حادة مع شعاره المُعلن “أميركا أولاً”.

 

وقد شهدت الأيام المئة الأولى من ولاية ترامب الثانية زخمًا كبيرًا من الأحداث. فإلى جانب سعيه لإعادة هيكلة المؤسسات الداخلية وفرض سياسات تجارية حمائية، انخرط ترامب في دبلوماسية محفوفة بالمخاطر مع كل من إيران وروسيا، وهي تحركات لها تداعيات بعيدة المدى تتجاوز حدود السياسة الأميركية الداخلية.

 

ومن أبرز التدخلات التي قام بها، تلك التي جرت في مطلع عام 2025، حين اقترح ترامب، خلال مفاوضات لوقف إطلاق النار مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تولّي الولايات المتحدة مسؤولية إدارة قطاع غزة. وقد شمل المقترح إمكانية نشر قوات أميركية في القطاع ووضع خطة لإعادة الإعمار. وفي أواخر فبراير، صادقت إدارته على حزمة مساعدات عسكرية لإسرائيل بقيمة 2.5 مليار دولار.

 

وفي شهري يونيو ويوليو من العام ذاته، ضغط ترامب باتجاه إقرار هدنة تستمر 60 يومًا، مستغلًا زيارة نتنياهو إلى البيت الأبيض، حيث حثّ إسرائيل وحماس على التوصل إلى اتفاق، واستضاف مباحثات ضمّت مبعوثين من مصر وقطر. وقد شدّد على أهمية التوصل السريع إلى اتفاق، محذرًا حركة حماس من أن أوضاعها ستزداد سوءًا في حال تعثر العملية. وفي حين أفادت التقارير بأن إسرائيل وافقت على شروط التهدئة، فإن موقف حماس ظل مترددًا. وتُجسّد هذه التحركات—التي جمعت بين الدعم العسكري، والمساعي الدبلوماسية لوقف إطلاق النار، وطرح تصورات جريئة لإعادة رسم خريطة الإقليم—انقلابًا واضحًا على السياسات الأميركية التقليدية، ونقلة باتجاه تدخل مباشر ومكشوف في قلب المعادلة الإقليمية.

 

انخرطت الولايات المتحدة في حرب إسرائيل على قطاع غزة عبر محاور متعددة: عسكريًا ودبلوماسيًا وإنسانيًا بشكل محدود. فعلى الصعيد الدبلوماسي، استخدمت واشنطن حق النقض (الفيتو) مرارًا لإسقاط قرارات صادرة عن مجلس الأمن تنتقد العمليات العسكرية الإسرائيلية، مبررة ذلك بأن ما تقوم به إسرائيل يندرج في إطار “الدفاع عن النفس”. إلا أن منتقدين يرون أن هذا الموقف الأميركي منح غطاءً سياسياً لاستمرار العمليات العسكرية، رغم ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين، ما أضعف من مصداقية واشنطن في أوساط الجنوب العالمي والعالم العربي.

 

أما على المستوى العسكري، فقد زوّدت الولايات المتحدة إسرائيل بأسلحة متطورة، شملت ذخائر دقيقة التوجيه وأنظمة دفاع صاروخي. كما نشرت وحدات بحرية وجوية في شرق البحر الأبيض المتوسط، في رسالة ردع موجهة إلى أطراف إقليمية مثل حزب الله أو إيران، دون الانخراط المباشر في القتال. وتُبرز هذه الاستراتيجية أولوية الردع وحماية الحلفاء على حساب التدخل الميداني المباشر. وفي الجانب الإنساني، دعمت الولايات المتحدة فتح ممرات إنسانية، وتطبيق فترات تهدئة محدودة، وتقديم مساعدات للمدنيين النازحين. غير أن هذه المبادرات وُصفت بأنها محدودة التأثير، وغير كافية في ظل حجم الدمار الهائل وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا. وينظر إليها كثيرون باعتبارها تحركات رمزية أكثر منها خطوات ذات أثر فعلي على أرض الواقع.

 

إلى جانب بؤرة التصعيد في غزة، أطلقت إدارة ترامب واحدة من أوسع وأعنف حملاتها العسكرية في اليمن، مستهدفة جماعة الحوثي عبر ما عُرف بـ”عملية الفارس الخشن-“Rough Rider، التي بدأت في 15 مارس 2025. وُصفت هذه العملية بأنها التصعيد العسكري الأميركي الأشد في اليمن حتى تاريخه، إذ نفذت خلالها أكثر من 1,700 ضربة جوية وبحرية، استهدفت أكثر من 800 موقع عسكري حوثي، شملت مراكز القيادة والسيطرة، ومنشآت تصنيع الطائرات المسيّرة، ومنصات إطلاق الصواريخ.

 

وشهدت الحملة استخدام ترسانة واسعة من القدرات العسكرية الأميركية، شملت قاذفات استراتيجية من طراز B-2، ومقاتلات F-18، وطائرات مسيّرة من طراز MQ-9 Reaper، بالإضافة إلى حاملتي الطائرات “يو إس إس ترومان” و”يو إس إس كارل فينسن”، المدعومتين بمدمّرات حربية متمركزة في البحر الأحمر.

 

ورغم هذا الاستعراض الكثيف للقوة، لم تفلح الحملة في القضاء الكامل على القدرات القتالية للحوثيين. فقد شنّت الجماعة أكثر من 131 هجومًا مضادًا باستخدام صواريخ باليستية وكروز وطائرات مسيّرة، استهدفت بها قطعًا بحرية أميركية وممرات الشحن التجارية. كما تمكنت من إسقاط ما لا يقل عن ثماني طائرات مسيّرة من طراز MQ-9، وطائرة استطلاع واحدة من طراز F360، في رسالة واضحة بأن التفوق الجوي الأميركي لم يكن مطلقًا.

 

وبحسب التقديرات الأميركية، قُتل ما بين 500 و600 عنصر من مقاتلي الحوثي خلال الحملة، بينما أعلنت الجماعة مقتل 123 من عناصرها وإصابة 247 آخرين في الفترة ما بين 15 مارس و15 أبريل. إلا أن الأثر الأكبر كان على المدنيين؛ إذ سقط 238 قتيلًا مدنيًا، بينهم 24 طفلًا، وأصيب 467 آخرون، من بينهم 31 طفلًا، ما أثار موجة واسعة من الإدانات الحقوقية، وأعاد تسليط الضوء على ممارسات الولايات المتحدة في ساحة النزاع اليمني.

 

اقتصاديًا، جاءت هذه التدخلات بكلفة باهظة، متعارضة بشكل صارخ مع تعهدات ترامب السابقة بتقليص الإنفاق العسكري الأميركي في الخارج. فقد بلغت تكلفة الحملة العسكرية في اليمن وحدها ما يُقدّر بمليار دولار خلال أقل من ثلاثة أسابيع، في حين وصل إجمالي الإنفاق العسكري الأميركي في المنطقة—بما في ذلك دعم إسرائيل والضربات الجوية في اليمن—إلى نحو 4.86 مليار دولار منذ أكتوبر 2023. وإلى جانب ذلك، بلغت الخسائر الناجمة عن إعادة توجيه مسارات الشحن عبر البحر الأحمر ما يُقدّر بـ2.1 مليار دولار على مستوى التجارة العالمية. وتُجسّد هذه الأرقام بوضوح أن إدارة ترامب، بدلًا من الانكفاء عن التورط الخارجي كما وعدت، وجدت نفسها منخرطة في مواجهة عسكرية مطوّلة ومكلفة، مع ما ترتب على ذلك من تعريض الأفراد والمعدات الأميركية لمخاطر متصاعدة. وهو ما شكّل انحرافًا استراتيجيًا واضحًا عن نبرة العزلة التي تبنت شعار “أميركا أولًا”.

 

وقد انعكست هذه التوترات المتصاعدة في الشرق الأوسط على مجمل أجندة ترامب الأوسع، بما في ذلك مفاوضاته التجارية وأولوياته الداخلية. فقد تعطلت خطط إبرام اتفاقات تجارية مع 15 دولة، بعدما غادر فجأة قمة في كندا للرد على تصعيد جديد مع إيران، مما أدى إلى تأجيل اتفاقات تجارية كانت تُقدّر قيمتها بأكثر من 3 تريليونات دولار، وهدد بفرض رسوم جمركية جديدة.

 

وفي 22 يونيو، أعلن ترامب عن شن غارات جوية على منشآت نووية إيرانية، في تصعيد دراماتيكي. ورغم توصيف هذه الضربات بأنها “إجراء لمرة واحدة”، فقد حذّر ترامب من شن مزيد من الضربات في حال واصت إيران تخصيب اليورانيوم. وقد أسفرت الهجمات عن أضرار كبيرة في البنية التحتية النووية الإيرانية، في حين تعهدت طهران بمواصلة برنامجها، ما أثار مخاوف متزايدة من انزلاق الأوضاع نحو صراع إقليمي أوسع.

 

اتخذ التدخل الأميركي في الصراع بين إيران وإسرائيل طابعًا متعدد الأبعاد، يجمع بين الدعم العسكري، والردع الاستراتيجي، والضغط الدبلوماسي. فبعد التصعيد الإيراني، الذي شمل هجمات صاروخية على أراضٍ إسرائيلية ومحاولات لتعزيز النفوذ عبر الوكلاء الإقليميين، سارعت الولايات المتحدة إلى تقديم دعم مباشر لإسرائيل على المستويين اللوجستي والاستخباراتي. وقد نشرت واشنطن أنظمة دفاع جوي إضافية من طراز “باتريوت” و”ثاد” في المنطقة، وعززت التنسيق العسكري المشترك مع قوات الدفاع الإسرائيلية. ورغم امتناعها عن خوض مواجهات مباشرة، قدمت الولايات المتحدة لإسرائيل معلومات استخباراتية فورية وأمدّتها بالذخائر، ما عزز قدراتها العسكرية دون الالتزام بتدخل بري مباشر.

 

استراتيجيًا، أعادت الولايات المتحدة تموضع قواتها العسكرية بهدف ردع أي تصعيد إضافي. فقد تم إرسال حاملات طائرات وأسراب مقاتلات ووحدات بحرية إلى شرق المتوسط والخليج العربي، في رسالة واضحة مفادها الجاهزية لاحتواء أية توسع في نطاق العمليات من جانب إيران. ولم تكن هذه التحركات لحماية إسرائيل فحسب، بل أيضًا لمنع أي ردود إيرانية محتملة على قواعد أميركية أو حلفاء واشنطن في الخليج. في الوقت ذاته، رفعت وزارة الدفاع الأميركية حالة التأهب لدى القوات المنتشرة في العراق وسوريا، تحسبًا لهجمات محتملة من قبل ميليشيات مدعومة من إيران. وقد عكست هذه الاستراتيجية سياسة ردع قوية دون الانزلاق إلى حرب شاملة، مع توجيه ضربات دقيقة محدودة (كضربة ترامب للمواقع النووية الإيرانية) بهدف كبح التصعيد والحفاظ على المصالح الأميركية دون التورط في نزاع مفتوح.

 

على الصعيد الدبلوماسي، كثفت الولايات المتحدة مشاوراتها مع أطراف إقليمية ودولية، من بينها الاتحاد الأوروبي ودول الخليج، بل لجأت إلى قنوات تواصل غير مباشرة مع إيران عبر وسطاء. وسعت واشنطن إلى عزل طهران دبلوماسيًا، وفي الوقت ذاته الحفاظ على تماسك التحالفات الهشة في العالم العربي. غير أن فعالية هذه الجهود لا تزال محل تشكيك، خاصة مع تصاعد أعداد الضحايا المدنيين وتدهور الاستقرار الإقليمي. بصورة عامة، يعكس التدخل الأميركي استراتيجية مدروسة تقوم على دعم إسرائيل عسكريًا، واحتواء إيران من خلال استعراض القوة الإقليمية، والحفاظ على وجود سقف دبلوماسي يمنع الوصول إلى حرب شاملة—ولو كان ذلك على حساب تنامي التوترات في منطقة الشرق الأوسط.

انعكاسات تحركات ترامب العسكرية على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

جاء تدخل ترامب في إيران، المتمثل في ضربة دقيقة واسعة النطاق استهدفت منشآت نووية، ليزيد من حدة الاضطراب في منطقة الشرق الأوسط التي تعاني أصلًا من هشاشة أمنية مزمنة. فرغم تقديمه لضربة 22 يونيو باعتبارها إجراءً جريئًا لمرة واحدة، فإن تصريحه باستعداده لتكرار الضربات في حال واصلت إيران تخصيب اليورانيوم يعكس حالة توتر مرشحة للاستمرار. وبينما قدمت الولايات المتحدة دعمًا عسكريًا ودبلوماسيًا مكثفًا لإسرائيل، فإنها باتت تعتمد على العقوبات والضغوط السياسية بدلًا من الانخراط المباشر في القتال. ومع ذلك، فإن حجم العملية—التي استخدمت فيها 75 ذخيرة دقيقة التوجيه، وشاركت فيها أكثر من 125 طائرة—دون استراتيجية طويلة المدى واضحة، زاد من المخاوف الإقليمية والدولية من انزلاق المنطقة نحو حرب أوسع، خصوصًا في ظل استمرار العنف في كل من غزة ولبنان وسوريا.

 

لقد ساهمت تدخلات ترامب في الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص “عملية الفارس الخشن-“Rough Rider، وقراره السابق في عام 2019 بسحب جزئي للقوات الأميركية من سوريا، في خلق فراغات استراتيجية استغلتها قوى معادية للنفوذ الأميركي مثل روسيا وإيران وتركيا. وقد أدى الحضور الأميركي غير المستقر في الساحة السورية إلى إضعاف أوراق الضغط الاستراتيجية لواشنطن، وشجّع فواعل إقليمية على التمدد وزيادة نفوذها في مناطق الصراع. وقد ساهم سقوط نظام الأسد في تعزيز هذه الديناميكيات المتسارعة، مما يهدد بإجهاض المكاسب السابقة التي تحققت في مجال مكافحة الإرهاب، وبتعميق حدة الصراعات الداخلية. فقد فتح ترامب المجال أمام إيران لإعادة بناء شبكاتها بالوكالة، ومكّن روسيا من استعادة مواقعها الاستراتيجية، وأتاح لتركيا تصعيد تدخلاتها وتوسيع نطاق عملياتها العسكرية، الأمر الذي أعاد تشكيل موازين القوى الإقليمية بطريقة تقوّض الاستقرار طويل الأمد في المنطقة، وتضعف من نفوذ الولايات المتحدة ومصالحها الحيوية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

 

وأخيرًا، تكشف مسيرة الولاية الثانية لدونالد ترامب عن تناقض صارخ بين خطابه الانتخابي والواقع السياسي في مشهد دولي مضطرب. فرغم تعهداته المتكررة بتجنّب التورط الخارجي والتركيز على الأولويات الداخلية، فإن تصاعد الأزمات في الشرق الأوسط—لا سيما في غزة ولبنان وسوريا وإيران—قد أعاد الولايات المتحدة إلى ساحة التدخل، سواء المباشر أو غير المباشر. لم تُؤدِ هذه التحركات إلى تقويض مصداقية واشنطن على الساحة الدولية فحسب، بل عرقلت أيضًا أجندة ترامب الاقتصادية وطموحاته في إبرام اتفاقات تجارية كبرى. ومع تصاعد العمليات العسكرية والتحركات الدبلوماسية، تجد الإدارة الأميركية نفسها منخرطة مجددًا في حروب “لا تنتهي” كانت قد تعهدت بتجنّبها. ويؤكد هذا التحوّل أن معادلة القيادة العالمية لا يمكن اختزالها في شعارات انعزالية، وأن السياسات القائمة على فك الارتباط غير قابلة للصمود في عالم بات شديد التشابك، حيث يفرض الواقع الجيوسياسي منطقه على أكثر الاستراتيجيات انكفاءً.

References

Binar FK, “With a Likely U.S. Withdrawal from Syria, Russia and Iran are Poised to Benefit”, new lines Institute, March 11, 2025, https://newlinesinstitute.org/state-resilience-fragility/with-a-likely-u-s-withdrawal-from-syria-russia-and-iran-are-poised-to-benefit/

 

David Daoud, “Israeli operations in Lebanon against Hezbollah: June 2–June 8, 2025”, long war journal, June 10, 2025, https://www.longwarjournal.org/archives/2025/06/israeli-operations-in-lebanon-against-hezbollah-june-2-june-8-2025.php

 

Iran demands accountability for Israel and US after ‘war of aggression’, Aljazeera, Jul 6 2025, https://www.aljazeera.com/news/2025/7/6/iran-demands-accountability-for-israel-and-us-after-war-of-aggression?

 

Kareem Fahim, “U.S. sees a new Middle East. Gulf allies fret about an unrestrained Israel”, Washington post, June 28, 2025, https://www.washingtonpost.com/world/2025/06/28/iran-saudi-arabia-uae-ties/

 

Michelle Nichols, Nidal Al-Mughrabi and Crispian Balmer, “US vetoes UN Security Council demand for Gaza ceasefire”, Reuters, June 5, 2025, https://www.reuters.com/world/middle-east/us-backed-gaza-aid-group-halt-distribution-wednesday-un-vote-ceasefire-demand-2025-06-04/

 

Phil Stewart and Idrees Ali, “US warns against Iran retaliation as Trump raises ‘regime change’”, Reuters, June 23, 2025, https://www.reuters.com/world/middle-east/us-strikes-against-iran-nuclear-facilities-incredible-overwhelming-success-2025-06-22/

 

Philip Loft and Claire Mills, “Syria after Assad: Consequences and interim authorities 2025”, UK Parliament, March 13, 2025, https://commonslibrary.parliament.uk/research-briefings/cbp-10161/

 

Rick Newman, “Commentary: The Middle East is messing up Trump’s economic plan”, AOL, June 17, 2025, https://www.aol.com/finance/commentary-middle-east-messing-trumps-194436204.html?guccounter=1&guce_referrer=aHR0cHM6Ly93d3cuZ29vZ2xlLmNvbS8&guce_referrer_sig=AQAAAJQlUfu5NnAPg–VrqYWKLVZDN0fL17byrYagwO02MG50TuxV95SuEIUqDX3oBJvL5G3-8lY885LuNqfwASRBYBp1iXXu5g-jrkSRWt9OP-ptPjHBzzgks3xOMfmErfuD3l5td-0KhrbDUXF8bUf-eeiOSQkeHPZ95TeDGlqtxeG

 

Samia Nakhoul, US, Israel diverge on how to pursue Iran endgame after strikes, diplomats say, Reuters, July 8, 2025, https://www.reuters.com/world/middle-east/us-israel-diverge-how-pursue-iran-endgame-after-strikes-diplomats-say-2025-07-08/

 

Steve Holland and Matt Spetalnick, “Trump urges Hamas to accept ‘final proposal’ for 60-day Gaza ceasefire”, Reuters, July 2, 2025, https://www.reuters.com/world/middle-east/trump-discuss-gaza-iran-with-netanyahu-monday-meeting-2025-07-01/

 

US military helped stop Iranian missiles heading to Israel, officials say, Reuters, June 13, 2025, https://www.reuters.com/world/middle-east/us-military-helped-stop-iranian-missiles-heading-israel-officials-say-2025-06-13

 

USAID’s Gaza Response: External Factors Impaired Distribution of Humanitarian Assistance Through the JLOTS Maritime Corridor, OFFICE OF INSPECTOR GENERAL U.S. Agency for International Development, August 27, 2024, https://oig.usaid.gov/sites/default/files/2024-08/OIG%20Final%20Report%20-%20JLOTS%20Maritime%20Corridor%20Evaluation.pdf

الكلمات الدالة

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *