كتب بواسطة

فرضت الحرب الروسية الأوكرانية سُحبًا كثيفة من عدم اليقين على أسواق الطاقة في العالم، حيث أدت إلى اضطراب العلاقات التجارية بين ثاني أكبر موردي الطاقة في العالم، وثاني أكبر مُستورديها، الأمر الذي يُرجح بشدة تغيُر سلاسل إمداد الطاقة العالمية كما كُنا قد أشرنا لذلك في تحليل سابق، حيث ستتجه أوروبا في المدى القصير إلى منطقة الخليج العربي التي تستطيع دون غيرها سد العجز الناتج عن نقص المُنتجات الروسية في المدى القصير.

 

لكن الوضع سيختلف في المدى الطويل، حيث ستندفع أوروبا للبحث عن مصادر ذات استدامة عالية وبأثمان معقولة وأقل تلويثًا للبيئة من النفط، الذي لا يتوافق استخدامه مع الصفقة الخضراء الأوروبية The European Green Deal التي تستهدف خفض الانبعاثات الحرارية الناتجة عن القارة بنحو ٥٥٪ في ٢٠٣٠ من مستوياتها في ١٩٩٠، بالإضافة إلى الوصول بالقارة كاملة للحياد الكربوني في عام ٢٠٥٠، وهو ما لا يتصور تحقيقه في ظل استخدام النفط.

 

الأمر الذي سيدفع أوروبا دفعًا للجوء إلى جوارها وخصوصًا دول شمال إفريقيا التي تتمتع بمصادر طاقة متنوعة تستطيع تحقيق الأهداف الأوروبية وتأمين استدامة الطاقة، لذلك يبحث هذا المقال في الاحتياجات الأوروبية، وقدرات الطاقة في شمال إفريقيا، ومدى كفاية هذه القُدرات لتلبية تلك الاحتياجات.

قصور المصادر الذاتية الأوروبية:

يتكون خليط الطاقة الذي تستخدمه أوروبا في الأساس من مصادر أحفورية أهمها النفط الذي يُشكل نحو ٣٥٪ من إجمالي الطاقة المُستخدمة في القارة يليه الغاز الطبيعي بنحو ٢٤٪، كما يوضح الشكل التالي:

 

 

يُظهر الشكل أن نحو ٧٠٪ من خليط الطاقة الأوروبي مازالت تُسيطر عليه المصادر الاحفورية التي تمتلك أوروبا منها كميات متواضعة نسبة إلى استهلاكها، مما يدفعها في الوقت الحالي إلى تأمين هذه الاحتياجات من مُعظم الدول المُنتجة في العالم، حتى أن الاتحاد الأوروبي في عام ٢٠١٩، وقبل أية توترات في العلاقة مع روسيا استورد كميات من الغاز المُسال من كُلًا من الولايات المُتحدة، شيلي، ترينداد وتوباجو وغيرها، إلا أن روسيا في جميع الأحوال ظلت المُصدر الأكبر والأساسي للقارة، بسبب القُرب الجغرافي وتوافر البنية التحتية من أنابيب ومحطات تدفيع وضخ لنقل الغاز والنفط إلى أوروبا مُنذ الحُقبة السوفيتية، بما أسفر عن انخفاض تكلفة المُنتجات الروسية خصوصًا، بما عمق الاعتماد الأوروبي عليها، توضح الخريطة التالية شبكة أنابيب الغاز الرئيسية بين روسيا وأوروبا.

 

 

من جانب آخر حاولت أوروبا تعويض النقص الذي تُعانيه من المواد الأحفورية، فتوسعت في بناء المُفاعلات النووية، بغرض تعظيم الاعتماد على الذات خصوصًا بعد الحرب أكتوبر ١٩٧٣ وأزمة الطاقة التي صاحبتها، لكن هذا الاتجاه انحصر بعد الكوارث النووية في تشيرنوبيل وهيروشيما، وتنامي المخاوف بشأن مُعدلات الأمان النووي، كما عمقت التغيُرات المُناخية ودرجات الحرارة المُرتفعة وتأثيراتها على مياه الأنهار الداخلية التي تُستخدم في عمليات تبريد المُفاعلات من اتجاهات التخلي عن الطاقة النووية بسبب انخفاض كفاءة توليد الطاقة في ظل انخفاض جودة التبريد.

 

العاملين السابقين معًا أديا إلى تعاظم الاعتماد الأوروبي على الخارج مُنذ لترتفع نسبة هذا الاعتماد من مُستويات ٥٠٪ في عام ١٩٩٠ إلى ٦٠.٥٪ في عام ٢٠١٩ قبل أزمتي كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، كما يوضح الشكل التالي:

 

 

يوضح الشكل تزايد الكميات الأوروبية المُستهلكة من النفط حتى عام ٢٠٠٦، ومن الغاز حتى عام ٢٠٢١، وفي ذات الوقت استمرار تزايد الاعتماد الأوروبي على الخارج من مُجمل مصادر الطاقة مُقارنة بعام ١٩٩٠، الأمر الذي يُسبب الأزمة الحالية ويُفاقم الأوضاع الداخلية، بعد النزاع مع روسيا وتوظيف الأخيرة النفط في الصراع مع القارة الأوروبية، لذلك فإن الأزمة حركت القارة الأوروبية لإيجاد بديل للطاقة الروسية، تتوافر فيه مزايا القُرب الجغرافي، وغزارة القُدرات الإنتاجية من الطاقة الأقل تلويثًا للبيئة بحيث تستطيع تحقيق مُستهدفاتها المُناخية، دونما تأثير على تنافسية صناعتها… وهنا يبزغ إقليم شمال إفريقيا كبديل يجمع هذه المُميزات.

قدرات الطاقة في إقليم شمال إفريقيا:

تتنوع قُدرات الطاقة لدى دول إقليم شمال إفريقيا والذي يتكون من ست دول هي مصر، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، وموريتانيا، ما بين نفط، غاز، فحم ومن المصادر المُتجددة خصوصًا الشمس والرياح، وتتجه بعض دول الإقليم إلى تدشين برامج نووية لأغراض توليد الطاقة، وهنا نستعرض قُدرات الطاقة في دول الإقليم بشكل عام خصوصًا من الغاز والطاقة المُتجددة، الذين تستهدف أوروبا استيرادهما لتحقيق ما يتوافق مع مُستهدفاتها للمُناخ.

 

 قُدرات الغاز الطبيعي:

ترتفع قُدرات الغاز الطبيعي لدول الإقليم باستمرار، وذلك مع استمرار عمليات البحث والتنقيب حيث تصل احتياطيات الغاز المُثبتة لدى كُلًا من مصر، ليبيا والجزائر إلى نحو ٥٫٨ تريليون م٣ أي ما يُعادل كامل الاستهلاك الأوروبي الذي يبلغ نحو ٥٧١ مليار م٣ في عشر سنوات(5)، فيما تتوقع هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية أن تصل احتياطيات الإقليم إلى نحو ٦٫٥ تريليون م٣ في المُستقبل. كذلك فإن لدى دول الإقليم بنية تحتية قوية يُمكن البناء عليها للتصدير بأسعار تنافسية للقارة، خصوصًا مع قُرب المسافة، وذلك للتعويض نسبيًا عن أسعار الغاز المُرتفعة التي تستوردها أوروبا من مناطق أخرى خصوصًا عبر الأطلسي مثل الأميركتين.

 

ويحوي الإقليم نحو ١٨ محطة لإسالة واستقبال الغاز الطبيعي ما يُمكنها من إسالة نحو ١٠ مليون طُن من الغاز سنويًا، بالإضافة إلى شبكة تبلغ نحو ٢٤٫٥ ألف كم من أنابيب الغاز ترتبط بثلاث ممرات إلى أوروبا هي Green Stream Trans-Mediterranean Gas ،Pipeline، وMed Gaz وفيما يخرج الخط الأول من ليبيا ، يخرج الخطان الثاني والثالث من الجزائر.

 

من جانب آخر تتنامى القدرات التصديرية لدول المنطقة والتي بلغت في ٢٠٢١ نحو ٥١ مليار م٣ وهو عُشر الاستهلاك الأوروبي في ذات العام، يوضح الجدول الشكل التالي قُدرات انتاج واستهلاك والقدرات التصديرية لدول الإقليم.

 

 

تتجه هذه الكميات كذلك للزيادة بسبب قيام مصر بالتعاون مع دول حوض شرق المتوسط، خصوصًا قبرص واليونان وإسرائيلي لتسييل الغاز الإسرائيلي وإعادة تصديره، بما يُضيف بُعدًا جديدًا للإقليم وهو العمل كممر للغاز من أقاليم أخرى بالإضافة لدوره كمُصدر رئيسي.

 

قُدرات الطاقة الشمسية:

يقع الإقليم على مدار السرطان عند دائرة عرض ٢٣٫٣ درجة شمال خط الاستواء حيث تتعامد أشعة الشمس خلال مُعظم أيام الصيف، وتطول ساعات النهار لتتراوح في مُعظم أيام السنة بين ١٠ إلى ١٣ ساعة يوميًا، بما يزيد بشكل كبير من كميات الأشعة التي يتلقاها الإقليم طوال فترات العام، يُضاف إلى ذلك مُعظم مناطق الإقليم هي مناطق صحراوية مُنبسطة على مساحات شاسعة تتجاوز ٩ ملايين كم٢ ضمن إقليم الصحراء الكُبرى، خالية من أية عوائق أُفقية أو رأسية تمنع وصول أشعة الشمس، أو تنصيب محطات الطاقة الشمسية، كما يوضح الشكل التالي:

 

 

يوضح الشكل أن إقليم شمال إفريقيا من بين أكثر مناطق العالم قُدرة على توليد الطاقة الشمسية، بحيث تصل قُدرة بعض المناطق في الصحراء الكُبرى إلى توليد ٢٫٤ ميجاوات من المتر المُربع الواحد خلال العام، الأمر الذي يحول الإقليم إلى أفضل مصادر الطاقة المُتجددة على الإطلاق في العالم خصوصًا بالنسبة للقارة الأوروبية بسبب قصر المسافة، وتحقيق مُستهدفات المُناخ.

 

من جانب آخر تُشغل دول الإقليم في الوقت الحالي حوالي ٣٫٣ جيجا وات من محطات الطاقة الشمسية، فيما تعمل على إضافة ٢٫٥ جيجا وات في الوقت الحالي تنتهي مُعظمها بحلول ٢٠٢٤، كما يوضح الجدول التالي:

 

 

يوضح الجدول أن إجمالي القُدرات المُستقبلية من الطاقة الشمسية لدول الإقليم تبلغ ٤٢٫٢ جيجاوات أو ما يُقارب عُشر أعلى مُعدل استهلاك للطاقة في تاريخ الاتحاد الأوروبي الذي بلغ ٤٧٣ جيجا وات، وأكثر من ٨٪ من أعلى مُعدل مُتوقع في ٢٠٤٠ والبالغ ٥١٨ جيجا وات.

 

مفاد ما سبق أن الأزمة الروسية الأوكرانية -بسبب ما خلقته من اضطرابات في سوق الطاقة- ستحول الاهتمام الأوروبي في المدى المتوسط والطويل إلى إقليم شمال إفريقيا لتعويض الفاقد من الطاقة الروسية، وتنويع مصادر الطاقة الأوروبية، وخفض الاعتمادية الحالية للاتحاد الأوروبي على الروس، وهو ما سيُحول المنطقة في المُستقبل لمُصدر طاقة رئيسي عالمي، في ما يُشبه خلق منطقة خليج جديدة، تُغير من اقتصاديات دولها، بالكامل، وتخلق اقتصادات طاقة جديدة مُستدامة ستنبي حولها عمليات تنمية مُشتركة في أوروبا والإقليم لعقود قادمة.

المراجع

 A European Green Deal [Internet]. [cited 2023 Feb 12]. Available from: https://commission.europa.eu/strategy-and-policy/priorities-2019-2024/european-green-deal_en

 

Lieber RJ. After the second oil crisis: energy policies in Europe, America, and Japan. Int Aff. 1982 Jan 1;55(4):531–45

 

France Needs to Study Impact of Global Warming on Nuclear Plants – Bloomberg [Internet]. [cited 2023 Feb 12]. Available from: https://www.bloomberg.com/news/articles/2023-01-23/france-needs-to-study-impact-of-global-warming-on-nuclear-plants

 

EU energy mix and import dependency – Statistics Explained [Internet]. [cited 2023 Feb 13]. Available from: https://ec.europa.eu/eurostat/statistics-explained/index.php?title=EU_energy_mix_and_import_dependency#EU_energy_dependency_on_Russia

 

Statistical Review of World Energy | Energy economics | Home [Internet]. [cited 2023 Feb 7]. Available from: https://www.bp.com/en/global/corporate/energy-economics/statistical-review-of-world-energy.html

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *