كتب بواسطة

شهد العالم صعودًا طبيًّا واقتصاديًّا سريعًا لعقار سيماجلوتايد Semaglutide ، الذي يُسوّق بأسماء تجارية مختلفة أبرزها Ozempic. ورغم اعتماده الأساسي لعلاج السكري من النوع الثاني، فقد تجاوز نطاقه العلاجي الرسمي ليُصبح محورًا لتحوّلات عميقة في سلوك الأفراد، وتفاعلات الأسواق، وأولويات السياسات الصحية.

 

إذ ترتكز أهمية هذا العقار في آليته المركبة التي تُعيد تنظيم إشارات التمثيل الغذائي والشهية داخل الجسم، وهو ما أسهم في خلق تحول ملحوظ بين استعماله المُعتمد واستخدامه الفعلي المتسارع لأغراض إدارة الوزن. هذا التباين بين التشريع والاستهلاك يتجاوز مجرد الظاهرة الطبية، ليُشكل نقطة تقاطع معقدة بين الثقافة الشعبية، ونماذج التأمين وسلاسل الإمداد وأنماط الزراعة وسلوك الأسواق العالمية.

 

وفي ظل هذا المشهد المتشابك، تبرز تساؤلات مركزية حول تكلفة العلاج وعدالة الوصول إليه واستدامة الأنظمة الصحية في مواجهته. يهدف هذا التحليل إلى دراسة هذا التحوّل من جذوره الطبية إلى امتداداته العالمية، من خلال قراءة متعددة الأبعاد تشمل آثاره القطاعية داخل الولايات المتحدة، وافتراضات مستقبلية تتعلق بإمكانية تحوّله إلى أداة صحية عالمية منخفضة التكلفة.

التحول من علاج السكري إلى هندسة الوزن

لا يُمكن فهم الديناميات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بعقار سيماجلوتايد Semaglutide دون العودة إلى الأساس العلمي الذي أكسبه هذه المكانة، إذ ينتمي هذا العقار إلى فئة ناهضات مستقبلات receptor agonist GLP-1، وهي فئة دوائية تستهدف تعديل آليات تنظيم الجلوكوز والشهية عبر مسارات متعددة، تبدأ من البنكرياس وتمر بالجهاز العصبي المركزي، وصولًا إلى المعدة والكبد. وقد أتاح هذا التداخل المنهجي مع أنظمة التمثيل الغذائي استخدام العقار في نطاقات علاجية تجاوزت السكري، برغم أن موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) اقتصرت، في البداية، على داء السكري من النوع الثاني وتقليل مخاطر الأحداث القلبية الوعائية المصاحبة له.

 

لكن شركة “نوفو نورديسك” اعتمدت على توزيع تجاري متعدد الأسماء لتُغطي الاستخدامات المختلفة للعقار، فطرحت “Ozempic” كحقنة أسبوعية لعلاج السكري، و”Wegovy” بتركيز أعلى لإدارة السمنة، و”Rybelsus” كأول أقراص فموية يومية ضمن هذه الفئة. ورغم وضوح هذا التقسيم، ساهم التباين في التغطية التأمينية داخل الولايات المتحدة في خلق فجوة تنظيمية سمحت بالاستخدام غير الرسمي لأحد المستحضرات بهدف تحقيق الأهداف المخصصة للآخر، ما أدى إلى ارتفاع الطلب على Ozempic في غير سياقه العلاجي الأصلي.

 

في هذا السياق تكشف البيانات السريرية عن فعالية استثنائية: ففي تجربة استمرت 68 أسبوعًا على بالغين غير مصابين بالسكري، حقق مستخدمو سيماجلوتايد بجرعة 2.4 ملجم أسبوعيًا انخفاضًا في الوزن بنسبة 14.9% من أوزانهم، مقابل 2.4% في مجموعة الدواء الوهمي. أما في إدارة السكري، فقد سجلت برامج تجريبية كبرى مثل SUSTAIN انخفاضات ملحوظة في مستويات HbA1c، مع انخفاض في معدلات النوبات القلبية والوفيات المرتبطة بها.

 

لكن فعالية العقار لم تكن خالية من التحديات، إذ ظهرت آثار جانبية شائعة مثل الغثيان لدى أكثر من 15% من المستخدمين، إلى جانب مضاعفات أقل شيوعًا ولكنها خطرة مثل التهاب البنكرياس، وأمراض المرارة، ومشكلات في الكلى والجهاز الهضمي، وارتباط محتمل بسرطانات الغدة الدرقية، ما دفع الهيئة التنظيمية الأمريكية لإصدار تحذير مشدد (Boxed Warning) بشأن فئة معينة من المرضى. كما أظهرت الدراسات أن التوقف عن استخدام العقار يؤدي إلى استعادة معظم الوزن المفقود خلال عام واحد، ما يرسخ حقيقة أنه ليس علاجًا نهائيًا بل أداة مستمرة لإدارة الحالة.

تحليل قطاعي للتأثيرات الاقتصادية للعقار في الولايات المتحدة

تُعد موجة التبني السريع لعقاقير GLP-1، وفي مقدمتها سيماجلوتايد، إحدى الظواهر النادرة التي يتقاطع فيها التحول الطبي مع اضطراب اقتصادي واسع النطاق. فقد تجاوز العقار الأثر المتوقع على القطاع الصحي ليشمل قطاعات الأغذية، والتأمين، والتجزئة، وحتى الزراعة. حيث تُشير عدد من النماذج الاقتصادية إلى أن تعميم استخدام GLP-1 بين 10% من البالغين ذوي الوزن الزائد، و20% من المصابين بالسمنة، سيؤدي إلى انخفاض إجمالي في الطلب الغذائي اليومي يعادل 20 مليار سعرة حرارية، وهو ما يُترجم إلى تراجع بقيمة 1.2 مليار دولار في الإنفاق الأسبوعي على المواد الغذائية والمشروبات.

 

وقد بدأت هذه التغيرات تُترجم فعليًا في الأسواق. ففي عام 2023، صرّح المدير التنفيذي لشركة Walmart أن الشركة رصدت تراجعًا ملموسًا في مبيعات الأغذية لدى شريحة العملاء الذين يستخدمون وصفات Ozempic أو Wegovy، ما يعكس بداية تحوّل حقيقي في أنماط الشراء. وفي هذا السياق، سجّلت منتجات الوجبات السريعة والحلويات والمشروبات الغازية أعلى نسب الانخفاض، بينما ارتفعت مبيعات الأغذية الغنية بالبروتين، والخضروات، والوجبات منخفضة الكربوهيدرات. وتُقدّر شركة EY-Parthenon أن التأثير الصافي لهذه التغيّرات قد يؤدي إلى انكماش بنحو 12 مليار دولار في سوق الوجبات الخفيفة وحده بحلول 2027، إذا ما استمر مسار التوسع الحالي في اعتماد العقار.

 

كذلك استجابت شركات الأغذية لهذا التحول بطريقة تكيفية سريعة. إذ أطلقت شركة Nestlé، مثلًا، مشروبًا جديدًا يُروَّج له كأداة لتقليل الشهية، بينما أدرجت Conagra ملصقات واضحة تحمل عبارة “GLP-1 Friendly” على منتجات Healthy Choice الخاصة بها. أما مطاعم مثل Smoothie King، فقد خصصت قوائم جديدة بالكامل للمستخدمين الجدد لهذه الفئة من الأدوية، تحت عنوان “GLP-1 Support Menu”. وفي المستوى الزراعي، ناقش خبراء في منتدى التوقعات الزراعية التابع لوزارة الزراعة الأمريكية (USDA Outlook Forum 2024) احتمالية تحوّل الاستراتيجية الزراعية من التركيز على “كثافة السعرات” إلى “كثافة المغذيات”، وهو تحول قد يُعيد توجيه منظومة الزراعة الأمريكية بالكامل.

 

أما في قطاع التأمين الصحي، فقد تحوّلت أدوية GLP-1 إلى ساحة صراع بين التكاليف الآنية والفوائد المؤجلة. فعلى الرغم من التأكيدات السريرية على أن استخدام هذه الأدوية يُقلل من الحاجة المستقبلية للعلاج من أمراض مزمنة مثل النوبات القلبية، والسكتات الدماغية، وتدهور الكلى، فإن الكلفة الشهرية المرتفعة (التي تتراوح بين 936 و1349 دولارًا دون تأمين) تُشكل عبئًا تمويليًا مباشرًا على شركات التأمين. إذ تُظهر بيانات Medicare أن إجمالي الإنفاق على ثلاث أدوية فقط من هذه الفئة (Ozempic، Rybelsus، وMounjaro) ارتفع من 57 مليون دولار عام 2018 إلى أكثر من 5.7 مليار دولار في 2022، أي بزيادة تفوق 9800% خلال أربع سنوات فقط. وقد شكّل Ozempic وحده 4.6 مليار دولار من هذا الإنفاق، ليحتل المركز السادس ضمن أكثر الأدوية تكلفة في برنامج Medicare Part D لعام 2022.

 

هذه الزيادة الهائلة في الطلب والإنفاق تقابلها فجوة في التغطية التأمينية؛ فبينما تُغطي معظم خطط التأمين التجاري Ozempic لعلاج السكري، فإنها غالبًا ما تستثني Wegovy المستخدم خصيصًا لإدارة الوزن. كما أن قوانين Medicare الفيدرالية تمنع تغطية أي دواء مخصص فقط لخسارة الوزن، ما يُحرم ملايين المرضى من الوصول القانوني للعلاج، ويدفع الكثيرين إلى الاعتماد على وصفات غير رسمية، أو اللجوء إلى السوق السوداء.

 

كما تُعمّق فجوة التسعير هذه الأزمة؛ إذ تُظهر مقارنة دولية أن العقار نفسه يُباع في المملكة المتحدة مقابل 93 دولارًا، وفي فرنسا مقابل 83 دولارًا، بينما يصل في اليابان إلى 169 دولارًا وفي كندا إلى 147 دولارًا. هذا التفاوت، الذي يصل في بعض الحالات إلى عشرة أضعاف، يعكس غياب آليات مركزية للتفاوض على الأسعار في النظام الأمريكي، خلافًا لمعظم الأنظمة الصحية الأوروبية. ونتيجة لهذا الخلل، تتحمّل الولايات المتحدة عبئا غير متناسب من تكلفة الابتكار الدوائي، ما يؤثر سلبًا على استدامة البرامج الصحية، ويُثير تساؤلات بنيوية حول عدالة التسعير والكفاءة الاقتصادية للنموذج الأمريكي في إدارة الرعاية المزمنة، يوضح الجدول الشكل التالي اختلاف التسعير في عدد من دول العالم:

 

فرضية العشرين دولارًا: نمذجة الأثر العالمي لإتاحة العقار بتكلفة منخفضة

مما سبق يتضح الأثر الذي يُعمقه العقار في الاقتصاد العالمي عند المُستويات السعرية المُرتفعة الحالية، لذلك ينتققل التحليل إلى سيناريو تنخفض فيه التكلفة الشهرية لعقار سيماجلوتايد إلى 20 دولارًا  بما قد يُمثل نقطة انعطاف تحليلية في تقييم أثره العالمي. إذ إنّ الانتقال من نموذج السوق المحكوم بأسعار مرتفعة كما في الولايات المتحدة، إلى نموذج عالمي قائم على الوصول الواسع، من شأنه أن يُعيد صياغة العلاقة بين الصحة العامة والاقتصاد الكلي، خاصة في الدول متوسطة ومنخفضة الدخل (LMICs). تُقدّر منظمة الصحة العالمية أن هناك أكثر من 890 مليون بالغ يعانون من السمنة، من أصل 2.5 مليار يُصنّفون كأفراد ذوي وزن زائد، في حين تجاوز عدد المصابين بالسكري عالميًا 590 مليونًا في عام 2024، يُتوقع أن يصل إلى 853 مليونًا بحلول عام 2050، 90% منهم تقريبًا من النوع الثاني المرتبط بالسمنة.

 

توضح هذه الأرقام أن خفض تكلفة العلاج إلى 20 دولارًا شهريًا قد يُحوّل العقار من منتج نخبة إلى أداة تدخل جماعي في مجالات الصحة العامة. حيث تشير تقديرات المعهد السويسري لإعادة التأمين (Swiss Re) إلى أن التبني واسع النطاق لعقاقير GLP-1 قد يؤدي إلى انخفاض في معدلات الوفاة الإجمالية بنسبة 6.4% في الولايات المتحدة و5.1% في المملكة المتحدة بحلول عام 2045، إذا اقترن بالاستخدام طويل الأمد والتغيرات السلوكية المصاحبة.

 

كما قد يمتد هذا التأثير الصحي إلى مُعدلات النمو الاقتصادي، حيث تُشير تقديرات Goldman Sachs إلى أن تعميم استخدام GLP-1 قد يُسهم في رفع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 0.6% بحلول عام 2040، نتيجة لتحسّن الإنتاجية، وتراجع الإنفاق على الأمراض المزمنة، وزيادة المشاركة في سوق العمل. غير أن هذا السيناريو يتطلب بنية تحتية معقّدة تشمل تصنيعًا واسع النطاق، وسلاسل تبريد وتوزيع فعالة، ونظمًا صحية قادرة على ضمان الاستعمال المستمر والمتابعة الطبية، وهو ما لا يتوافر بشكل منتظم في معظم دول الجنوب العالمي.

 

في المقابل، فإن تعميم الوصول إلى هذا النوع من العلاجات يفرض ضغطًا غير مسبوق على نماذج الزراعة التقليدية، إذ سيؤدي إلى انخفاض منهجي في الطلب على الأغذية مرتفعة السعرات، مقابل زيادة على الأغذية البروتينية والغنية بالألياف. وبالتالي فإن أي استراتيجية دولية لتوسيع نطاق العقار ستتطلب أيضًا إعادة تنظيم لأسواق الغذاء العالمية، بما يشمل تخصيص الأراضي، وأنماط التجارة، وهيكل التسعير الزراعي، ما يُدخل تأثير العقار في نطاق الأمن الغذائي والاقتصاد السياسي الدولي.

 

مما سبق تكشف دراسة سيماجلوتايد عن تحوّل مركّب يتجاوز الإطار الدوائي، ليُعيد صياغة العلاقة بين الابتكار الطبي، والعدالة الصحية، واستقرار النظم الاقتصادية والاجتماعية. في ظل استمرار الأسعار المرتفعة، حيث يُكرّس العقار نمطًا غير مستدام من التفاوت في فرص الوصول بين الدول والفئات، ويُغذي ديناميات سوق موازية غير منظمة، ويُرهق منظومات التأمين. أما في سيناريو الإتاحة العامة بتكلفة منخفضة، فيتحوّل العقار إلى أداة تدخل صحي جماعي يُمكن أن تخفّض مُعدلات الوفيات، وترفع مُستويات الإنتاجية، وتُعيد هيكلة سلاسل الإنتاج الغذائي.

 

لذلك تتطلب مواجهة هذا التحوّل تدخلًا استباقيًا من جميع الفاعلين. على شركات الأغذية التكيّف مع طلب جديد يقوم على القيمة الغذائية، لا الكثافة الحرارية. ويجب على مؤسسات التأمين تبنّي نماذج تمويل قائمة على العائد الصحي طويل الأجل. كما ينبغي على الحكومات مراجعة سياسات التسعير والتغطية، ومواجهة الأسواق غير النظامية، وضمان البنية التحتية اللازمة للنفاذ العادل. أما الشركات المصنّعة، فعليها استباق الطلب العالمي بالاستثمار في القدرة الإنتاجية وتبني نماذج تسعير عادلة. إذ يتوقف مستقبل هذا العقار يتوقف على قدرة النظام العالمي على التوسع في إنتاجه، كما قد يؤدي التوسع في انتاجه إلى إعادة صياغة شكل الاقتصاد العالمي.

المراجع

GLP-1 RA Mechanism of Action | Ozempic® (Semaglutide) Injection 0.5 Mg, 1 Mg, or 2 Mg.2017. NovoMEDLINK. 2017.https://www.novomedlink.com/diabetes/products/treatments/ozempic/about/mechanism-of-action.html

 

Magda Sara Wojtara, Yusra Syeda, Nikodem Mozgała, and Ashmita Mazumder. 2023.Examining Off-Label Prescribing of Ozempic for Weight-Loss. Qeios, June.https://doi.org/10.32388/t6y97s

 

Hubmed. 2025.How Does Ozempic Work? The Science behind GLP-1 Medication.Hubmeded.com. July 31, 2025. https://www.hubmeded.com/blog/how-does-ozempic-work-the-science-behind-glp-1

 

How Do Prices of Drugs for Weight Loss in the U.S. Compare to Peer Nations’ Prices? – Peterson-KFF Health System Tracker. 2023. Peterson-KFF Health System Tracker.August 17, 2023. https://www.healthsystemtracker.org/brief/prices-of-drugs-for-weight-loss-in-the-us-and-peer-nations/

 

Center. 2025. “FDA’s Concerns with Unapproved GLP-1 Drugs Used for Weight Loss. U.S. Food and Drug Administration. 2025. https://www.fda.gov/drugs/postmarket-drug-safety-information-patients-and-providers/fdas-concerns-unapproved-glp-1-drugs-used-weight-loss

 

World. 2024.Diabetes. Who.int. World Health Organisation: WHO. November 14, 2024.https://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/diabetes

 

Marsh, Sarah. 2025.Social Media and Weight Loss Drugs Drive UK Rise in Facelifts in Men and People in Their 40s. The Guardian. The Guardian. September 25, 2025.https://www.theguardian.com/lifeandstyle/2025/sep/25/uk-rise-facelifts-men-social-media-weight-loss-drugs

 

Globalnewsdigital. 2023.Rise of Ozempic Ads in Canada Raising Concern. What Are the Risks? Global News. June 20, 2023. https://globalnews.ca/news/9779972/ozempic-ads-canada-concerns/

 

Heitmann, Berit L. 2025.The Impact of Novel Medications for Obesity on Weight Stigma and Societal Attitudes: A Narrative Review. Current Obesity Reports 14 (1).https://doi.org/10.1007/s13679-025-00611-5

 

Sodhi, Neha. 2025.Impact of Social Media: The Rise of Ozempic. The Cornell Healthca. February 16, 2025. https://www.cornellhealthcarereview.org/post/impact-of-social-media-the-rise-of-ozempic

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *