كتب بواسطة

باتت مكانة إسرائيل المعلنة باعتبارها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط موضع تساؤل مع خروج الإسرائيليين الغاضبين إلى الشوارع للاحتجاج على أحدث مقترحات الحكومات، كما أدت محاولة حكومة نتنياهو اليمينية المثيرة للجدل لإصلاح القضاء إلى تكثيف حالة الاستقطاب، ووسعت الفجوات المتجذرة بين اليمين واليسار وكذلك الشرائح العلمانية والدينية في المجتمع. جرت الموافقة بالفعل على القانون المقترح، الذي سيسمح للحكومة بإلغاء قرارات المحكمة بأغلبية بسيطة وإجراء التعيينات القضائية الخاصة بها، في جلسة للجنة القانون والدستور في الكنيست من أجل التصويت عليها بالقراءة الأولى في الكنيست في 20 فبراير، ومن المفترض أن يسمح ذلك بمزيد من الوقت للطرفين لمحاولة إجراء عملية تفاوض.

 

ومع تراجع الثقة في الأحزاب السياسية والعملية الديمقراطية الرسمية، يبدو أن مواصلة الضغط من خلال الاحتجاجات حتى يتم إلغاء القانون هو الخيار الوحيد أمام اليسار مع استمرار الاحتجاجات للأسبوع السابع على التوالي. وسواء كانت النتيجة هي إلغاء القرار أو الدخول في عملية تفاوض مطولة، يمكن القول إن الوضع الحالي كان بمثابة حافز للتحول المجتمعي الذي قد يكون طال انتظاره بالنسبة للإسرائيليين، حيث يتساءل الكثير منذ سنوات "ماذا حدث لليسار الإسرائيلي؟" لكن العملية التي تتكشف حاليًا قد يكون لها تبعات أكبر. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو، ما مدى أهمية هذا التحول، وإلى أي مدى يمكن أن يخترق ويعيد تشكيل بعض التيارات والمكونات الأكثر تجذرًا في الثقافة السياسية الإسرائيلية وما هو التأثير المحتمل لهذا التحول على الصراع مع فلسطين؟

الاستقطاب: الوعي مقابل الإنكار

تشبه إحدى مقالات صحيفة “هآرتس” النضال السياسي الحالي باللحظة الوحيدة في تاريخ إسرائيل، التي وقعت بعد ستة أسابيع فقط من تأسيسها عام 1948، عندما كانت على وشك الدخول في حرب أهلية. تشير حقيقة أن الإسرائيليين كانوا يشعرون بالقلق بالفعل بشأن “حرب الإخوة” خلال الشهر الأول من الاحتجاجات إلى الوعي بخطورة الموقف وحالة عدم اليقين بشأن المدى الذي قد تنفجر فيه الأوضاع، بما في ذلك المدى الذي قد يصل إليه كل طرف من أجل تحقيق غاياته. ثمة مزاعم مفادها أنه منذ عام 1967، لا يتعلق التباين الرئيسي بين اليسار واليمين في السياسة الإسرائيلية بالسياسات الاجتماعية والاقتصادية بقدر ما يتعلق بموقفهم من الصراع مع فلسطين. حقيقة أن التوترات الحالية، التي لا تتعلق مباشرة بالقضية الفلسطينية، من شأنها أن تثير هذه المخاوف الوجودية تدل على التحول الذي قد يحدث، وتشير إلى أنه قد يكون من الصعب الاستمرار في فصل الاحتلال عن النقاش حول الديمقراطية.

 

لكن لماذا يجب أن يكون الوعي مهمًا للإسرائيليين؟ لأن أحد العناصر الأساسية لحل النزاعات التي طال أمدها هو صعوبة تحديد الأسباب الرئيسية للنزاع والتوصل إلى توافق في الآراء بشأنها وتحديد العقبات المحددة التي تحول دون حدوث التغيير. وعلى كل من اليمين واليسار أن يتفقوا على تحديد ماهية التهديد الحقيقي في الوقت الحالي، فعلى مر السنين، أعلن بعض الإسرائيليين صراحة أن العنصرية والانقسامات بين المجموعات من أكبر التهديدات لمجتمعهم، ومع ذلك ولسبب ما لم تتم معالجتها. يوضح الرسم البياني أدناه التوترات المتزايدة بين اليمين واليسار في العقد الماضي.

 

 

يعد أحد أكبر الأسباب التي رفض الكثير من اليمين واليسار مواجهتها هو تأثير الاحتلال، ويمكن القول إن هذا الإنكار جعل بعض الانقسامات السياسية الأخرى المحتومة غير معلنة. على سبيل المثال، في السنوات الماضية، وعلى الرغم من أن العديد من اليهود العلمانيين يفضلون تزايد حالة الانقسام بين الدين والدولة، إلا أنهم لا يزالون يؤيدون المعاملة التفضيلية لليهود في ظل الدولة اليهودية، وهو موقف كان يتشاطره اليهود المتدينون والتقليديون، حيث أضافوا ما يصل إلى 79٪ من المستطلعين اليهود. هذا التفوق اليهودي هو الآن أحد العوامل التي يلقى عليها باللوم في تدهور الديمقراطية المتدهورة، كما تساهم الأفكار المختلفة حول ما تنطوي عليه الدولة اليهودية أيضًا في عدم تطابق التوقعات؛ وفي حين أن غالبية الإسرائيليين عبر المجموعات يجدون أن إسرائيل يمكن أن تكون دولة يهودية ودولة ديمقراطية، يقول 36٪ من الحريديم – اليهود الأرثوذكس المتطرفين الذين يتوقع أن يشكلوا 16٪ من المجتمع بحلول نهاية العقد – على سبيل المثال أن المزج بين دولة يهودية ودولة ديمقراطية لا يمكن تطبيقه . في الوقت الحالي، يعد المواطنون المتدينون هم المجموعة الأكثر تمثيلاً في الكنيست. وفي ضوء ذلك، قد يبدأ أولئك الذين لا يشعرون بأنهم ممثلون في الكنيست، بما في ذلك 62٪ من الناخبين اليساريين، بإعادة النظر في تعريفهم للديمقراطية.

إعادة تعريف الديمقراطية

في الواقع، ثمة أقلية من اليساريين يشاركون في الاحتجاجات الأخيرة ممن يعتقدون أن حماية الديمقراطية تتطلب دولة تكون فيها المساواة في مقابل التفوق اليهودي. ومن بينهم أولئك الذين يدركون أنه بالنسبة للعديد من “اليساريين” الآخرين، فإن هذا يدفع للتصرف بطريقة تتحدى القواعد المعمول بها أو يعرض الهدف الرئيسي للاحتجاجات للخطر، ومع ذلك، فإنهم يرون أنه خطوة ضرورية لإصلاح ديمقراطيتهم. تتوافق هذه الأقلية، التي تم الإشارة إليها بشكل غير رسمي من خلال تغطية الاحتجاجات، مع استطلاع للرأي العام جرى في 2022 ذكر فيه 8٪ ممن شملهم الاستطلاع أن الحل المفضل لديهم للصراع هو حل الدولة الواحدة مع منح حقوق متساوية لجميع المواطنين. لكن هذه المجموعة قد لا تشكل أقلية لفترة طويلة، ففي شهر يناير حضر 600 يهودي، من بينهم أرثوذكس متطرفين وقوميين متدينين وعدد قليل من الإسرائيليين العلمانيين، أول “مؤتمر لليسار المؤمن” حيث ناقش متحدثون ومشاركون مختلفون القضايا المتعلقة بالاحتلال والنسوية والدين والدولة ومحاربة الفقر وعدالة التوزيع. وكان من أهم نقاط الحديث التي تكرر مناقشتها في المؤتمر هو دور الاحتلال والسياسيين اليمينيين في تطبيع التطرف والعنصرية والعنف. وبدأ الكثيرون الآن في رؤية كيف أن الأدوات المستخدمة “لحمايتهم” من الفلسطينيين تعمل على تشكيل مجتمعهم.

 

وفي تحول مهم للأحداث، أدت الإصلاحات القضائية المقترحة أيضًا إلى حدوث انقسامات صغيرة بين اليمين، حيث أصبح اليمين الديني أكثر بروزًا في الاحتجاجات، كما وقعت مجموعة من رؤساء البلديات اليمينيين على خطاب مفتوح يدعو الحكومة والمعارضة للعمل من أجل التوصل إلى حل وسط. ومع ذلك، يبدو من غير المرجح في الوقت الحالي ما إذا كان اليسار، بدون قيادة واضحة، قادرًا على التنازل عن هذه الإصلاحات. علاوة على ذلك، في حين أن الانقسامات داخل اليمين تقدم فرصة لليسار من أجل الحشد والتعبئة والحصول على الدعم، إلا أنها تزيد أيضًا من احتمالية وجود يمين وسط أكبر أو يسار أكبر لأن المخاوف الأمنية تدفع الإسرائيليين إلى السعي إلى الوصول إلى حل وسط، ما قد يؤدي إلى استمرار الأمور كما كانت دون أي تغيير يذكر.

هل يمكن استدامة الوضع الراهن؟

لا يزال استمرار عدم رغبة غالبية الإسرائيليين في مواجهة الاحتلال ومعالجته فيما بينهم في احتجاجات يناير، يوضح كيف أن الدور المهيمن لليمين يحد بوضوح من مرونة الرسائل السياسية لليسار. كما عبّر بعض المتظاهرين عن رفضهم رفع الأعلام الفلسطينية أثناء الاحتجاجات، وخوفهم من سوء تعريفها على أنها مظاهرات فلسطينية وأن اليمين قد يستخدمها لتشويه سمعتها. وبالرغم من أن 60٪ من الإسرائيليين من كافة الخلفيات والفصائل السياسية يعتقدون أن الإصلاح القضائي سيؤدي إلى بروز شكل من أشكال العنف ، إلا أن 31٪ فقط يعتقدون أنه يجب إيقاف العملية، بينما يعتقد 31٪ أنه يجب تأجيلها، فيما قال 24٪ إنها يجب أن تستمر كما هو مخطط لها. وفي حين أن هذا يتناقض على ما يبدو مع البيانات السابقة التي أظهرت أن الثقة في النظام السياسي قد تراجعت، وبالتالي يجب على المزيد من الإسرائيليين أن يكون لديهم الرغبة في إيقاف العملية تمامًا، فمن المحتمل أيضًا أن العديد ممن يؤيدون الإصلاحات أو أولئك المترددون بشأنها يشعرون بالقلق بشأن تزايد أعداد المتظاهرين.

 

أدى التحول المجتمعي البطيء والمتجدد في إسرائيل، والذي نتج عن الحاجة إلى معالجة العملية الديمقراطية المتدهورة حالة الانقسام المتعمقة، إلى قيام اليسار الإسرائيلي بمواجهة تلك الانقسامات، والتي يدركون الآن أنها تضعف موقفها، فضلاً عن وكذلك التفكير الجماعي في الوقوف على أسباب الاستقطاب. لقد أدى ذلك إلى بدء عملية إعادة تقييم نقدي لتعريف ماهية الديمقراطية، بالإضافة إلى إعادة تشكيل التركيبة السكانية السياسية، مع تحرك بعض اليمين واليسار نحو الوسط بالإضافة إلى نمو اليسار الديني. وعلى الرغم من احتمالية التوصل إلى حل وسط بين الحكومة والمعارضة، إلا أن الإسرائيليين الآن في حالة تأهب قصوى للتهديدات التي قد تمس حقوقهم وحرياتهم، ويبدو أن هناك فرصة سانحة لمعالجة وإعادة التفكير في بعض القضايا الأكثر حساسية، وخاصة فلسطين.

المراجع

Pfeffer, Anshel. “Democracy in Israel Will End before a Civil War Erupts.” Haaretz.com. Haaretz, January 12, 2023. https://www.haaretz.com/israel-news/2023-01-12/ty-article/.premium/democracy-in-israel-will-end-before-a-civil-war-erupts/00000185-a6e6-d948-a1bd-eee7e8200000

 

Bloomfield, David, and Daniela Körppen. “The Circularity of Conflict Dynamics.” Essay. In Social Change and Conflict Transformation, 77–79. Berlin: Berghof-Forschungszentrum für Konstruktive Konfliktbearb, 2006.

 

Gross, Judah Ari. “Haredim Are Fastest-Growing Population, Will Be 16% of Israelis by Decade’s End.” The Times of Israel, January 2, 2023.

 

Mitchell, Travis. “Israel’s Religiously Divided Society.” Pew Research Center’s Religion & Public Life Project. Pew Research Center, April 13, 2022. https://www.pewresearch.org/religion/2016/03/08/israels-religiously-divided-society/

 

“Hate Index 2022.” PNIMA Movement, 2022. https://www.pnimaisrael.com/%D7%9E%D7%93%D7%93%D7%94%D7%A9%D7%A0%D7%90%D7%94

 

Shimoni, Ran. “At Tel Aviv Protest, a Minority Makes Its Mark with Palestinian Black, Red and Green.” Haaretz. Haaretz, January 15, 2023. https://www.haaretz.com/israel-news/2023-01-15/ty-article/.premium/at-tel-aviv-protest-a-minority-makes-its-mark-with-palestinian-black-red-and-green/00000185-b5bf-db30-adc7-ffffbb8c0000

 

“What Do Israelis Really Think about the Two-State Solution?” Geneva Institute. Midgam Institute, July 2022. https://geneva-accord.org/wp-content/uploads/2022/07/Israeli-Public-Opinion-Poll-July-2022-1.pdf

 

Roth-Rowland, Natasha. “A Coming out Party for Israel’s Religious Jewish Left.” +972 Magazine, February 7, 2023. https://www.972mag.com/religious-jewish-left-israel/

 

Kingsley, Patrick. “Netanyahu’s Judicial Overhaul Has Divided Israel. Even the Religious Right.” The New York Times. The New York Times, February 14, 2023. https://www.nytimes.com/2023/02/14/world/middleeast/netanyahu-israel-judicial-overhaul-religion.html . Ibid.

 

 “Over Third of Israelis Fear Judicial Reform Will Lead to Civil War.” The Jerusalem Post, February 7, 2023. https://www.jpost.com/israel-news/article-730852

 

“Only 1 in 4 Israelis Want Government to Forge Ahead with Judicial Overhaul – Poll.” The Times of Israel, February 11, 2023. https://www.timesofisrael.com/poll-only-1-in-4-israelis-wants-government-to-press-ahead-with-judicial-overhaul/

تعليقات

أكتب تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *